هكذا جرى الأمر في يسر، في هدوء، في خطى حثيثة غير هيابة قطع خلالها ما تبقى إلى الأبدية، إلى المطلق، حرت كثيرا، من أين أبدأ، تتعدد الشعاب إليه، غير أنني أتعلم من بساطته وثقابة رؤيته فأحكي ما جرى منذ أن أخبرني صديقنا المشترك نبيل درويش الإعلامي المعروف مراسل الإذاعة الفرنسية في القاهرة، كان ذلك منذ ثلاثة أسابيع بالضبط تحتسب إلى الوراء من تاريخ هذا العدد، قال لي نبيل إن محمود يمر بمرحلة دقيقة، وقد يضطر إلى إجراء عملية خطيرة، بادرت إلى الاتصال الهاتفي بمحمود في عمان، اعتدت ذلك على فترات متباعدة، سألته أولا عن رحلته إلى فرنسا. حدثني عن الأمسية الشعرية التي أقامها في مدينة «آرل» جنوبفرنسا، كانت الأمسية جزءا من احتفالية دار اكتوسود بمرور ثلاثين عاما على تأسيسها، والدار تنشر أعمال محمود المترجمة إلى الفرنسية منذ سنوات، قال لي إن تيودروف المفكر بلغاري الأصل الشهير، كان حاضرا، كذلك الروائية كندية الأصل نانسي هيوستون زوجته، وتربطهما بمحمود صلة قوية. تجاوز عدد الجمهور ثلاثة آلاف مستمع جاؤوا من المدن المجاورة ليدفع كل منهم ثمانية عشر يورو ليصغي إلى أشعار محمود التي يقرؤها بالعربية وتقوم ممثلة محترفة بإلقاء الترجمة إلى الفرنسية. عرفت ذلك من قبل مع محمود، ليس في فرنسا فقط، إنما في بلدان أوروبية أخرى، وفي بلدان عربية بالطبع. غير أن الحالتين مختلفتان، وفي فرنسا بالتحديد كان له وضع خاص، منذ عامين رافقته في تولوز، وكان عدد المستمعين بالآلاف، ومنذ خمس سنوات صحبته في بوردو، وكان الاحتفاء به مدهشا، محمود دخل ضمير الإنسانية كشاعر متفرد، عظيم، وما أقل الشعراء الكبار في عالمنا المعاصر، يعدون على أصابع اليد الواحدة، لو أن محمود لم يكن فلسطينيا لحصل على جائزة نوبل منذ سنوات طويلة، لكنه مثل الأدب العربي جزء من الصراع والعلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، ومحمود في مركز هذا الصراع، إنه ذاكرة فلسطين الروحية، فلأكف عن الاستطراد، فلألزم الوقائع، استعيد صوت محمود الهادئ الآن، بعد أن تحدثنا عن جمهور الشعر في الغرب واستعدنا بعض ذكريات مشتركة من لقاءاتنا في الخارج، سألته -وكأني أنطق عرضا عن صحته، أجابني بهدوء أنه مقبل على جراحة خطيرة، ضحك قائلا: تصور أنه من المطلوب تغيير ستة وعشرين سنتيمترا من الشريان الأورطي، طلبت منه أن يشرح أكثر، كنت أتبادل معه الخبرات منذ سنوات، خاصة بعد الأزمة الخطيرة التي مر بها في أحد فنادق النمسا، وبعد العملية التي كانت تصنف بأنها خطيرة عام ستة وتسعين والتي أجريتها في كليفلاند بالولاياتالمتحدة، هذه العملية خط أحمر في حياتي، سواء في ما يتعلق بحضوري المادي أو النفسي والروحي، وقد فصلت أمرها في يوميات عنوانها «الخطوط الفاصلة»، واستوحيت منها نصوصا قصصية عنوانها «مقاربة الأبد»، في ما تلا صدورها قرأت جدارية محمود درويش وذهلت لتطابق الحال، لتشابه التجربة، بل إن ما أفلت مني لعجز النثر عبر عنه هو بقدرة الشعر على اقتناص ظلال الظلال، وما لم يفسره، هو في استخلاصه الرحيق، فصلته نثرا في التدوينين. منذ إجرائي الجراحة أهتم بكل ما يتصل بالقلب وشؤونه، وأساليب تطور الجراحة والتقدم الذي حدث فيها، بل إنني مازلت على اتصال بأطبائي في أمريكا، ومنهم من أصبح صاحبا حميما. الدكتور فوزي اسطفانوس المصري، ابن نجع الشجرة في طما الذي أصبح خبيرا عالميا في التخدير، أما الدكتور جلال السعيد فلا أملك إلا الدعاء له بالصحة وطول العمر فهو من يرعاني بعد الله في مصر، هكذا أصغيت إلى محمود وأدركت أن حالته خطيرة بالفعل، لكنني حرت، فالأطباء الفرنسيون رأوا ألا يجري الجراحة لأنها مصنفة في الخطرة جدا، أما انتفاخ الأورطي وتمدده فيخضع للاحتمالات، يمكن أن ينفجر بعد خمس دقائق ويمكن أن تمر عشر سنوات بدون أن يحدث شيء، قلت لمحمود إنني عرفت حالات كانت أخطر في كليفلاند ولكن معظمها اجتاز الخطر، لماذا لم يذهب إلى كليفلاند، قال إنه ليس هو الذي يقرر، على كل حال فقد قرر السفر، سألته عمن سيرافقه، ذكر لي اسمين، سألته عن رقم الهاتف الجوال الذي سيكون معه، أخبرني به. قلت له إنني سأكون معه خلال الرحلة، سوف أتصل به بعد نجاح الجراحة، قال بصوت مبتسم: يا جمال! لم يكمل، لكن ثمة كلمات يتمم معناها أسلوب النطق، كأنه يقول: يا عالِم.. تمنيت له الجميل وانتهت مكالمتنا، كتبت خبرا نشر في الصفحة الأخيرة من «أخبار الأدب»، ولعله أول إشارة إلى الوضع الصحي القلق الذي يمر به محمود، في يوم صدور أخبار الأدب اتصل به الأبنودي من معزله في الإسماعيلية، مريض يطمئن على مريض، وأعرف ما يربطهما من صلة حميمة، عميقة يندر أن تكون بين قامتين شعريتين كبيرتين، صلة مصدرها الاحترام العميق، وتقدير شاعرية كل منهما للآخر، كان بيت الأبنودي أحد البيوت القليلة التي يأنس إليها محمود في القاهرة، وكان الأبنودي يستعد بالطبق المفضل لصديقه الحميم، الملوخية الخضراء على الطريقة الصعيدية. تابعت سفر محمود إلى الولاياتالمتحدة، كان مصدري صديقنا نبيل درويش الذي كان مطلعا على أدق التفاصيل عبر الأصدقاء المشتركين، عندما يتعرض صديق عزيز لأخطار صحية أو حادث داهم يستنفر ما يخصه عندنا، ما لم يكن له حضور قبل بدء ذلك الترقب الموجع، القلق، الممض، أحاول أن أتفحص ما مضى، متى رأيته لأول مرة؟ متى تعرفت إليه شخصيا؟ لا يمكنني التحديد، يختلط عندي ما سمعته بما عاينته بما قرأته. المؤكد أنني لم أتعرف إليه عند حضوره إلى القاهرة وبدء إقامته التي لم تمتد كثيرا. خلال عمله مع المرحوم أحمد بهاء الدين في مجلة المصور، ثم عند انتقاله إلى الأهرام وقرار الأستاذ محمد حسنين هيكل بضمه إلى صفوة الأدباء الكبار في الأهرام، أصبح من قاطني الطابق السادس، وكان هذا الطابق يضم الخلاصة، في غرفة واحدة، كانت مكاتب نجيب محفوظ، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتورة بنت الشاطئ، وانضم إليهم محمود درويش، عندما زار القاهرة عام خمسة وتسعين جاء إلى السفينة النهرية الراسية «فرح بوت»، استقبله نجيب محفوظ مرحبا، مناديا: أهلا بزميلي في المكتب، في ما تلا ذلك لم يأت محمود إلى القاهرة إلا وزار نجيب محفوظ، الآن هما معا، ونحن نتأهب! في القاهرة، في باريس، في عمان، في بغداد، في موسكو، تتوالى علي صور شتى للقاءاتنا، لحواراتنا السريعة، كذلك عبر الهاتف، كنت ألح عليه دائما بخصوص ضرورة إصدار بيان شعري من شعراء العربية الكبار (وعددهم لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة)، ربما يكون علامة في مواجهة هذا الاستسهال الذي جرى باسم الحداثة، وقصيدة النثر، أذكر تعليقه متعجبا »إن النثر في أرقى حالاته يطمح أن يكون شعرا، فكيف نقول قصيدة النثر«. غير أنه كان يؤثر تجنب الدخول في معارك صاخبة خاصة مع ميلشيات قصيدة النثر المنتشرين في مواقع حصينة بمنابر الإعلام العربية، ومواقع الأنترنت التي دخلت الخدمة كسلاح فعال، كان محمود حريصا على التركيز الشديد في إبداعه، أن يبتعد عن الضجيج وعن مشاكل الحياة الثقافية العربية، لذلك نجده بعيدا قصيا في العواصم التي أمضي فيها وقتا. من القاهرة إلى باريس إلى عمان، كانت همومه الكبرى تشغله تماما وأولها الشعر وما يتصل به من قضايا، وبالطبع قضية وطنه وشعبه الذي مر بظروف مأساوية تاريخية لم يعرفها شعب آخر، كان صوتا لهذا الوطن ولهذا الشعب، وواعيا بالظروف الصعبة المتدهورة، أذكر ترديده مرات عندما تحدثنا في أوضاعنا بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان يردد بلهجته السريعة وكلماته المتلاحقة. غير أن ما جرى في غزة ربما فاق أسوأ توقعاته. فالقضية الوطنية الكبرى لشعبه يجري تصفيتها بأيدي فريق من أبناء هذا الشعب نفسه، ولكم كان بليغا دقيقا عندما وصف المشهد المأساوي الذي جرى في غزة قائلا: لقد جرى استبدال العلم الفلسطيني متعدد الألوان بعلم ذي لون واحد، أهي صدفة أن يبلغ احتضار محمود درويش أوجه في نفس الوقت الذي تبلغ فيه قضية شعبه ذروة المأساة أيضا، ليس غريبا توافق المسارين، والآن نتابع بدهشة وفزع مواقع حركة حماس الإلكترونية التي تصف محمود درويش بالإلحاد والكفر، فكأنهم يسعون إلى تشويه أقوى صوت وأرفعه شأنا حمل مأساة الشعب الفلسطيني إلى ضمير الإنسانية، احتضار الشاعر واحتضار القضية صنوان. في موسكو عام سبعة وثمانين، شاركنا في مؤتمر ضخم ضد التسليح النووي دعا إليه غورباتشوف، وفيه التقى بصديق عمره سميح القاسم، كنت مهتما بالتقاط الصور لهما لنشرها في جريدة الأخبار، وكان يعلق دائما على نشاطي الصحفي مبديا استنكاره لما أقوم به، كيف يقدم كاتب (يرى أنه مهم وكبير) على ذلك؟ وكنت أقول له إنها مهنتي يا محمود، لم يكن يستوعب أن كتبي الستين لا توفر لي تكاليف الحياة، وأنني مطالب بإنفاق أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا للعمل الصحفي، كان يرى في ذلك إهدارا للموهبة وتبديدا للطاقة، وعندما قلت له مرة إنني لا أنام أكثر من خمس ساعات يوميا وعلى فترات، وصف ذلك بأنه انتحار. قال لي إنه ينام ثماني ساعات. وقد خصص في نصه البديع »في حضرة الغياب« فصلا كاملا عن النوم، هذا النص الذي يمسك بناصيتي الشعر والنثر ليس إلا أنشودة رحيل مؤلمة، مرثية للذات واحتفاء بالأبدية، قرأته مرات وتمنيت أن أحفظه عن ظهر قلب، إنه يؤسس لفقه الفراق، فراق الذات للذات، فراق الأصل للظل، فراق المحسوس إلى اللامحسوس، ما يمكن تحديده إلى مالا يمكن تحديده أو تعيينه، في هذا النص النادر يلقي الأضواء الخفيتة على خباياه التي لم يدركها أحد، حتى إبداعه للشعر، فيه وجدت تفصيلا لجملة قالها لي مرة. أنه اعتاد أن يفتح القاموس عند بدء نشاطه اليومي. لسان العرب لابن منظور، يفتح على أي صفحة، يتوقف أمام كلمة معينة، يقرأ ما أورده المؤلف عنها، أذكر أنه قال معلقا باختصار: هذه علاقتي بالتراث. وقد وصف علاقته بالقاموس في هذا النص البديع، وسوف نستعيده في أخبار الأدب شعرا ونثرا مادمت مسؤولا عن تحريرها، لن يسجن صوته في علب الكاسيت، بل سيكون حضوره مستمرا، لن يكف بالغياب، أثق أن شعره سوف يعيش كما عاش شعر الشعراء الأوائل من العصور المختلفة، فقد ارتقى إلى حد ملامسة قوانين الوجود الخفية وعبر عنها بعمق ورقة ورفعة، وهذا ما لم يتفق إلا لقلة في تاريخ الإبداع الإنساني. أسس مجلة «الكرمل» التي كانت منبرا بالغ الرفعة، عاونه سليم بركات أولا ثم صبحي حديدي، وأثناء تخطيطه لإصدارها اتصل بي (لا أذكر من أي بلد؟)، طلب نصا، قلت له إنني مشغول منذ سنوات في عمل طويل بدأته عقب رحيل أبي، أعني «كتاب التجليات». طلب مني أن أرسل جزءا أختاره، وبالفعل أرسلت إليه مقطعا طويلا شغل أكثر من ثلاثين صفحة، وفيما بعد قرأ الكتاب كاملا وحدثني بما أخجل من ذكره الآن، لم نتعرف شخصيا بما يكفي، كنت بعيدا، وكان بعيدا، وكانت لقاءاتنا مثل لقاء القطارات التي تعبر بعضها بسرعة، غير أنني قرأت نصوصه جيدا وتمثلتها. وقرأ نصوصي أيضا، آخر ما قرأه «نثار المحو» الدفتر الخامس من دفاتر التدوين، حدثني عنه، لكنني لا أظن أنه قرأ الدفتر السادس «الرن»، وقد خجلت في آخر اتصال أن استفسر عما إذا كان وصله بالبريد أم لا؟ تعارفنا عبر النصوص وهذا أصدق ما سيتبقى منا، فالكاتب أولا وأخيرا ماثل في نصه، أما الوجود المحدود فيمضي، غير أنني في العلاقة الشخصية الشاحبة أحببته، وقدرته، وأصغيت إليه جيدا، ولاحظته بدقة، أذكر أننا عندما سافرنا من بوردو إلى باريس لاحظت أنه لا يحمل إلا حقيبة يد مما يصعد به الراكب إلى الطائرة، فقط ليس غير، ورغم وسامته وأناقته، إلا أنني لم أره إلا عبر لونين، الجاكت الأزرق والبنطلون الرمادي، يقول البعض إنه كان حادا، وأحيانا جارحا، وفي تقديري أن هذا نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة الخشونة والغلاسة. هكذا رأيت أمل دنقل الذي أعتبره من أرق الذين التقيت بهم رغم ما أشيع عن خشونته. طوال الأسبوع قبل الماضي عقب حديثنا الهاتفي، كانت تشغلني تفصيلات خاصة برحلته، أي شركة طيران؟ أي مسار؟ من مقال الصديق صبحي حديدي المنشور في هذا العدد عرفت أنه سافر عن طريق باريس. أعرف فندق ماديسون بجادة سان جيرمان، فندقه المفضل في الحي اللاتيني، رحلة طويلة من عمان إلى باريس إلى ولاية تكساس حيث المستشفى، من نبيل درويش علمت الأحد أنه أجرى الجراحة يوم الأربعاء، وأن الوضع حرج، يوم السبت اتصلت بنبيل لشأن يتعلق بمناسبة تخصني، فوجئت به يقول لي إن محمود في حالة موت سريري منذ الأمس، وإن القيادة الفلسطينية مجتمعة وعلى اتصال بالأسرة لاتخاذ القرار المناسب، غير أن محمود لم يسبب الحرج لأقربيه، أعد لكل شيء عدته، إذ أوصى ألا يوضع على أجهزة صناعية، أي رفض هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان عدما من حيث المضمون، موجودا من حيث الشكل، هكذا رحل في بساطة، أقول في بساطة لأن الأمر جرى هكذا، هكذا بالضبط، في مثل هذه الظروف أمر بحالة من عدم التصديق، وعدم القدرة على الاستيعاب، غير أنني مضيت أستعيد قصيدته الملحمية الرائعة «الجدارية» ونصه الفريد الذي يطاول نصوص أبو حيان التوحيدي الناثر الأعظم في لغتنا العربية «في حضرة الغياب».