منذ ظهور الفلسفة لأول مرة في تاريخ البشرية لم يتوقف الإنسان المتحضر عن التفكير في تحسين أنماط العيش التي تنظم حياته وحياة الجماعة. وانشغل المفكرون والفلاسفة بالسؤال عن مجموعة من المفاهيم والمبادئ التي ترتبط بالفرد والمجتمع فانشغلت معهم فئات أخرى مستهلكة للأفكار لكنها كانت مستعدة للدفاع عنها بكل الوسائل الممكنة. لذلك قامت الحروب والصراعات بين الدول ولم تتوقف. لكنني لا أستطيع أن أجزم إن كانت الدول هي التي تتبنى الأفكار التي تتماشى مع مصالحها أو أن الأفكار هي التي كانت تقود الدول إلى اختيارات دون أخرى. الأكيد هو أن الأفكار كانت دائما تشكل محورا في الصراع بين الدول. وقد تسبب ذلك في وفاة الملايين مند نشأة الحضارة الإنسانية ومازالوا يموتون. وقد كان لمفاهيم العدل والحرية والدين القسط الأوفر من التأثير في تطور الحضارة الإنسانية، إذ لم يخل عصر من العصور من دراستها بالبحث والتحليل و لم يتوقف مجتمع من المجتمعات عن التفكير فيها. ولعل تلك المفاهيم هي الأكثر تسببا في الحروب والانقسامات.إذ ظهرت أنظمة توثر الحرية على العدل والدين، وظهرت أخرى تدعي تحقيقها العدل والمساواة لكن على حساب الحرية والدين.كما عرف التاريخ ظهور أنظمة كانت تحكم باسم الدين دون أن تعير اهتماما بقيم الحرية والعدل. ومهما حصل فإن الأنظمة والحضارات الفائتة والمعاصرة لم تنجح في التوفيق بين المفاهيم الثلاثة وفي خلق التوازن بينها وإلا لكانت الحروب قد توقفت ولكان الإنسان يعيش في أمن وسلام. فالحرية مثلا لا يمكن أن تكون مطلقة رغم أنها حق طبيعي يولد مع الإنسان لأن الفرد يبقى مقيّدا بقوانين المجتمع الذي يعيش فيه وهو مقيد بأحكام الدين الذي يؤمن به. وفي ذلك قال بعض علماء الدين عندنا إن الحرية المطلقة تعني التحرّر من النفس الأمارة بالسوء وهي النفس التي تدفع إلى الانحراف عن المثل والقوانين. كذلك العدل فإنه لا يمكن أن يكون كاملا بين الأفراد أو أن يتم في غياب الحرية والإيمان. فالأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي ادعت توزيع الثروة بشكل متساو بين الناس لم تستطع الحفاظ على توازنها، وعاشت فيها أكبر الطبقات عددا فقيرة مدقعة في الوقت الذي استفرد فيه حكامها بالخير والملذات. ونرى من مثال الأنظمة الشيوعية أن الإنسان وإن كان قد خطا خطوات مهمة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تأميم قطاعات الصحة والتعليم مثلا، فإنه تغاضى عن مبدأ الحرية وهو ما بدا جليا فيما تعرض له الشعب السوفياتي من ضغط اجتماعي واحتقان نفسي. كما أنكر الشيوعيون الدين نكرانا فكان لذلك أثره في التفسخ الاجتماعي الذي وصلته شعوبهم الآن. من جهة أخرى استطاعت الأنظمة اللبرالية والرأسمالية التي آثرت الحرية على العدل والدين أن تتقدم بعيدا في سبيل الازدهار والرقي الاجتماعي وتجاوزت نظيرتها الاشتراكية والشيوعية من ناحية الاقتصاد والسياسة إلا أن ارتباطها برأس المال واعتمادها على مبدأ الغاية تبرر وسيلة أفقدها العدل الواجب تحقيقه بين أفراد المجتمع فكبرت الهوة بين الفقير والغني عندهم. كما أن الرغبة في جلب الخيرات المكاسب عند تلك الأنظمة جعلها تستبيح السيطرة على الشعوب الأخرى واستغلال مواردها بالقوة والتحكم بمصائرها. فأين هو العدل من هذا وأين هي المثل التي يدعّيها حكامهم؟ أنظمة الإكليروس في القرون الوسطى كانت أقل شأنا من الأنظمة الحالية لكنها كانت مثالا على فشل الأسلوب الذي يستعمل الدين في الحكم دون الأخذ بمبادئ العدل والحرية. وقد أبانت عن فشلها وانحطاطها بشكل لا يقبل الشك لذلك لن أستمر في استنفاذ الحبر لتبيان الأسباب التي أدت إلى ذلك. أما الحكم الإسلامي الذي توطّد في عهد الخلافة الأموية فقد كان يعتمد هو كذلك على الدين بدرجة أولى خاصة وأن توسّع الحضارة الإسلامية قد استند على الدعوة للدخول في دين الإسلام مثلما تدعونا أمريكا الآن إلى تطبيق الديمقراطية. وكما أثبتت الديمقراطية نجاعتها في الحكم واستطاعت أن تلقى قبولا عند الشعوب اليوم، استطاع الإسلام في عهوده السابقة أن يكون نفّاذا وقريبا إلى قلوب الشعوب التي آمنت به وحافظت عليه وحاربت من أجله. لكن ذلك النجاح الذي عرفته الدعوة الإسلامية على عهد الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها من الدول التي تفرقت في الزمان والمكان لم يوازيه نجاح في تدبير الحكم أو تجديد في الأنظمة فكانت الغلبة للدين على حساب الحرية والعدل. لقد اعتبرت الدول الإسلامية حكامها حكاما باسم الإسلام ولم تقيّدهم بحرية الفكر. كما أنها اغتالت مبدأ العدل في مراحل كثيرة من تطورها. وتسبب كل ذلك في تأخر التفكير عندنا رغم بروز بعض المحاولات الإصلاحية المهمة التي أجهضت في بدايتها. فقد حاول بعض المفكرين الإسلاميين التحرر من الانغلاق في التقاليد الموروثة وحاولوا إعطاء العقل حقه في التفكير بحرية من أجل تحقيق العدل والمساواة. وعلى نهجهم حاول المرحوم علال الفاسي البحث في التوازن الذي يجب أن يقع بين العدل والحرية والدين الإسلامي داخل المجتمع المغربي لكن مشروعه الإصلاحي أجهض هو كذلك بسبب ضعف الدولة في مرحلة التمزق وكذا بسبب الأمية التي يعاني منها شعبنا. إننا محتاجون الآن إلى مشروع بقيمة تلك المشاريع ، مشروع قادر على رسم طريق واضحة توثر العدل مثلما توثر الحرية في توازن يخلقه الإسلام. إن أحكام الإسلام تخص العقيدة لكنها تخص كذلك المعاملات. فهي بسيطة الفهم وسهلة التنفيذ. ولن يضرنا استعمالها مع الاستفادة من تطور الحضارة ومن التجارب الإنسانية. فلا ضرر مثلا في تطبيق الديمقراطية أو في احترام حقوق الإنسان. لكن ذلك يجب أن يتم في تناغم مع هويتنا الإسلامية. وارتباطنا بالدين الإسلامي لا يمكن إلا أن يكون مثمرا وإيجابيا لأن شعبنا يعيش بالعقيدة الإسلامية ويتنفسها. فنحن نصلي خمس مرات يوميا ونبسمل عند النوم والأكل وأي شيء وندعو الله في كل فترة نستفرد فيها بأنفسنا. إنها مظاهر تساعدنا على الارتباط المستمر بالإسلام. لكن ارتباطنا لا يسمح لنا باستغلاله في أغراض سياسية سلطوية. فالسلطات واضحة ومرتبة بين ما هو تنفيذي وتشريعي وقضائي. بمعنى آخر، ولحد الساعة، فإن الإسلام صالح للاستعمال في السياسة بل ضروري بالنسبة إلينا لكنه غير صالح للاستعمال في السلطة. وفي الأخير أقول إننا محتاجون إلى استرجاع تاريخنا دون الرجوع إليه على أساس أن نقوم بدراسته والاستفادة منه بهدف الاستمرار. أما جهلنا للتاريخ وتجاهلنا له فهو جهل للنفس وفقدان لبوصلة الحياة. ولنفعل كما قال الله سبحانه وتعالى: "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى وأن تتفكروا" سورة سبأ. صدق الله العظيم.