تنبأ الرجل القوي في عهد الحسن الثاني إدريس البصري بمسار صديق ولي العهد آنذاك, وموهبته في ميدان الاستخبارات .. فكان أول من أشرف على تكوين ياسين المنصوري في دواليب وزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية هو علابوش مدير « الديستي « الأسبق . بعد ذالك سيقتنع والد الملك محمد السادس بمؤهلات صديق ولي العهد وسيقرر إرساله إلى الولاياتالمتحدة لإجراء تدريب في مكتب التحقيقات الفدرالي. أما بعد جلوس محمد السادس على العرش, فكانت أول مهمة مصيرية سيتكلف بها ابن أبى الجعد هي إعداد تقرير حول أحداث العيون التي قلبت خريطة الأجهزة الأمنية بالمملكة .. ومن إدارته لوكالة المغرب العربي للأنباء , مرورا بمديرية الشؤون الداخلية بوزارة الداخلية , أصبح رجل ثقة ملك البلاد مؤهلا ليصبح أول مدني يعين على رأس جهاز الاستخبارات الخارجي الذي تأسس في رحم وزارة الدفاع سنة 1973 . لا يمكن حصر ملامح شخصية مدير «لادجيد»، وطبيعة الملفات التي يشرف على تدبيرها في التراتبية الإدارية التي تكرس وضعه في هذا الجهاز الأمني الحساس دون الرجوع، حسب أحد أصدقائه، إلى تجربته التي خاضها في مرافق وزارة الداخلية وأبان خلالها عن كفاءات قيادية دون أن ينس للحظة واحدة أنه في خدمة صديقه الملك. ولد المنصوري، 46 سنة، وفي فمه ملعقة من فضة ونجح في تسلق المناصب بهدوء وصبر. «مازلت أتذكره، يقول أحد معارف المنصوري في سنوات التسعينيات، عندما كان يعمل في ديوان وزير الداخلية السابق ادريس البصري، لقد كان خجولا وقليل الكلام لكنه كان يجيد فن الإنصات للآخر مما دفع زملاؤه إلى وصفه «بالماء» لأنه يعطي الانطباع أنه بدون لون وبدون رائحة لكن وجوده ضروري وحيوي وفعال مع مرور الوقت». ابن الفقيه والد المنصوري، القاضي عبد الرحمان المنصوري، هو مثله الأعلى في الحياة. ينحدر هذا العالم من «بزو» واسمه معروف في أوساط المقاومة بتادلة والشاوية. يتقاسم الابن مع والده العديد من الصفات: حب التنقيب، الصرامة الأخلاقية ومرونته في ربط العلاقات مع الآخرين. خلال طفولته التي قضاها في أبي الجعد مسقط رأسه وقبل التحاقه بالمدرسة المولوية، تمكن الطفل ياسين من حفظ القرآن، وحرص على ألا تفوته فريضة الصلاة في وقتها إلى جانب قراءته كل الكتب التي يجدها بين يديه بفضل معرفته لأصدقاء والده. قبل أن يصبح على رأس المديرية العامة للدراسات والمستندات، رافق ياسين المنصوري في صغره أسماء تولت فيما بعد مراكز المسؤولية في النهج الديمقراطي والجمعية المغربية لحقوق الانسان والحزب الاشتراكي الموحد والكونفيدرالية الديمقراطية للشغل. «يمكنك أن تجد كل شيء في أبي الجعد، من قدماء المقاومة وجيش التحرير إلى الاشتراكيين التقدميين أو علماء الدين. لقد ترعرع المنصوري داخل هذه البيئة واندمج داخلها ويرجع الفضل في ذلك إلى تفانيه في العمل وشهرة والده. بعيدا عن عيون الإعلام، تعرف ابن أبي الجعد على أشخاص ذوي توجهات معارضة: محمد بنسعيد أحد مؤسسي اليسار المغربي ،والفقيه البصري أبرز معارضي الحسن الثاني والذي ينحدر بدوره من مسقط رأس المنصوري. وهو ما يفسر حضور فسيفساء الطبقة السياسية المغربية سنة 2004 لجنازة والد المنصوري عندما كان هذا الأخير يعمل بوزارة الداخلية. يتذكر مصدر حضر تلك الجنازة قائلا:»لقد حضر الجميع تقريبا، وحضر ممثلوا الطبقة السياسية بكافة أطيافها من اليمين إلى اليسار بل وحتى الاسلاميين لحضور مراسيم الدفن رغم أن المنصوري وقتها لم يكن سوى الرجل الثالث في الداخلية بعد مصطفى الساهل وفؤاد عالي الهمة». يؤكد البعض أن المنصوري لم يكن ما هو عليه الآن لولا مروره بالمدرسة المولوية التي يتم فيها اختيار أصدقاء الملك حسب نسبهم العائلي وقدراتهم الذاتية. كاتم الأسرار مرت سنوات الدراسة بسلام داخل القصر. كان متدينا ومحافظا بعيدا عن اللهو والصخب لكنه في نفس الوقت كان كاتما للأسرار وذا قدرة على الإنصات للآخر جعله قريبا من ولي العهد. بعد حصوله على العديد من الشهادات الجامعية العليا في القانون، اختار المنصوري الالتحاق بوزارة الداخلية والإعلام التي كانت في يد ادريس البصري.» قدماء أصدقاء الملك في المدرسة المولوية لم يختاروا بالضرورة وزارة الداخلية، أغلبهم فضل الديبلوماسية أو القطاع الخاص» يوضح أحد المراقبين. أعطى الشاب المنصوري الذي كان يبلغ وقتها 25 سنة الانطباع على أنه مهيأ للعمل مع الدولة بعد أن لفت الأنظار إلى رصانته وتكتمه وقدرته الجيدة على العمل في كل الظروف. تقاسم البصري مع مساعديه نفس الانطباع عن صديق ولي العهد ليقرر بسرعة نقله للعمل في ديوانه، لينجح في الترقي ويصبح في بداية التسعينات أحد أبرز خريجي المدرسة المولوية. تلميذ علابوش يتذكر إطار في وزارة الداخلية تلك المرحلة قائلا:»عندما حل بالوزارة، تم وضع المنصوري تحت وصاية بنحربيط وعلابوش أهم رجال الاستعلامات والأمن في المغرب». تكلف علابوش شخصيا، بتوصية من البصري، بتلقين المنصوري أبجديات ميدان الاستعلامات. لم يكن رجل الحسن الثاني القوي يتأخر في مجاملة أصدقاء الأمير، رغم أنه لم يكن متحمسا في البداية للمنصوري أو»ابن البلد» كما يحلو له مناداته رغم أنه ليس ابن أبي الجعد الذي تم إدخاله إلى دائرة المقربين من القصر. عندما طلب الحسن الثاني من ادريس البصري سنة 1992 أن رأيه حول»الشاب ياسين»، لم يتردد الوزير في رسم بورتريه «ساطع» لتلميذه مثنيا على استعداده للعمل في مجال الاستعلامات، وهو ما شجع الملك على إرسال المنصوري لدورة تكوينية بأمريكا في مكتب التحقيقات الفيدرالي(اف.بي.آي) لإعداد ابن أبي الجعد لمهام أكثر أهمية مستقبلا. في سن الثلاثين، دخل ابن القاضي عبد الرحمان وشقيق ناشط في الحركة الماركسية إلى الأمام إلى بشكل رسمي للعمل مع القصر.. عرفت علاقة المنصوري توترا أشبه بالقطيعة من 1997 وحتى وصول محمد السادس إلى الحكم سنة 1999. «لقد كانت مرحلة شابها الشك والتردد»يحكي أحد المقربين من المنصوري، ويتابع:»ارتبط المنصوري بأسرته كثيرا وانحصرت دائرة أصدقائه في عدد قليل منهم. كان يطرح، مثل غيره، السؤال عن مصير المغرب بعد رحيل الحسن الثاني». تقرير أحداث العيون بعد اعتلاء محمد السادس العرش في يوليوز 1999، تردد لفترة من الوقت قبل أن يبادر إلى المناداة على أصدقاء الدراسة القدماء بعد أن عجلت أحداث العيون باتخاذ ذاك القرار . اندلعت أعمال الشغب بالمدينة في شتنبر 1999 بشكل عنيف دفعت شهرا بعد ذلك ناشطين من «البوليساريو» إلى السفر للرباط والاحتجاج رسميا أمام القصر الملكي. احتج المتظاهرون في العيون والرباط ضد الممارسات القمعية لادريس البصري، وفي الكواليس، انتقدت أصوات السلبية التي تعامل بها وزير الداخلية مع الاحتجاجات الغاضبة للصحراويين. تلقى الملك الشاب أصداء ما جرى حول الأوضاع غير المطمئنة للمدينة، خاصة بعد أن تم رفع شعارات كان أكثرها إثارة:»موت موت أ لعدو، الملك مات وخلا ولدو !» لم يتردد محمد السادس في التحرك وكلف ياسين المنصوري بإعداد تقرير عن أحداث العيون الذي لم يكن في صالح البصري وذراعه الأيمن علابوش واللذين يعرفهما المنصوري جيدا، ليقوم بعدها الملك، بفارق أسابيع فقط، على شكر البصري وعلابوش على «المجهودات التي قاما بها من أجل المملكة» وليغادرا الداخلية من بوابتها الخلفية. وعلى غرار فؤاد عالي الهمة وحسن أوريد بدأ نجم المنصوري في الصعود، ليتم تعيينه في 16 نونبر 1999 أسبوعا بعد إقالة ادريس البصري على رأس الإدارة العامة لوكالة المغرب العربي للأنباء. بصمات «لاماب» لم يتأخر ظهور «منهجية المنصوري» في العمل بوكالة الصحافة الرسمية باعتماد أسلوب التكتم والإقناع بعيدا عن المواجهة المباشرة. «بعد مجيء المنصوري، كنا ننتظر رحيل بعد الأسماء من مناصبها، لكن ذلك لم يحدث» يقول أحد قدماء الموظفين بلاماب. أعاد المدير الجديد هيكلة المديريات وخلق توافقات بين الموظفين بعد أن أعاد توزيع المهام بينهم، كما أنه حافظ على الطابع الرسمي للخط التحريري للوكالة بتطبيق القاعدة الخاصة بالتسيير: «الموظف الإداري الجيد هو الذي يملك القدرة على جعل الآخرين يعملون إلى جانبه». كان الهدف من هذه المنهجية هو تصحيح صورة الوكالة وأساليب عملها دون المساس بتوجهاتها العامة. أعاد تنظيم المكاتب الدولية وشبكة الأخبار السرية التي أصبحت في يد المدير وحده..بالموازاة مع عمله في الوكالة وجمعه للمعلومات مهما بلغت أهميتها، طور المنصوري شبكته «الديبلوماسية» التي عكست الجانب التواصلي في شخصيته: فقد ربط علاقات جيدة مع نقابة الصحافة، وانتظم في حضور حفلات الاستقبال التي تنظمها السفارات إضافة إلى ربطه مواعيد مع فاعلين سياسيين واقتصاديين سواء داخل المغرب أو خارجه. رغم طبيعة عمل لاماب التي كانت «تخنق» المعلومة، فإن المنصوري نجح في الاستفادة منها لحسابه الخاص. انتخابات ما بعد 16 ماي في مارس 2003، سيقدم محمد السادس على تعيين المنصوري على رأس المديرية العامة للشؤون الداخلية أحد أهم مديريات وزارة الداخلية. لم يكن توقيت التعيين وليد الصدفة، إذ تم إسناد مهمة التحضير للانتخابات الجماعية التي كانت تعد أول استحقاق انتخابي شعبي بعد تفجيرات 16 ماي. تعرف المنصوري في منصبه الجديد على آليات عمل الشؤون الداخلية للمملكة، وساهم في وضع لوائح العمال والولاة واقتراحها على الملك وأصبح قناة رئيسية يصدر الدوريات التي تنظم عمل القياد والشيوخ وأعاد ربط العلاقة مع الأحزاب السياسية من أجل التحضير للانتخابات. نسج ياسين المنصوري علاقات متينة في الصحراء وقام بثورة شخصية صغيرة عين على إثرها عددا من الأطر المعروفين بتعاطفهم مع البوليساريو، وهو ما يفسره أحد مساعديه قائلا:»لقد درس الأمر جيدا، باستعادة أولئك الأشخاص دافع عن فكرة خلق روابط غير رسمية مع جبهة البوليساريو للحصول على معلومات تخص التنظيم الانفصالي، ولقد حصل على الضوء الأخضر من الملك من أجل ذلك». على المستوى السياسي أصبح المنصوري «المفاوض» الأول للدولة مع الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية، حيث مرر الاعتراف الرسمي للدولة على إحداث حزب النهج الديمقراطي مستفيدا من معرفته لزعماءه. انضافت مهمة السماح أو رفض تنظيم الوقفات الاحتجاجية ومسيرات التضامن الخاصة بحقوق الانسان، كما أنه شارك في خلق هيئة الإنصاف والمصالحة والمفاوضات التي بين المغرب وأوروبا الخاصة بالصيد البحري ومحاربة المخدرات والهجرة السرية. لم تقف حدود اختصاصاته عند هذا الحد، إذ امتد نفوذه إلى القنوات التلفزية التي تعرف على مفاتيحها عندما كان مديرا للاماب عين فيها خلال عهده محمد خباشي مديرا لمكتب الوكالة بنواكشوط، مما يعكس أهمية العاصمة الموريتانية في عيون الجهات العليا بالمملكة. قبل تعيينه على رأس «لادجيد»، لم يخفى على المتتبعين أنه لن يظل في نفس المنصب بالنظر إلى الثقة التي وضعها فيه الملك وإشرافه على كل الملفات الساخنة. مدني على رأس المخابرات العسكرية في فبراير 2005، تم تعيين ياسين المنصوري على رأس الإدارة العامة للدراسات والمستندات «لادجيد». إنه مدني، لا يشرب ولا يدخن بعث رسائل على رغبة الملك في تغيير جهاز أمني يعد مفتاحا مهما لحياة المملكة كرست صورة العهد الجديد. يحكي أحد السياسيين حضر مراسيم تبادل السلط بين المنصوري وسلفه الجنرال أحمد الحرشي عما حصل قائلا:»عندما تم استدعاؤه إلى القصر، لم يكن الحرشي على علم بما كان ينتظره عكس باقي الحاضرين إذ قام مستشارو الملك بصياغة البلاغ على عجل». بعد انتهاء المراسيم، غادر الحرشي القصر مسرعا وانتزع الوسام من صدره ورمى به داخل سيارته وغادر المكان. اندمج المنصوري بسرعة في الجهاز الاستعلاماتي وفرض وجهات نظره وتحليلاته للقضايا وانفتاحه على العالم الخارجي، لكنه بالمقابل حافظ على مسؤول عسكري في قسم «العمليات» ولم يغير سيارة الميرسيديس القديمة الخاصة بالمدير السابق في وقت انتظر فيه البعض أن يقتني سيارة BMW على غرار أصدقاء الملك. وعكس سابقيه، حافظ المنصوري على صورته كشخصية عمومية إذ شارك في المسيرات التضامنية الخاصة بفلسطين والعراق وحضر جنازة عبد الله إبراهيم المؤسس التاريخي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وصرح أحد الشهود الذين حضروا الجنازة:»في ذلك اليوم، ظل المنصوري صامتا فيما تحدث الفاعلون السياسيون الحاضرون خاصة الوزير الأول ادريس جطو والمستشار الملكي محمد معتصم». لم تتأخر بصمة المنصوري في الظهور إذ قاد حملة لتشبيب الأطر العاملة بلادجيد وفتح فرع للمديرية بسويسرا بمراقبة الصندوق الأسود لرؤوس الأموال وتتبع الاستثمارات الأجنبية..ويبقى رهان المنصوري منصبا على قدرته على تدبير ملفات ساخنة(الصحراء، الإرهاب..) وحدود استمرار ثقة الملك به..