الديمقراطية تقتضي أن نؤمن بحرية الرأي والتعبير، وأن نقتنع بأن السلطة الرابعة «سيدة الجلالة» لها حصانة وقداسة وقانون وأعراف وقيم مهنية وأخلاقية، والصحفي ليس مجرما.. وهذه أبجديات الديمقراطية والحق والقانون. لذلك فلنا خياران لا ثالث لهما، إما أننا ديمقراطيون وإما أننا ديكتاتوريون، متسلطون ومستبدون.. ليست هناك ديمقراطية إلا ربع أو إلا ثلث، أو ديمقراطي حسب توقيت كرينيتش أو حسب مزاج عربي، أو على الطريقة المغربية.. لا، مطلقا. فإما أن نكون عادلين، صادقين، متوازنين، حكماء، متعقلين، غيورين على حاضر ومستقبل هذا البلد.. وإما أن نجاهر بخطابنا الحقيقي وملامحنا المتخفية وأن نقول للعباد بصريح العبارة: لا عدل ولا قانون ولا حساب ولا عقاب ولا مساواة ولا أمل.. حينما وصلتُ إلى المحكمة حيث يقف رشيد نيني متهما، أحسست بالخيبة والمهانة، وبأننا صفقنا وفرحنا واستبشرنا خيرا ونحن نعتقد أننا عبرنا مرحلة الرعاع نحو المواطنة، وأن الربيع المغربي سيكون بلون الفل والياسمين وقطرات الندى، وأن الغد سيكون لنا وليس دائما لغيرنا.. شعرت بالغبن، لأن الكثيرين نصحوني بألا أفرح كثيرا، فكم من وعد لم يوف به.. أحسست بهزيمة لم تزُل إلا حينما التفت إلينا رشيد وابتسم.. قلت لازال شامخا وصلبا كما عهدته.. ولازالت نظراته الخجولة تتلألأ حبا للوطن. من يجب أن يقف متهما، رشيد أو من نهبوا ثروات البلاد وتركوا العباد يتسولون قوتهم اليومي.. من يجب أن يدخل «عكاشة».. رشيد أم كل من فضح اختلاساتهم المجلسُ الأعلى للحسابات؟.. من يجب أن يحاكم.. رشيد أم من يقفون حجر عثرة أمام فرحة المغاربة واستنشاقهم ريح الحرية والعدالة؟.. إنه لغز محير، وقرار غريب متسرع ومستفز لملايين المغاربة الذين ينتظرون بعد صبر طويل أن يتم إنصافهم، فإذا بهم يفاجؤون بسجن مدير الجريدة الأكثر مبيعا بالمغرب.. صاحب أشهر وألذع عمود يدمنه محبوه ومعارضوه.. إنه العبث.. إنها السخرية في أقسى تجلياتها.. إنها حرية الصحافة في دولة الحق والقانون.. إنها الأخطاء التي قد تقود البلد إلى الهاوية. محامون كثر يؤازرون رشيد، يتحدثون جيدا ويقولون كلاما عميقا مستميتين من أجل التماس السراح المؤقت له، تسللت وسطهم وكنت أبادلهم الابتسامة بغصة في الحلق وأنا أقترب كي أطمئن بنفسي على «متهم» ذنبه الوحيد «اقترافه» مقالات تفضح الفساد وتشير إليه بالبنان بجرأة وتحد وبنفس طويل لم تجهده المضايقات ولا المساومات ولا محاولات الاستمالة.. حين التفت رشيد، ابتسم.. ابتسامة نصر حاولوا إطفاءها باستجوابه ليلا لإنهاكه، وبمنع أسرته من زيارته، وبالتضييق عليه وكسر شوكته.. وبعدم منحه السراح المؤقت رغم توفر كل الضمانات ورغم جهود المحامين و«ثقتهم في العدالة». إنها مأساة مهزلة، صدمة أتت لتحطم فرحتنا بخطاب الملك، إنه تحد صارخ لكل المغاربة وضربة قذرة للصحفيين وحرية الصحافة. لقد تضامن الجميع مع رشيد، حتى من لا يتفقون مع آرائه عبروا عن دعمهم له ول«المساء» ولكل من يحب هذا الوطن ويسعى إلى فضح أعدائه.. لأن اعتقال رشيد والتعامل معه كمجرم رسالة مباشرة إلينا جميعا، رسالة قرئت على العلن بمضمون يشبه العار، رسالة كتبت بمداد الخيانة والظلم والانتهاك. إنها مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب، إنها فرصة لن تعوض.. إنها خيارات محددة، وطريق واحد مستقيم يريد أن يسلكه المغاربة.. فإما أن نكون مغاربة أحرارا، كاملي الحقوق، متساوين.. لنا الحق في «الحق».. وإما ألا نكون.