في نهاية السبعينات، بعث الملك الراحل الحسن الثاني لجنة تشرف عليها وزارة التربية الوطنية آنذاك، لتجول مختلف مناطق المغرب بحثا عن تلاميذ نجباء متفوقين في دراستهم، ليدرسوا مع ولي العهد سيدي محمد في المعهد المولوي بالرباط. كانت فكرة الحسن الثاني هي أنه يجب أن يتعرف ولي العهد على مغاربة من مختلف مناطق المغرب، وفي نفس الوقت تهييء أطر وتأهيلها للحكم إلى جانبه في المستقبل. حلت اللجنة بمنطقة الرحامنة، وقامت بالتحريات في مختلف المدارس، فوقع الاختيار على التلميذ فؤاد عالي الهمة، ابن أسرة بسيطة يعولها معلم يدرس مادة اللغة العربية. كان هذا الاختيار حدثا كبيرا قلب حياة الهمة وأسرته، لكنه تزامن مع حدث مازال الهمة نفسه يتذكره، حين قال في إحدى خطبه مؤخرا في مدينة خنيفرة إن وكيل الملك سبق أن استمع إليه لمدة ساعتين حين كان طالبا في قضية تتعلق بمحاولة إحراق الحي الجامعي».. ورغم أن الهمة لم يقدم تفاصيل أخرى، إلا أن معطيات استقتها «المساء» من مصادر مقربة منه تفيد بأن الأمر يتعلق بأحداث وقعت في الثانوية التي كان يدرس بها الهمة بقلعة السراغنة، حيث كانت هناك مظاهرة قام بها التلاميذ أدت إلى إحراق الحي الذي يقطنه التلاميذ الذين يدرسون في الداخلية التابعة للمدرسة، فتم اعتقال الهمة رفقة عدد من زملائه وتقديمهم أمام وكيل الملك الذي حقق معهم. خلف اعتقال الهمة قلقا كبيرا لدى والده، ولم تقم السلطات بإطلاق سراحه إلا بعدما وقع الأب على التزام بأن ابنه لن يعود إلى ما فعله. ولم تمر مدة طويلة على هذا الحادث حتى توصل والد الهمة باستدعاء سلمه له أحد رجال القوات المساعدة بأنه يجب أن يحضر مرفوقا بابنه للقاء العامل بمقر العمالة. كانت صدمة الأب كبيرة لأنه اعتقد أنه ستتم متابعة ابنه من جديد من طرف السلطات، فأخذ بيد ابنه وجره إلى لقاء العامل وهو يتوقع الأسوأ، وطوال الطريق تعرض الهمة للضرب من قبل الوالد الخائف على مستقبل ابنه، إلا أن عامل الإقليم اكتفى بإخباره بأن عليه أن يسافر مع ابنه إلى الرباط للقاء وزير التربية الوطنية آنذاك عز الدين العراقي، دون أن يشرح له ما يجري، فزادت شكوك الأب في أن قضية تورط ابنه في إحراق الحي الذي يقطنه الطلبة وراء هذا الاستدعاء، فزاد غضبه على ابنه، وسافر معه إلى الرباط، حيث بقي هناك ثلاثة أيام وأعصابه مشدودة دون أن يستقبلهما الوزير، وفي الأخير أتيحت لهما فرصة لقاء الوزير، الذي فاجأ الأب بأن هنأه بأنه وقع الاختيار على ابنه ليدرس مع ولي العهد في المعهد المولوي، فتنفس الصعداء وتحول الكابوس الذي عاشه إلى فرح عارم. هكذا انتقل الهمة، ذو الأصل الصحراوي والمزداد سنة 1962 في منطقة الرحامنة، من الحياة في منطقة فقيرة ومهمشة، إلى العيش بالقرب من ولي العهد، والدراسة في المعهد المولوي، وبسرعة أصبح من أقرب زملائه، إلى جانب كل من ياسين المنصوري، ومنير الشرايبي، وحسن أوريد، وفاضل بنيعيش.. استكمل الهمة دراسته سنة 1986 بحصوله على الإجازة في القانون من جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم على دبلوم عال في العلوم السياسية، ودبلوم آخر في العلوم الإدارية سنتي 1988 و1989، لكنه خلال فترة دراسته ارتأى الراحل الحسن الثاني أن يخضع الهمة لتدريب في وزارة الداخلية رفقة ياسين المنصوري (مدير المخابرات الحالي)، فقضيا أربع سنوات متدربين في ديوان البصري ما بين 1986 و1990. كان البصري ينظر إليهما بارتياب كبير لأنهما صديقان لولي العهد الذي لم تكن علاقته به على ما يرام، ولذلك لم يكن يتيح لهما الفرصة لمعرفة كيف تجري الأمور في الداخلية، وقد أسر البصري لأحد الصحافيين بعد إقالته بأن عالي الهمة كان يأتي إلى ديوانه فقط من أجل قراءة الجرائد، وفي كثير من الأحيان لم يكن يلتزم بالحضور، بل كان يتهمه بأنه كان يتجسس عليه لفائدة ولي العهد. بداية نشاطه السياسي بعد انتهاء فترة تدريبه في الداخلية، كان لابد أن ينتقل إلى الميدان، حيث سيخوض لأول مرة غمار الانتخابات في بلدية بن كرير سنة 1992، ورغم أنه لا تتوفر معطيات دقيقة حول ملابسات قرار ترشحه، إلا أن إدريس البصري لم يخف في تصريحاته أنه كان وراء فوزه في الانتخابات. في تلك الفترة لم يكن سهلا تنحية أحد أعيان منطقة الرحامنة المعروفين والذي هيمن على تسيير مختلف المجالس مدة طويلة، ويتعلق الأمر بكبور الشعيبي، وابنه عبد الغفار الشعيبي، من حزب الحركة الشعبية اللذين كانا «يعرفان كيف يستميلان أصوات الساكنة بالتساهل في تراخيص البناء، والتغاضي عن البناء العشوائي، واستعمال مختلف الوسائل للفوز في الانتخابات»، يقول أحد المتتبعين للشأن المحلي بالمدينة، مضيفا: «لم يكن أحد من المرشحين يستطيع هزم الشعيبي، وعندما جاء الهمة، كان الجميع يعرف أنه صديق ولي العهد، ولكن لم تكن له الدعاية التي تحققت له في 2007». ومن غريب الصدف أن عبد الجليل فتحي أحد أبناء المنطقة، الذي اختاره الهمة ليقود حملته الانتخابية آنذاك، أصبح فيما بعد كاتبا محليا لحزب العدالة والتنمية ببن كرير، وكان مرشحا منافسا له في انتخابات 7 شتنبر الماضية، بل أصدر ضده بيانا يتهم فيه السلطات بدعمه. فاز الهمة بمنصب مستشار في الجماعة بعدما ترشح مستقلا، لكنه فجأة حظي بإجماع مختلف الأحزاب، بما فيها الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، وصعد إلى رئاسة البلدية، وهو ما لم يستسغه الشعيبي الذي بقي يحيك له المؤامرات، قبل أن يسقطه بعد أربع سنوات من رئاسة البلدية. لكن رد الهمة لم يتأخر، فقد تم تحريك متابعة ضد عبد الغفار الشعيبي بتهمة التزوير، ورغم أنه كان برلمانيا، فقد تم إيداعه السجن. وفي سنة 1995، ترشح الهمة لأول مرة للانتخابات البرلمانية بصفته مستقلا قبل أن يتم «فرضه» على حزب الاتحاد الدستوري، يقول قيادي سابق في هذا الحزب: «لم يكن الهمة عضوا في الاتحاد قبل الانتخابات، وعندما ترشح بدعم من الدولة وفاز بمقعد برلماني، تم الاتصال بنا من جهات عليا، وقيل لنا ما مفاده أن الهمة سيكون محسوبا عليكم». وخلال ولايته البرلمانية، لم يسبق للهمة أن ألقى سؤالا على الحكومة، أو دخل في نقاش سياسي علني، «كان لا يجلس في المقاعد المخصصة لفريق الاتحاد الدستوري، بل يصعد إلى مقعد في أعلى قاعة الجلسات بمجلس النواب ويتابع وينصت لما يجري دون أي رد فعل»، يقول قيادي الاتحاد الدستوري مضيفا: «لم يكن الهمة يحضر معنا اجتماعات الفريق ولا يشارك في أنشطة الحزب، بل كان فقط يأتي إلى إدارة الفريق البرلماني لاستلام ما وصله من البريد، وقد كنا نعرف أنه صديق ولي العهد ونتركه وشأنه». وحول كون الهمة ينفي أنه كان عضوا في أي حزب سياسي، يرد نفس المصدر قائلا: «وزارة الداخلية في عهد إدريس البصري كانت تعده برلمانيا من حزبنا، وكانت تحتسبه معنا عندما كان يقدم لنا الدعم المالي المخصص للأحزاب». في بداية التسعينات، كان حزب الاتحاد الدستوري من أهم أحزاب إدريس البصري، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، لكن عالي الهمة احتاط كثيرا في نسج علاقات مع أعضاء هذا الحزب، ربما لأنه كان يتحفظ على العلاقة مع البصري بحكم عدم التفاهم الذي كان سائدا بين صديقه ولي العهد وأقوى وزير في حكومة الحسن الثاني. «كان يكتفي بالسلام على الجميع، وكان كثيرا ما يتحدث مع برلمانيين اثنين من الحزب هما علي بلحاج (أسس فيما بعد حزب رابطة الحريات)، وعبد الله بلقزيز (سفير المغرب حاليا بالجزائر). وفي سنة 1997، عين الحسن الثاني فؤاد عالي الهمة مديرا لديوان ولي العهد، ويذكر كثير من الشباب المعروفين باسم «السمايرية» الذين كانوا يترصدون تنقلات ولي العهد آنذاك للحصول على بعض المنافع، أنه عندما كان ولي العهد سيدي محمد يستقبلهم في قصره في سلا، كان الهمة هو من ينظم الدخول على ولي العهد، وكان أحيانا يلقط صورا لولي العهد رفقة هؤلاء «السمايرية» نزولا عند رغبتهم، وقد بقي الهمة في هذا المنصب إلى أن أصبح ولي العهد ملكا سنة 1999. صعود نجم الهمة طفا اسم فؤاد عالي الهمة على السطح شهورا قبل وفاة الحسن الثاني، حيث بدأت الطبقة السياسية تتحدث عن فاعل جديد مقرب من القصر يجري اتصالات هنا وهناك، لتهييء المناخ للملك الجديد. بدأ الهمة يجري الاتصالات السياسية الأولى مع مختلف الفاعلين السياسيين من أجل طي صفحات الماضي، والتشاور حول الإصلاحات التي ينبغي أن ينهجها المغرب. كان ولي العهد آنذاك يدرك أن والده الحسن الثاني يعيش لحظاته الأخيرة، فبدأ يعد العدة لمعرفة كيفية تدبير البلاد في حالة وفاته، فلجأ إلى أقرب الناس إليه فؤاد عالي الهمة. كان خالد الجامعي الصحافي والقيادي سابقا في حزب الاستقلال، من أوائل من اتصل بهم الهمة قبيل وفاة الحسن الثاني، وهو يروي بعض التفاصيل من هذا اللقاءات قائلا: «لم أكن أعرفه من قبل إلا بالاسم، قبل أن تتصل بي سميرة سيطايل التي كانت صحافية في القناة الثانية وأخبرتني بأن الهمة يريد مقابلتي»، وبسرعة نظم اللقاء في منزل سيطايل التي تركت الهمة والجامعي رأسا لرأس، يقول الجامعي: «فهمت أن لقائي بالهمة لم يكن بمبادرة شخصية منه إنما كان بتعليمات من ولي العهد، وأنه كان يريد أن يتعرف على مواقفي من الشأن السياسي في المغرب، وقد لاحظت أن الرجل لم يكن يتكلم كثيرا وكان ينصت بإمعان». يقول الجامعي: «قلت للهمة إنه لكي يكون للنقاش جدوى فإنه يجب الإقرار، ونحن نتحدث عن السياسة والحكم، بأن عهد الحسن الثاني وصل إلى نهايته بسبب مرض الملك، وأننا دخلنا حقبة ما بعد الحسن الثاني»، إلا أن «الهمة لم يكن معتادا على هذا الخطاب»، فقاطع الجامعي قائلا: «الله يطول في عمر سيدي»، ووجه الجامعي نصائح إلى الهمة بكون موت الحسن الثاني يمكن أن يعلن في أي لحظة، وأنه على العهد الجديد أن يستعد لتسيير البلاد بتصور واضح، «قلت له عليكم أن تحدثوا قطيعة مع حكم الحسن الثاني خلال الستة أشهر الأولى من حكم محمد السادس، وإذا لم يحدث هذا فإنكم ستكونون رهينة لرجالات الحسن الثاني». وخلال اللقاء الذي دام قرابة ثلاث ساعات، تم الحديث أيضا عن تعديل الدستور، وضمان الحريات واستقلال القضاء، وسأل عن تصور العهد الجديد لقضايا الاقتصاد والمجتمع، يقول الجامعي: «تبين لي أنهم لم يفكروا في هذه الأمور بكيفية دقيقة، فكل ما قلته له كان يخيفه، لأنه لم يكن معتادا على مثل هذا النقاش»، لكن ما عدا ذلك فقد بدا الهمة مهذبا وظريفا، لكنه كان يعطي الانطباع بأن فريق الملك الجديد لم يكن مهيئا للحكم، وقد ظهر ذلك فيما بعد، حيث لم يقع أي تغيير كبير في الأشخاص في رأس الهرم». وبعد وفاة الحسن الثاني، استمرت اتصالات عالي الهمة مع الجامعي لكن بشكل متقطع، يقول الجامعي: «كنت أومن بأنه يجب إعطاء الفرصة لمحمد السادس، وأن يتجند الجميع لخدمة ما سمي ب«العهد الجديد»، ولذلك اقترحت على الهمة في أحد اللقاءات أن يتصل بمجموعة من المناضلين اليساريين من أجل التباحث معهم وتبادل الآراء، وقد كنت أريد من وراء هذا الاقتراح أن يتعرف الملك الجديد على جيل لم يكن يعرف حقيقته من قبل، جيل ألصقت به جميع التهم، مثل المتطرفين والعدميين»، وقد تبين أن هؤلاء اليساريين لم يكونوا ضد هذه الفكرة. حضر الجامعي أول لقاء جمع بين كل من فؤاد عالي الهمة والراحل إدريس بنزكري، وعقد اللقاء في بيت الهمة في السويسي بحضور محمد مجيد رئيس جامعة كرة المضرب، وتمحور اللقاء حول الصيغ الممكنة لطي صفحات الماضي، وكان من ضمن الاقتراحات التي قدمت، تشكيل «لجنة لتقصي الحقيقة» يرأسها المحامي عبد الرحيم الجامعي، لكن هذا الاقتراح رفضه الهمة، ويؤكد الجامعي أنه خلال هذه الفترة «كان الحكام الجدد بدون تجربة، لكنهم كانوا يرغبون في طي صفحة الماضي دون أن يمتلكوا تصورا واضحا لكيفية حل المشكل». وبعد ذلك، عقد لقاء آخر موسع حضره كل من خالد الجامعي وصلاح الوديع وخديجة الرويسي وإدريس بنزكري في بيت عالي الهمة في السويسي، حيث جرت متابعة الحوار حول طريقة طي صفحة الماضي. يقول الجامعي: «لم ينتهز بنزكري فرصة عدم وضوح الرؤية لدى العهد الجديد ليضع تصورا واضحا لكيفية طي صفحة الماضي، إلا أنني علمت فيما بعد أن الاتصالات بين الهمة وبنزكري والوديع تواصلت فيما بعد في غيابي، وأثمرت لقاءاتهم إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة. الهمة وزيرا منتدبا في الداخلية لم تمض إلا شهور على تولي الملك محمد السادس للعرش، حتى أقال إدريس البصري الرجل القوي في عهد والده، والذي كانت علاقته به عندما كان وليا للعهد متوترة، وعين مكانه أحمد الميداوي (الرئيس الحالي للمجلس الأعلى للحسابات)، وتوالت بعد ذلك التغييرات في صفوف وزراء الداخلية، من إدريس جطو إلى مصطفى الساهل إلى شكيب بنموسى. وخلال هذه التغييرات، كان الهمة، الذي عينه الملك سنة 1999، كاتبا للدولة في الداخلية، باقيا في منصبه رغم تغيير الوزراء، وأوكلت إليه مهمة تدبير الأمور الأمنية والعلاقة مع الأحزاب، حيث بقي في منصبه ماسكا بدواليب الداخلية، قبل أن يرتقي في شتنبر سنة 2000 إلى منصب وزير منتدب في الداخلية. كان شائعا لدى الطبقة السياسية أن «الهمة هو وزير الداخلية الفعلي»، وأن الآخرين هم مجرد واجهة. وحسب مصدر مطلع، فإن «الهمة لم يكن مستعدا نفسيا للبروز في الواجهة، خاصة أنه لم يكن معتادا على المناصب التي تسلط فيها عليه الأضواء»، لكن دوره بدأ يتضح أكثر في سياسته في المجال الأمني، وتجاه ضبط الإسلاميين. الهمة والإسلاميون لعب فؤاد عالي الهمة دورا كبيرا في الضغط على حزب العدالة والتنمية سنتي 2002 و2003 من أجل تقليص مشاركته في الانتخابات البرلمانية والجماعية، كانت تلك أول انتخابات في عهد الملك محمد السادس، حيث إن كل مؤشرات والاستطلاعات التي قامت بها الداخلية كانت تشير إلى احتمال اكتساح الحزب لعدد من الدوائر. وأمام هذا الوضع، كان العهد الجديد أمام خيارين كلاهما مر، إما أن يضحي بنزاهة الانتخابات لقطع الطريق على الحزب الإسلامي، وهو خيار من شأنه أن يعطي الانطباع بأن العهد الجديد لم يقطع مع سياسة تزوير الانتخابات، أو الضغط على حزب العدالة والتنمية لتقليص مشاركته، وهو خيار يكرس التدخل في شؤون الأحزاب، والمس بالتالي بالديمقراطية، وقد تم اللجوء إلى الاختيار الثاني، باعتباره «يحمل أقل الخسائر». كان حزب العدالة والتنمية يدرك حجم الارتباك الذي قد يحمله فوزه في الانتخابات داخل التوازنات السياسية، فقرر إراديا تقليص مشاركته في الانتخابات البرلمانية سنة 2002، وهو قرار كانت تعلمه الداخلية، لكنها أرادت تأكيده لدى قيادة الحزب، حيث عقد إدريس جطو، وزير الداخلية، لقاء مع قيادة الحزب و»نصحهم» من باب التأكيد بعدم الترشح في كل الدوائر. لكن في الانتخابات الجماعية لسنة 2003، ظهرت الضغوطات بشكل أقوى، وبرز في الواجهة فؤاد عالي الهمة، الذي بدا خلال لقائه مع قيادات الحزب الإسلامي، أكثر حزما، حيث لم يقتصر الأمر على توجيه «نصيحة» إليهم، كما فعل جطو، بل وصل حد «استعمال الضغط والتهديد ضد قيادات الحزب»، يقول مسؤول بالحزب الإسلامي. لم يكتف الهمة بطلب تقليص المشاركة، بل حدد مدنا كبرى بعينها، قال إنه محرم على الحزب الترشح في جميع دوائرها، مثل الدارالبيضاء، الرباط، وطنجة، وخاطب الهمة قيادات الحزب قائلا، حسب مصدر من العدالة والتنمية: «إما أن تأخذوا بهذه التوجيهات أو ترفضوها ولتتحملوا مسؤوليتكم». ويضيف: «كان مقررا أن نقلص مشاركتنا، لكننا لم نتوقع أن تحدد لنا الدوائر التي لا ينبغي أن نترشح فيها». وخلقت هذه الضغوطات رجة داخل الأمانة العامة للحزب التي اجتمعت وقدرت أنه من مصلحة الحزب الاستجابة لضغوط الهمة، لكن مسؤولين محليين لم يستسيغوا ضغط الداخلية، مثل مدينة طنجة التي رفضت الكتابة الإقليمية للعدالة والتنمية بها الترشح في دائرتين منها بدل أربع، وقررت عدم المشاركة نهائيا. وفي سنة 2003، ستتخذ ضغوطات الهمة على العدالة والتنمية شكلا آخر، فمباشرة بعد انتخاب الفريق البرلماني لمصطفى الرميد رئيسا، تدخل الهمة وضغط على قيادة الحزب حتى لا تصادق عليه رئيسا، متوعدا الحزب إن تمت المصادقة عليه، وخلقت الضغوطات رجة داخل الحزب من جديد، وتدخل الدكتور الخطيب الأمين العام للحزب آنذاك مدعما الرميد، مما دفع الأمانة العامة إلى عدم الرضوخ، لكن الرميد اختار تقديم استقالته من رئاسة الفريق «من أجل مصلحة الحزب»، حسب تصريحاته آنذاك. وبقيت ضغوطات الهمة مستمرة بطريقة غير مباشرة في العام الموالي عندما أعيد انتخاب الرميد رئيسا من جديد للفريق البرلماني، فقررت الأمانة العامة سحب الرئاسة من الرميد. ولم تمض مدة طويلة حتى اندلعت أزمة أخرى بين الهمة وإسلاميي العدالة والتنمية على خلفية اتهام أحمد الريسوني، رئيس حركة التوحيد والإصلاح، بالمس بالملك إثر حوار له في جريدة أوجوردوي لوماروك، قال فيه إن الملك غير مؤهل لإصدار الفتوى، وإن عليه خلق هيئة للإفتاء. استدعى الهمة قيادة حزب العدالة والتنمية رفقة الريسوني إلى لقاء ببيت وزير الداخلية مصطفى الساهل، وقال لهم إن الملك غاضب من تصريحات الريسوني، وإنه يتحدث في اللقاء باسم الملك، وإنه يجب عليهم تصحيح الخطأ، في تلميح إلى ضرورة اعتذار الريسوني. ورغم أن هذا الأخير حاول توضيح أنه لم يقصد الإساءة، وأنه تم تأويل كلامه، إلا أن الهمة لم يتقبل ذلك بل شرع في محاسبة قيادة الحزب، واتهامهم بعدم الوضوح في علاقة الحزب بحركة التوحيد والإصلاح، والخلط بين الدين والسياسة. وأمام هذا الضغط فضل الريسوني تقديم استقالته من رئاسة الحركة. وكانت آخر الضغوطات التي مارسها الهمة على حزب العدالة والتنمية، قبل استقالته من الداخلية، وقعت مباشرة بعد حرب إسرائيل على لبنان في يوليوز 2006، حيث استدعاهم الهمة للقاء وحاسبهم على رفع أعلام «حزب الله» في المظاهرات، معتبرا أن ذلك يمس بالرموز الوطنية، وعاد من جديد ليطلب منهم توضيح علاقة حزبهم بحركة التوحيد والإصلاح، وقال لهم: «لقد طلبنا منكم مراجعات فلم تقوموا بها». وعندما خرج الهمة من الداخلية وترشح إلى الانتخابات، عاد من جديد ليهاجم الإسلاميين في قناة دوزيم، وكانت آخر خرجاته الإعلامية في مجلة لاكازيت دي ماروك، حيث وصف قيادة الحزب بالشعبوية وهاجم الرميد. الهمة وانتهاك حقوق الإنسان بعد تعيينه مسؤولا في وزارة الداخلية، شرع عالي الهمة في إعادة ترتيب المسؤوليات الأمنية على رأس الأمن الوطني وجهاز الديستي، وأول ما فعله هو المجيء بالجنرال لعنيكري من المخابرات العسكرية إلى جهاز الديستي، ثم وضعه فيما بعد على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني لما كان يتمتع به من خبرة في الشؤون الأمنية. كان الهمة يقتسم مع لعنيكري التوجس من الإسلاميين بكل أطيافهم، وخاصة منهم الجهاديين الذين بدؤوا ينتشرون في المغرب بعد هجوم بن لادن على البرجين في الولاياتالمتحدة. لكن أحداث 16 ماي 2003 ستقلب كل الحسابات، حيث انخرطت الدولة في حملة اعتقالات ومحاكمات غير مسبوقة، وارتفعت أصوات المنظمات الحقوقية محذرة من عودة انتهاك حقوق الإنسان في المغرب، من خلال عودة ظاهرة الاختطافات والمحاكمات غير العادلة، وأكثر من ذلك تصريحات المعتقلين بتعرضهم للتعذيب في سجن «تمارة السري». وما دام الهمة كان وزيرا منتدبا في الداخلية ومسؤولا عن الجهاز الأمني، فإن الأصابع كانت توجه إليه باعتباره مسؤولا عن الانتهاكات التي كانت تقع في سجن تمارة. ويروي أحد مقربي الهمة أنه مرة وجه إليه سؤالا حول تورطه في تعذيب الإسلاميين، فكان يجيب بأن الجنرال لعنيكري، الذي تمت تنحيته فيما بعد، هو المسؤول. الهمة رجل الأعمال عندما قدم الهمة استقالته من وزارة الداخلية، لم يكن يخفي طموحه لولوج ميدان المال والأعمال، وكانت آخر تجليات هذا الطموح شراؤه لشركة متخصصة في مجال التواصل بالرباط، وعضويته في المجلس الإداري لشركة سوني إريكسون. أحد المطلعين على تحركات الهمة قال ل«المساء» إن هذه التحركات ليست إلا تجسيدا بسيطا لما يطمح إليه الهمة. فبعد نسجه علاقات خاصة مع عدد من الفاعلين الاقتصاديين مثل عزيز أخنوش ومحمد بن صالح، ونجاحه في إيصال عدد من المحسوبين عليه إلى مواقع التأثير المالي والإداري، يكون الهمة قد خلق لوبيا خاصا به في مجال المال والأعمال. ورغم أنه لم تتضح بعد طبيعة النشاط الذي ستشتغل فيه شركة التواصل التي اقتناها الهمة وصديقه اخشيشن، فإن مصادر كشفت ل«المساء» أن الأمر يتعلق بشركة ستتولى تدبير العلاقات العامة لعدد من أجهزة الدولة، خاصة الأنشطة المتعلقة بقضية الصحراء، وما يرتبط بها من تحركات في الداخل والخارج. لقد ظل الهمة يتحفظ كثيرا على نشاط منير الماجدي، الكاتب الخاص للملك ومدير ثروته، وكان يقول للمحيطين به: «إذا كان الماجدي يريد خدمة الدولة، فعليه أن يتخلى عن السعي وراء المال والثروة»، لكن أحدا لم يستمع إليه، لهذا ربما أدرك أن نفوذ المال أهم من نفوذ السلطة التي تتغير مواقعها حسب الظروف والأمزجة..