لم يكن غريبا بالنسبة إلى العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع أن يجدوا ترابطا «سحريا» بين ما تصبو الإنسانية إلى تحقيقه من حرية وديمقراطية وبين ما تقف عليه بالمقابل من ضرورة تحقيق المساواة بين الجنسين، حيث لا ديمقراطية حقيقية، وبالتالي لا حداثة إلا عندما تصبح للمرأة مكانة اعتبارية، بل وخاصة في مسلسل التحرر من غطرسة الأنظمة الأبوسية (patriarcal) التي تجسد العهود البائدة إلى سلطة الذكورية والإكليروس (السلطة المتدينة بشكل عام) والغيبية بل والمانوية (شخصية ذكية وقوية مقابل شخصية ضعيفة وتافهة). وإذا كانت الحداثة تعني سياسيا علمنة الحكامة (جيل دولوز)، أي فصل كل ما هو قدسي وغيبي عن تسيير الشؤون العامة اليومية والحيوية للناس، على حد سواء، ومن دون مفاضلات معيارية (جنسية، بالأخص)، وتعني فكريا ذلك التحرر المفيد والضروري من الإطارات المعرفية النهائية والجاهزة وجعل الغلبة للفكر كعمليةِ بناء ونقد مستمر من دون شروط أو قيود، وإذا كانت الحداثة، اقتصاديا، هي إرساء مبدأ تكافؤ فرص الولوج إلى الموارد وفرص الاستثمار من دون ريع أو مفاضلات عائلية أو قبلية أو حزبية أو جنسية... فما مكانة المرأة فيها وكيف تدخل المرأة زمن الحداثة وما هي المحصنات لكي لا تخرج منها؟ هل تعيش الإناث نفس حظوظ الذكور على مستوى الاستفادة من ثمرات الحداثة؟ وهل لهما نفس الأدوار في بنائها؟ ماذا لو حصل تفاوت بين الجنسين على مستوى تحقيق الحداثة؟ فبغض النظر عن الظواهر التابعة والمتفرقة، كعدم المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هل يعتبر التفاوت في دخول الحداثة بين الجنسين العقبة المفصلية أمام انعتاق شامل للجنس البشري والانتقال نهائيا وسريعا إلى زمن المناصفة الشاملة؟ الأبعاد الجديدة للأنثوية الأنثوية ليست، ربما -حسب التعريف الرائع والعميق لسيمون دوبوفوار- محصلة أو أمرا واقعا، بل بناء مستمرا للذات، حيث لا نُخلق ونأتي إلى هذا العالم إناثا (أو مكتملات الأنوثة) وإنما نصبح إناثا بالإشارة إلى أهمية مسار الحياة والمجتمع والبيئة في تركيبة الأنثوية وتحديد معالمها، ومن تم لا أنوثة إلا بالفعل الأنثوي، لأنه لا أنوثة قائمة الذات ولا أنوثة مسبقة (féminité préalable). والأنثوية -حسب التحليل النفسي العميق لسيغموند فرويد- لا تتعلق بالضرورة ببعدها الجنسي (رغم محورية الجنوسة داخل الأنثوية)، لأن الأنثوية أعمق كثيرا، فكل نزوع للإنسانية نحو استشراف السعادة والبناء والسلم والإبداع والتدين والمحافظة على القيم هو نزوع يتوجه بنا إلى «تأنيث» الحضارة... ولم يتردد ألفرد أدلر في الافتراض المغامر والمجازف حينما طرح مسألة سيطرة العالم الذكوري على البعد الديني واحتلاله، تاريخيا ورمزيا، وهو المجال -والأمر يتعلق هنا بالمسيحية- الذي كان أنثويا منذ البدء (لكن المعالم والرموز الأنثوية تم طمسها وتغييبها)... ولا عجب -حسب أدلر- في أن يرى أن الفتوحات الدينية غذت في التاريخ أكثر دموية بمجرد نزوعها نحو تأكيد سيكولوجيا السيطرة والمفاضلة والمحورية (Ethnocentrisme)، وهي البنيات النفسية مفعمة الذكورية. وعليه، وحيث إنه لا أنثوية مسبقة وحيث إن الجنوسة أو الجنس لا يشكل إلا بعدا جزئيا في الأنوثة (وخصوصا في بعدها الحضاري والإنساني الإبداعي)، هل يمكن تلخيص بعض السمات الوجودية المشكلة للأنثوية اليوم؟ المركب الجنسي والعذرية (la virginité) هي أول الإشكالات، ليس فقط الجسدية بل والنفسية والاجتماعية والرمزية، التي تلعب دورا حاسما في تمثل الذات الأنثوية. وتطبع النقاش حول العذرية، اليوم، سمات دينية واجتماعية أخلاقية، أكثر مما يطبعه البعد السيكولوجي والفلسفي. من الناحية العامة، لا يسمح للأنوثة بأن تأخذ شرعيتها إلا بالعذرية. الأصل ديني صرف. فالمسيحية لم تعترف بقداسة مريم -كأنثى ومصدرِ وحي- إلا عن طريق العذرية، وهو حال كل النساء القديسات في ما بعد، اللواتي يدفنّ عذريتهن من أجل الرجوع إلى الذات الإلهية سالمات عفيفات، كما لو أن فقدان العذرية هو رمز لفقدان الأنوثة، في بعدها الإلهي. تم تداول بُعد العذرية، تقريبا، في كل الديانات التوحيدية والسامية والآسيوية... وحتى طقوس فقدان العذرية عند الفتيات العذراوات (في العديد من الحضارات الإفريقية والأسيوية) يتم مباركتها وتأطيرها دينيا. ويؤكد جون كازونوف -وهو من الأنثروبولوجيين في جامعة السربون- أن عادات ختان الفتيات هي -في الأصل-طقوس تدور حول محور العذرية، وهو المحور الذي بُنيت حوله مركّبات طقوسية ودينية واجتماعية -مختلفة موضوعا- لكن لها نفس البعد الرمزي. وإذا كانت العذرية في الأصل إشكالية بأبعاد دينية، ماذا عن نقاش العذرية اليوم، في مجتمعنا؟ وهل يمكن اعتبار تأصيله وحل معضلاته الوجودية أحد مداخل الأنثوية نحو الحداثة؟ كانت الدعوة، دائما، إلى المناداة بتفاهة قدسية العذرية واعتبارها موضوعا مزيفا أو عائقا أمام تحرر المرأة دعوة محفوفة بالمخاطرة في مجتمعاتنا العربية التي يغلب عليها التدين (ليس في طقوسيته وإنما التدين على مستوى تمثل الذات والواقع). وحتى إذا كانت النزعات النسائية التحررية تستلهم مرافعاتها، اليوم، من مواثيق حقوق الإنسان وحقوق التصرف في الجسد، باعتبارها حقوقا مفصلية للدخول في حيّز الحداثة والحرية الحقيقية، وخصوصا أهمية تحرير جسد المرأة من غطرسة النظام الديني والمجتمعي الذكوري والمستبد، فإن كل نقاش لا يستحضر الأهمية الكبيرة للعذرية، كمكون هامّ في الأنوثة، يعد -بدوره- نقاشا متغطرسا ومستبدا على المرأة، لأنه يبدو اليوم كما لو بدأت تخرج دعوات نسوية صريحة لتبخيس العذرية، باعتبارها تشكل اليوم رمزا للاستبداد بجسد المرأة. وفي المقابل، كم يبدو مضحكا النزوع الذكوري الاجتماعي الأعمى نحو فرض العذرية المطلقة كشرط أو كصكوك غفران للمرأة، وكم هو غبي الميل الاجتماعي الذكوري إلى تصيُّد الجنس العابر «غير الشرعي» والعبث بجسد المرأة خارج «منارة الشرع»، وبالمقابل، اشتراط العفة (chasteté) والعذرية في المرأة في مشروع الزواج الشرعي... ولأن الجنس مسألة حيوية بالنسبة إلى المرأة، فإن تفاهة الأقدار دفعت إلى ابتكار حيل من أجل خداع «جبروت الشرع». أفرز لنا هيلمان العذرية الشذوذ في جنوسة المرأة (حيث حلت الممارسات الدبُرية محل الفرجية، وحيث التسابق نحو عمليات صناعة وتجميل العذرية بأبخس الأثمان). تستوجب الحكمة الوقوف في منتصف طريق التطرف وقطع الطريق عنه. لا يمكن أن ندفع الإناث نحو تبخيس عذريتهن بدعوى التحرر المطلق، كما لا يمكن التغاضي عن غطرسة الذكورة والعبث بالعذرية (تفضيلها خارج الشرع وفرضها داخله) مما يؤسس للشذوذ والمراوغة، وهو الشذوذ الذي لم يؤسس، إلى حدود اليوم، لتحاور جنسي حقيقي وشفّاف حول العذرية. كما أن الظروف الاقتصادية الدافعة إلى استفحال التوحد والعزوف (ليس عن الجنس وإنما عن شرعنته تقليديا ودينيا) يجعل موضوع العذرية، اليوم، من أكثر المواضيع خفوتا وتسترا. فبالقدْر الذي وقع تحرر في الممارسات الجنسية السليمة والثابتة (مصادقات وتودد بدأ ينضبط لقيم الإخلاص والمودة) تبقى إشكالية العذرية عقبة أمام الشباب التواق إلى تحرر العلاقات الجنسية. يطلب الذكور، اليوم أكثر من الأمس، أن تمنحهن الإناث عذريتهن خارج مؤسسة الزواج، عربونا للثقة والمحبة، ولا تجد الإناث مانعا في ذلك، اليوم أكثر من الأمس، شريطة أن تكون عملية شرعنة العلاقة وديمومتها شرطا ضروريا لهذه «المقايضة»... إذا كان مركب العذرية مفصليا في ممارسة وتحقيق الهوية الجنسية، مع ما تطرحه من إشكالات وتضاربات بين الرغبة في الشرع والاستكانة إليه وبين إرادة التحرر (وهو ما أسميه التناقض/ العذرية)، هناك مركب مفصلي ثان في كينونة الأنوثة يشكل عقبة ثانية لولوج الحداثة، وهو مركب القتل الرمزي للأبوية (le patricide). فالقتل هنا لا يعني، طبعا، التخلص الجسدي من الأبوية (كالقتل الفعلي للأب، وأنا لا أحرض هنا على قتل الأشخاص) وإنما الوصول إلى تعويض القيمة القدسية للأبوية بقيمة أخرى أكثر إنسانية، يطبعها الفهم والاستقلال والشراكة، بدل الخوف والخنوع والرهبة. فكما أن الأنثوية فعل بناء وليست لها لا قيمة مسبقة ولا قيمة نهائية، فكذلك الأبوية، لا تأخذ قيمتها إلا بما تتيحه من فرص تحرر ومناصفة وتكافؤ للذوات التي تتحكم في منظومات نشوئها الاجتماعي. كما أن الأبوية لا تعني الأب بالضرورة، حتى ولو كان الأب هو غالبا من يحرص على مأسستها الاجتماعية، لأن الأبوية نزوع إلى السيطرة المنبنية على ذكورية مركزية، وهي سيطرة يمكن للأم أيضا -غالبا- أن تلعب فيها دور عميل حاسم. هل الاستقلال عن الأبوية تحريض للثورة؟ نعم، إذا كانت الأبوية تبخيسا للذات الأنثوية وتمطيطا لحيويتها من خلال إدخالها في «ثلاجة الشرع»، لكي لا يتعفن جسدها القابل للتعفن، ومنحها أدوارا اجتماعية لم تساهم الأنثى أبدا في تحديدها أو اختيارها وإعطاء الذكور فرصا أحسن، بل وسلطا أكثر لإرهابها منزليا ثم اجتماعيا ومؤسساتيا. وكم هو جميل قول الباحث الاقتصادي الإرلاندي هاينز شول عندما أقرّ بأن الاقتصاد وحاجاته إلى اليد العاملة النسائية وإلى الكفاءات المهنية النسوية وتفانيها وانخفاض تكلفتها هو الكفيل بهدم بنيات وعلاقات اجتماعية وتعويضها بأخرى لصالح هذا التحرر الاقتصادي النسوي، الذي نحن في أمَسّ الحاجة إليه. فإذا ولجت المرأة إلى العمل والأجر والادخار والاستثمار، تأتي حاجاتها إلى الاستقلال عن كنف الأسرة الأبوية محصلة منطقية وجدلية. فكما سارعت البورجوازيات الناشئة في التاريخ إلى الاستقلال عن كنف الفيودالية الأبوية وعن كنف سلطة الإيكليروس (مؤسسة الدين)، ها هي المرأة، اليوم، تحقق تاريخيا، تقريبا، نفس النقلة، حيث جاء الاقتصاد ليحررها. لكن؟ هل هي فعلا الحرية المرجوة للنساء؟ هل يحرر الاقتصاد فعلا؟ فما دمنا نفكر هنا نقديا، وجب الشك في هذه النتيجة أيضا، أولا لأن الاقتصاد واقتصاد الأزمة، بالخصوص، يتلصص اليوم بالنساء فقط لدواع محاسباتية (يد عاملة نسائية متوفرة ومنخفضة التكلفة وغير مؤطرة سياسيا ونقابيا)، وثانيا لا يوفر سوق الشغل اليوم هوامش تأصيل الأنثوية، بل ويقلصها (حيث لا يحترم، إلا بصعوبة وبضغط شديد، حاجة المرأة إلى العمل، مع حاجتها إلى الإنجاب وتربية أطفالها). وهناك، اليوم، عدد هائل من النساء الحوامل اللواتي تم طردهن من سوق الشغل، وبالتالي في الوقت الذي تقتل المرأة الأبوية، تدخل عالما لا أنثويا.