لم يلجوا معاهد التكوين أو يدرسوا علم الجيولوجيا، البديهة وحدها قادت صناعا تقليديين في ضواحي مدينة أرفود إلى استغلال محيطهم لتحويل مستحاثات يعود تاريخها إلى ملايين السنين إلى لوحات فنية وأشكال هندسية تُزيَّن بها أفخم الإقامات والفنادق في المغرب وخارجه. استطاعت أناملهم أن تحول صخورا مستحدثة إلى أشكال فنية وقطع تنوعت ألوانها، تسُرّ الناظرين، منها «ديكورات» وحلي وأثاث منزلية وغيرها من الإبداعات التي تشي بحس جمالي رفيع... يتوجه «أحمد»، يوميا، إلى جبل «ميرزان»، الذي يبعد عن مدينة أرفود بحوالي 15 كيلومترا، ممتطيا دراجته النارية، ليجلب قطعا حجرية بثمن 4 دراهم للحجارة الواحدة، ليحولها إلى قطع صغيرة يُطلَق عليها محليا اسم «تشافير»، والتي تستعمل لصنع عقد يوضع ضمن الحلي التي يتم تسويقها داخليا وخارجيا. يكدّ «أحمد»، البالغ من العمر 43 سنة، باستمرار من أجل كسب قوته وتوفير مصاريف أسرته الصغيرة، تبدو على محياه آثار العياء والتعب، فهو يجلس طيلة النهار جالسا على أسمال لا تصلح إلا لأن تكون مرمية داخل حاوية الأزبال وبنى لنفسه، مثله مثل باقي زملائه، «سقيفة» تقيه من حرارة الشمس. يقضي «أحمد» تسع ساعات من العمل ليعود إلى منزله في أحد الدوادير المحيطة بمدينة أرفود. يحكي عن بداياته في هذه «الحرفة» قائلا: «كنت راعي غنم قبل أن تستهويني هذه الحرفة فاكتريت دكانا واشتريت اللوازم وشرعت أعمل». يتحدر هذا الرجل من قرية فقيرة يعتمد سكانها على العمل كرعاة لدى بعض السكان، الذين يعتمدون على تربية المواشي وزراعة النخيل. يحكي «أحمد» عن معاناته منذ أن كان طفلا قائلا: «منذ صغري وأنا أرعى الأغنام ولا يحق لي أن أشتكي أو أقول إنني مريض أو متعب، إضافة إلى ضعف المدخول المالي الذي لا يكفي، ما دفعني إلى أن أمتهن النحت على الحجر». لوحات فنية تختلف الأشكال الهندسية حسب نوعية المستحاثات التي يمنحها الصانع التقليدي الحياة ويضفي عليها مسحة من الجمال. للأحجار ألوانها المتناسقة، إنها تراث طبيعي وذو قيمة علمية كبيرة. يتحدث لحسن تيهري، وهو تاجر في منتوجات «المستحدثات»، عن أسماء الأحجار وأنواعها، إلى درجة أنه يعلق تفاصيل أسماء المستحاثات وأنوعها وقيمتها العلمية، مصحوبة برسومات على جدار محله التجاري بعدد من اللغات، الفرنسية والإنجليزية والفرنسية. لم يدرس «لحسن» هذه المعلومات داخل إحدى الجامعات، بل قدمها له أحد العلماء الجيولوجيين الأجانب زار المنطقة وتعرّف إلى ما تزخر به من مستحاثات وحفريات تعود إلى عصور غابرة. لا يكتفي «لحسن» بالمعلومات حول الأحجار وتاريخها العريق، بل يتلقى معلومات حول المواد الكيمائية والآليات التي يجب أن تُستخدَم من أجل الحفاظ على الطابع العلمي والفني لهذه الأحجار الطبيعية. يوضح التاجر، في حديثه إلى «المساء»، كيفية تحويل مستحاثة يعود تاريخها إلى آلاف السنين إلى لوحة فنية، إذ يزيل عنها الغبار بآلية يستخدمها أطباء الأسنان ويحافظ على مظهرها ويقوم بلصق قطعها لتصبح عبارة عن لوحة فنية لا يقل ثمن بيعها عن 6000 درهم، نظرا إلى قيمتها الثقافية والعلمية. جلب المستحاثات ليس بالأمر الهين، كما قد يبدو الأمر للبعض، فهناك عمال متخصصون في ذلك، وغالبيتهم يقطنون الدواوير المحيطة بمصدر المستحاثات، والواقعة في مكان يسميه سكان المنطقة «كاريان ميرزان»، الذي يبعد عن مدينة أرفود بحوالي 15 كيلومترا. ومن العمال أيضا فئة تقطن بمدينة أرفود لكنها تقضي الأسبوع كاملا في «ميرزان» داخل «بيوت» أشبه بأكواخ طيلة الأسبوع من أجل العمل على اقتلاع الأحجار لبيعها للصناع التقليديين الذين يحولونها إلى منتوجات قابلة للتسويق. يقول لحسن: «يستوجب الأمر تقنيات ويتطلب عملا شاقا من أجل الحصول على الأحجار، غير أن ظهور أصحاب الرخص لاستغلال مقالع حجرية ضيَّق الخناق على عدد من السكان الفقراء، الذين كانوا يعتمدون في مورد عيشهم على بيع الأحجار». يتمنى «لحسن» ألا يعمل أبناؤه في هذا النوع من التجارة، لأنه يرى أنها متعِبة ولم يعد تدر مدخولا كافيا، كما كان في السابق، حيث كان عدد التجار قليلا، إضافة إلى أن التسويق الداخلي لم يعد يحقق أرباحا مُرضية. يتبنى الرأيَ نفسَه يذهب إبراهيم الطالب، وهو تاجر أحجار، إذ يرى أن السوق امتلأ عن آخره بهذه المنتوجات، والتي يقبل عليها عدد من الأجانب من مختلف البدلان، خاصة من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأمريكا. في رحم المعاناة دأب «عمر»، منذ عقدين من الزمن، على تحويل حجر «الجبص» إلى ديكورات على شكل «بيضة» بأحجام مختلفة، مستعينا بآلية كهربائية تسمى «الدينامو»، (تعمل بثلاثة خيوط)، حسب قوله، يركز كثيرا في عمله ولا يأبه بمحيطه، فكل همه هو أن يمنح الحجر الشكل الذي يريد. يضع رجليه داخل كيس بلاستيكي سميك، ليحميَّهما من الغبار المتطاير. وبين الفينة والأخرى، يعيد ربط قماش على أصبعه الذي أصيب بجروح نتيجة عدم انتباهه. يقول عمر: «أعاني معاناة حقيقية من أجل كسب الرزق، ومدخولي اليومي يتراوح ما بين 40 و50 درهما»، ليؤكد أن المستفيد الأكبر من هذا العمل هم التجار الكبار، الذين يروجون هذه المنتوجات داخل المغرب وخارجه. يكتري «عمر» دكانا ليضع فيه منتوجاته، فأحيانا يلجأ إلى اقتناء الأحجار ويحولها بنفسه ويبيعها بعد ذلك بالجملة، وفي بعض الأحيان، يعمل لحساب بعض التجار الذين يقدمون له الأحجار ويصوغها لهم، حسب رغباتهم. لم يتدرب «عمر» على يد أي شخص، بل استطاع أن يعلم نفسه بنفسه، بعدما اقتنى الآلية الكهربائية (الدينامو) وبدأ يجرب «تصنيع» حجر «الجبص»، الذي تصنع منه عدد من المنتوجات من بينها «الأباجور». وتغص محلات تجارية في مدينة أرفود بعدد من الأثاث ومستلزمات المطبخ والمنزل المصنوعة من الأحجار الطبيعية، مثل مرحاض عصري ومغسل وموائد وصحون وغيرها من الأثاث. الحاجة أم الاختراع يبذل «مْبارك» (41 سنة) قصارى جهده من أجل قطع الأحجار المستحدثة، لا تستطيع الاقتراب منها، لكثافة الغبار المتطاير من جراء عمله، يقطع الحجر الذي قال إنه يسمى «الأمونيت» ليحوله إلى شكل «أبراج» مختلفة الأحجام، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وإلى جانبه يجلس عدد من الصناع تحت سقف «أكواخهم»، منهمكين في عملهم لا يلقون بالا إلى ما يدور حولهم، جراء ضجيج آليات عملهم، التي تسبب للمحيطين بهم بعض الإزعاج. تختلف أثمنة الحجر الخام من «الأمونيت» قبل أن يتحول إلى منتوجات صناعية، فيتراوح ثمن الحجر الكبير ما بين 100و150 درهما للحجر الواحد، حسب «مْبارك»، الذي قال إن ثمن الأحجار يختلف باختلاف قيمتها العلمية، كما أن لكل صانع تقليدي حق اختيار الأشكال الهندسية التي يتقنها. وحول ما يجنيه «مبارك» من أرباح من هذا النوع من الصناعة قال، بسخرية: «كنصورو الغْبْرة»، في إشارة منه إلى حجم المعاناة التي يكابدها في عمله، ليضيف أن عدم توفره على رأسمال جعله يكتفي بالمدخول القليل، ويتأسف على وضعه المادي والاجتماعي، إذ عاش حياته يتيما، ما دفعه إلى أن يغادر فصل الدراسة ليعتمد على نفسه ولا يبقى عالة على أقاربه، الذين أحسنوا إليه منذ أن كان طفلا. يقال «الحاجة أم الاختراع»، وينطبق هذا المثل على «مبارك»، الذي لجأ إلى صنع نظارتيه من بقايا الزجاج الذي جلبه من النفايات ومنحه شكلا يناسب إطار نظارتين، ليحمي عينيه من الغبار الذي يتصاعد بفعل قطع الأحجار. يزور «مبارك» الطبيب بين الفينة والأخرى لإجراء فحوصات، لأنه يخشى من الإصابة بالحساسية، يقول: «الحمد لله، صحتي بخير، لأنني أغطي وجهي بوشاح يحمي وجهي». لا يفضل «مبارك» وضع كمامة على أنفه، لأنها تسبب له ضيقا في التنفس على عكس الوشاح.
ميدلت.. عاصمة الأحجار الكريمة تعتبر مدينة ميلدت «عاصمة» على المستوى الإفريقي في ما يتعلق بالأحجار والبلورات، إلى درجة أن العديد من الأوربيين المهتمين بالمجال لا يعرفون سوى مدينة ميدلت في المغرب. يقول أحد تجار الأحجار الكريمة إن هناك من يشارك في بورصات عالمية في هذا النوع من التجارة الذي يذر أرباحا مرتفعة على أصحابه، ومن بين الأحجار التي تعتبر ذات قيمة غالية حجر «الفانادينيت»، والذي يغري عددا من المواطنين من أجل البحث عنه، بل هناك من يؤدي أتعاب عدد من الناس مقابل التفرغ للبحث عن هذا النوع من الحجر. يحفظ الحسين بوخدو، بائع الأحجار المعدنية، أشكال ومميزات الأحجار ولا يدخر جهدا لمعرفة أنواع النيازك، فهو يتواصل مع باحث في وكالة «نازا» لمعرفة أشكال النيازك ويقول إنه يعرف شخصا عثر على نيزك فضائي وباعه ب14 مليون سنتيم... يحكي هذا الشاب الجامعي، الذي يقطن في «بني تجيت»، التابعة لإقليم فكيك، أن سوق الأحجار، باختلاف أشكالها، مزدهر في المناطق الشرقية، وهناك من يأتي إلى المنطقة ويربط الاتصال مباشرة بالرعاة من أجل شرائها. ويرى بوخدو أن الواقع يتطلب تأسيس جمعية لحماية هذه الثروة و»تخليد» أسماء الرعاة من خلال تسمية النيزك باسم الراعي الذي عثر عليه. «للأحجار مكانة خاصة لدى بعض الأوربيين، لأن هناك من يعتقد أنها تحمي من «العين» ومن السحر وهناك من يستخدمها لإجراء الأبحاث العلمية»، يقول بوخدو، مضيفا أن هذه النيازك يتم تهريبها وليس هناك مختصون في الجمارك لمعرفتها وتحديد قيمتها العلمية ويحكي مولاي الشريف شاكري قصة عثور أحدهم على حجر منذ خمس سنوات في منطقة «الظهرة» في تالسينت، يزن حوالي 20 كيوغراما، واقتطع منه جزءا يزن حوالي 150غراما وتقاضى مقابله حوالي 6000 درهم ووعد بالإتيان بالباقي، غير أنه بعد تناهي الخبر إلى علم السلطات المحلية، قامت بحجز ما عثر عليه ذلك الشخص وسلمته لوزارة الطاقة والمعادن. ويؤكد شاكري أن للنيازك الفضائية العديد من المواصفات التي تَمكَّن من معرفتها جيدا، ومنها النيزك العادي والحديدي والقمري ونيبزك مارس.. . يعمل شاكري تاجرا في الأحجار والبلورات ويقترح أن يقام متحف في المنقطة، في أفق تشجيع الذين يقدمون ما عثروا عليه للدولة، تفاديا للتهريب، الذي تعرفه عدد من النفائس. ويعتبر المغرب من بين البلدان التي تحتوي على نيازك فضائية، فقد سبق أن أعلن فريق من العلماء اليابانيين والفرنسيين والبريطانيين أن خمسة أحجار نيزكية عُثِر عليها في صحراء المغرب مصدرها بالفعل هو كوكب المريخ. وقد أعلنت وسائل إعلام، حينها، أنه عثر على نيازك سنة 2001، لكن الإعلان عن مصدرها (المريخ) لم يتم إلا سنة 2005، في العاصمة اليابانية بعد التأكد من نتائج تحاليل علمية دقيقة لمكوناتها، ويتعلق الأمر ب»حجر نادر»، على اعتبار أن العدد الإجمالي للنيازك المعروفة لدى العلماء يقدر بنحو 25 ألفا، في حين أن عدد النيازك التي مصدرها المريخ منها لا يتعدى 30 . وتزن الأحجار النيزكية الخمسة 611 غراما في المجمل، بينما يبلغ حجم أكبرها 8 سنتيمترات. ويفترض أن انهيار نيزك ضخم تسبب في اقتلاعها من المريخ وانتشار شظاياها في الفضاء.