في الصورة حسن أوريد لا أخفي من بداية هذا المقال إعجابي بالكتاب الأخير"مرآة الغرب المنكسرة" للدكتور حسن أوريد، لما فيه من قوة وصراحة وقدرة متميزة على الغوص في الخلفية العقائدية والفكرية والحضارية للتيار الحداثي في مصدره وجذوره وكذا في انعكاساته وتجلياته في العالم الثالث عموما وعالمنا الإسلامي ومنه بلادنا على الخصوص، وقد جمع فيه صاحبه ما تفرق في غيره بخصوص نقد الحداثة مع ما تضفيه شخصية المؤلف من أهمية على الكتاب، فهو قد جمع ولو لفترة بين السلطة والثقافة، ومكنه موقعه من دوائر القرار من مزيد فقه بمراكز الثقل والتأثير في مجريات الأمور والأحداث، فخبر عن قرب ما يتحدث عنه في الكتاب، كما عرف بثقافته الأصيلة واعتزازه بالتراث العربي والهوية الأمازيغية وفي نفس الآن خبر الثقافة الغربية قراءة ومعايشة حيث لبث لزمن في الديار الأمريكية. هذه العوامل وغيرها تجعل من الكتاب مادة متميزة تزود قارئه بمزيد فقه بالواقع المحلي ومعرفة الشيء الكثير عن القابعين خلف الصورة الظاهرة والمحركين لها من وراء البحار، وقد نجح الكتاب من الانتقال من مجرد خطاب الدفاع ورد الهجمة الشرسة للحداثة الغربية، إلى تفكيك بنيتها الفلسفية وفضح مقاصدها وأهدافها الحقيقية وإثبات الردة والنكوص والتوتر النفسي والحضاري في الغرب عن قيم عصر الأنوار، وكأنه لم يعد للغرب ما يقدمه للبشرية غير طوافه حول الذات والتي تضخمت لديه إلى حد لا يرى في الصورة غيره، فلا يطيق الاختلاف ولا يرى غير الغطرسة والعلو والقهر وسيلة للتعامل. ففي بداية كتابه أكد أهمية التراث الديني و الأخلاقي في النسيج الرأسمالي ، غير أن التحول من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المالية أدى إلى تهديد ذلك التراث بالاندثار، فذلك التراث ورثته الرأسمالية ولم توجده، وهي ماضية في الانسلاخ عنه والتنكر له، وخصوصا مع مجيء ما يسميه بالحداثة المالية، حيث الاستعداد للتضحية بكل شيء جميل لدى الإنسان لمصلحة المال، باعتباره معبودا يحل في مكان وموقع مختلف المعبودات قبله، وتقدم مختلف القيم النبيلة قربانا في محراب عبادته. هذه الديانة الجديدة التي لا يكاد ينجو من سطوتها أحد، وحتى فلول الاشتراكيين في بعض البلدان الغربية أصبحوا بدورهم بتعبير المؤلف من المؤلفة قلوبهم, برواتبهم الخيالية , وبنظام عيشهم الباذخ, دون أن يتخلوا عن خطابهم. وتحركات المجتمع المدني رغم جدة نبرته أصبح بدوره ذيلا لأصحاب المال يسهم في التنفيس , ويضطلع بدور صمام الأمان . وهذه الحداثة المالية التي تريد ابتلاع كل شيء قد تسمح أحيانا بهوامش للحريات والحقوق مما يظهر أنه من بقايا فلسفة الأنوار غير أن ذلك يبقى في حدود المتحكم فيه والخادم لفلسفة السوق، فهي تسمح مثلا أن ينظم أصحاب كل غيتو - بحسب تعبير المؤلف - ما يتعلق بطائفتهم، وغير مسموح لهم أن يصلوا بتلك الحريات والحقوق إلى هدم تلك الغيتوهات ذاتها.. فمع هذه الحداثة تم تحوير الحرية لتخدم المصالح المادية على حساب القيم المعنوية والإنسانية، وتم إفراغ الديموقراطية من محتواها الخادم للإنسان لتصبح بدورها خادمة لسوق أصحاب المال، وانطلق العقل البشري من غير عقال بما يهدد بتدمير ذاته، وأطلق العنان لثورة الجنس لتهدد النوع البشري بالفناء، وحرفت وظيفة الإعلام وضاعت فيه الحقيقة أمام إغراء سلطة المال وأصبح يعمي ويضل بدل أن ينير ويهدي.. الحداثة في العمق عدوة للديموقراطية الحقة: كانت الديموقراطية أجمل ما قدمته الحضارة الغربية للبشرية في تدبير الاختلاف والتداول على السلطة، وحتى ولو قيل بأن الديموقراطية ليست أحسن النظم، فإننا يمكن أن نقول بكل اطمئنان بأنها أقل الأنظمة سوءا. فقد نظر مونتيسكيو كما يقول المؤلف (ص:138) بنبرة هادئة لتوازن السلط التي بدونها لا تستقيم الديمقراطية. "فكل من يملك السلطة مجبول على أن يستبد , و الحكمة تقضي أن توقف السلطة السلطة . و لكم يظل هذا التعريج التاريخي راهنيا في حاضر كثير من شعوب العالم الثالثية و بخاصة في العالم العربي الإسلامي .كل تمارين الديمقراطية بدون سيادة الشعب عبث و جري وراء طواحين الهواء ." ثم يذكر المؤلف معاناة الديموقراطية مع الحداثة الغازية، فمشكلتها (ص 144) هي المال و الأحزاب لجريها وراء السلطة ولهاث القياديين وراء المناصب , وازدواجية الخطاب , والرضوخ والاستسلام في غير موضعه , كما أن بنيات الأحزاب لا تؤدي بالضرورة إلى اختيار أحسن العناصر . فالميكانيزمات البيروقراطية للأحزاب تفضي إلى وضع الخيار على من يمثلون القاسم المشترك , ومن يمكن أن يكونوا ناطقين باسم الأغلبية ,ومؤتمرين باسم التوجه العام , لا الزعماء دوي الكاريزما و الذين يواجهون الصعاب و يبتكرون أمام النوائب المدلهمات.. ويبقى (ص 145 ) المال عاملا من عوامل تعرية الديمقراطية , تكاد الديمقراطية و نظام السوق أن يكونا متلازمتين لا تستقيم هذه إلا بتلك . قد يكون هناك نظام سوق بدون ديموقراطية و لكن لا يمكن تصور ديموقراطية بدون نظام سوق , وبعد كلاهما ينحدران من مبدإ الحرية و المبادرة الفردية . لذلك لم تسلم الديموقراطية من مثالب نظام السوق . ثم يقول (ص 148 ):" أية استقلالية لمرشح يصعد إلى الحكم بأموال ممولين كبار أو دول أجنبية ؟ " ويتمثل في تخلي الإعلام عن رسالته في معركة الديموقراطية وغيرها بقول (ص:150) ناشطة إسلامية مغربية انكبت على نقد الحداثة الغربية تشير إلى أن الاعلام قلب المبادئ الرنانة للديمقراطية رأسا على عقب , و نسف من القواعد الأسس الفلسفية للديمقراطية , وشوه ما يسمى بالتواصل روح الديمقراطية ,بل أضحيا عدوان لدودان . فالديمقراطية ميكانيزم لتمثيل الشعب و التواصل تقنيات لتضليله و التمويه عليه " فلم تعد الصحافة الطابور الخامس كما كان يقال بل أضحت مقدمة للجيوش و للعمليات العسكرية "وهكذا تبدأ الحرب الإعلامية قبل الإطاحة بهذا النظام أو إضعافه أو الضغط عليه , من أجل مبدإ نبيل مزعوم و مهمة حضارية وهمية ." ثم يقف على زيف العملية الديمقراطية في العالم الثالث يقول: "سيجول شباب من أمريكا لا يعلمون كثيرا عن ثقافة أمم سيحلون بها بصفتهم خبراء و ملاحظين ....وستكون الانتخابات نزيهة و شفافة تحت أنظار المراقبين الدوليين الذين لن يقفوا على مواطن الخلل . ستلتف تلك الأنظمة على العملية بمتن قانوني ملتبس لا فيما يخص قانون الاحزاب ولا فيما يخص عمليات الانتخابات و أشكال الاقتراع . كل هذا المتن القانوني و المسطري من أجل ضبط مسلسل الانتخابات فضلا عن التحكم عن بعد بكل الولاءات تحريك الارتباطات القبلية والأعيان ... و يقول أيضا :"حتى أمريكا لم تعد تؤمن بنشر الديمقراطية في أرجاء العالم ..." إن ما يهمها بالأساس هو ما تؤمن بأنه مصلحة ، مصلحة أمريكا كما يقول فريد زكرياء ::" الاستبدادية الديمقراطية . قبض وبسط , ضبط و انفتاح , انفتاح محدود في دائرة النخب المضمونة للغرب والحاضنة لقيمه : ليس من الضروري للخضوع للديمقراطية لأنه حيثما تطبق في أوروبا الشرقية تأتي بالأحزاب الشيوعية , و بالأحزاب الإسلامية في العالم العربي و الإسلامي ." ثم يتحدث عن سبب العزوف السياسي (ص:158) بكون السياسة أضحت جريا لأفراد وراء السلطة . وكل ما يشاع من برامج ومن تصورات هراء وعبث، فالبرامج و الأحزاب مطية السلطة . لقد أدى هذا الزيغ إلى نفور المواطنين و عزوفهم عن العملية السياسية عموما . لقد اقترنت الرأسمالية الصناعية بالديموقراطية أما الرأسمالية المالية فلا ترى في الدولة ولا الثقافة ولا الديموقراطية إلا حواجز تعيق مسيرة العولمة . العولمة سوق بلا حواجز و الديمقراطية تنتصب عائقا باعتبارها تعبيرا عن الهوية السياسة لدولة مثلما الثقافة هي تعبير لهوية أمة ما ...و يتمثل الكاتب وهو يحاول تصوير جناية الحداثة على الديموقراطية قول باربر : "إذا كانت الديمقراطية تحب السوق فإن السوق لا يحب الديمقراطية، ما الإنسان الحداثي في نهاية المطاف ؟ شخص له وعي بالرهانات الكبرى لمجتمعه ذو عقلانية و لكنه لا يؤمن بشيء و من أجل تحقيق مآربه فهو مستعد أن يتماهى مع الشيطان و يبرر ما لا يبرر .." فليست الخيانة في عرف الحداثة أمرا مشينا . والمهم بلوغ المبتغى بغض النظر عن الوسيلة . الحداثة تجني على العقل بمعاداتها للدين: يقول الكاتب (ص 158 ) :"لقد حررت العلمانية الإنسان من الخرافة و لكنها لم تبرئه من قلقه و أفضت به إلى الجري وراء المادة والجنس و العنف ... وهي ميادين كان الدين في ما سلف يتحكم فيها و يضبطها،وبين الكاتب من بداية كتابه أنه لم يكن تمرد المفكرين و الفلاسفة و العلماء في بداية النهضة منصبا على الدين كدين , بل على الكنيسة و فهمها للدين و تطبيقاتها له : فالقوام الفكري للغرب لم ينفصم قط عن عمقه الديني إلا بأخرة ... وقد " كان الدين المعين الحضاري , و الضابط الأخلاقي الذي يحد من غلواء العقل، و بقدر انزواء الدين , بقدر ما غشي العلم كل أوجه الحياة بلا حدود ولا موانع ولا طابوهات , وأضحى إيديولوجية ترفض أي نظرة غير نظرته ... وقد وقع تدخل بين النزعة العلموية (أي المبالغة في النزعة العلمية) و بين السوق (الرأسمالية المالية ) و الثورة الرقمية وهو ما أفضى إلى تحول غير مسبوق يتهدد إنسانية الإنسان . وغني عن البيان أنه لا عيب في العلم ولا ضير فيه و لكنه يضحي خطرا حينما يتحكم فيه السوق ، فعندما يوظف توظيفا سلبيا " ينسف الأسس الميتافيزيقية للمجتمعات ويتركها بلا أساس ..." ثم تمثل بما كتبت صحيفة ألمانية (ص 74-75 ) اثر استنساخ النعجة الدولي : " لقد طرد كوبرنيك الأديان من قلب الكون , و داروين من الطبيعة و يتأهب الخلق الذاتي لطرد الإنسان من ذاته " ثم قال (ص:79-80): " عبثا أن يحال دماغ الإنسان إلى آلة . وجريمة أن يصبح الإنسان مادة تباع و تشترى . تتبجح أدبيات الغرب الحقوقية باستئصال العبودية و بحقوق الإنسان، و مع ذلك لم يعرف الإنسان تشييئا كما عرفه مع سلطة المال و السوق ...." لم تصمد كل الدعاوى الدينية و الفلسفية و حتى الإيديولوجية أمام زحف السوق الذي شيأ الإنسان , باسم المبادئ النبيلة , باسم الحرية , وباسم تحرر الجسد ... مبادئ لم تكن في العمق إلا ذرا للرماد في العيون ... ويتساءل مع فورة العقل بلا عقال:هل يتجاوز الإنسان الحدود فيعمد إلى استنساخ نفسه ؟ لقد نجح مع النبات و كذا مع الحيوان. هل يخطو الخطوة ليستنسخ نفسه؟ لا تزال المجالس الأخلاقية و المؤسسات الدينية تنتصب ضد هذا الإغراء ...ولكن إلى متى؟ وهل يكسر الإنسان سلسلة النسب فيصبح الإنسان أبا نفسه و أخاها و ابنها , بشكل أبشع مما يحدث في زنى المحارم . أفلا يضع الإنسان نصب عينيه الاختلالات النفسية التي يحدثها كسر سلسلة النسب , أعني عدم الارتباط بأب بيولوجيا و عاطفيا .... ثم يستنجد بالضابط القرآني قائلا: في القرآن الكريم مفهوم يذهل المفسرين عن بعده الفلسفي لكي لا يرو فيه إلا جزاء و عقوبة وهو مفهوم الحدود . لا إنسانية للإنسان بلا حدود و تجاوزها إجهاز عليها , هو عقدي وجودي , على غرار العقد الاجتماعي . من أجل الإبقاء على وجود الانسان و غايته في الوجود . تحريك الحداثة للثورة الجنسية وتوظيفها ضد الأسرة والأخلاق والدين: يقول حسن أوريد (ص88):" أصبح الجنس "بزنس متعدد المشارب , بل صناعة قائمة الذات استفادت من موجة العولمة لتكسر كل الحدود الترابية الأخلاقية و الحضارية ..." ثم قدم شهادة في حق دعاة حرية الجسد قائلا(ص:92):" هناك ترابط بين تحرير الجسد و بين الانتفاض ضد الدين , لن تشد هذه القاعدة سواء أنحن انتقلنا من سياق القرن التاسع عشر إلى القرن الواحد و العشرين , أو تحولنا من المجتمعات الغربية إلى ضفة الجنوب .... ويقول: بين الدين و دعاة تحرر الجسد حرب ضروس ذات أوار لا ينطفئ ... وحينما يود المتحررون , وبخاصة في المجتمعات الإسلامية أن يواجهوا الحركات الدينية يأتونها من باب الجنس .... لا جدال أن للجنس أو المجال له حمولة فكرية و إيديولوجية . ثم يكشف العداء المتأصل لدعاة تحرير الجسد للأسرة والأخلاق (ص98): يدعو "رايخ " : أحد منظري الثورة الجنسية " يتعين هدم الحواجز التي تنتصب أمام الحرية الجنسية و هي الأسرة و الأخلاق و كل أشكال الكبت الجنسي ". وقد " كانت نبرة رايخ مهدوية على الطريقة الماركسية . الثورة الجنسية قدر حتمي على غرار ثورة البروليتاريا و كما تقوم هذه الأخيرة ضد الملكية تنتصب الأولى ضد الأسرة." ويقول عن اختلاط المصالح في سوق الجنس الرائجة (ص103): "سوق الجنس مخترق بشبكات متداخلة يختلط فيها عالم المخدرات و أباطرته و أجنحة أمنية بل دهاقنة رأسماليين و سياسيين قوته من قوة العولمة ' من قوة الطلب الذي يحرك العرض ... لا يمنع التنديد الأخلاقي والضغط الثقافي من النفاق... حملة أو حملتين لامتصاص الغضب ضحية أو ضحايا لإسكات المحتجين ثم تعود المياه إلى مجاريها الآسنة "ويقول عن العداء المتأصل للأسرة (ص 105 ): " والعقبة الكأداء أمام موج الثورة الجنسية هي الأسرة وما تستند إليه من تربية دينية , يصطدم هذا الموج , موج الإباحية , بقلعة الأسرة , يحيط بها الماء والإغراء من كل جانب , تصمد كما تستطيع, وتتمرس في مواقف دفاعية , وقد تتصدع تحت عوامل تعرية الإعلام و تسويق الاستهلاك و الحداثة , الثورة الجنسية ملازمة للحداثة , في الغرب و حيثما تكون . الحداثة الغربية طبعا، حداثة الاستهلاك . " وكيف يلتئم نظام السوق و الأسرة ؟ السوق يأنف من المجانية و الإحسان , و الأسرة عالم المجانية والتضامن . الحداثة تحرف الإعلام عن وظيفته النبيلة: فإنسان ما بعد الحداثة مهيأ لكي يكون مستهلكا لبضائع منقولة و لصور ولتصورات ..ومن يملك الإعلام يملك صياغة العقول وتوجيهها وقد نجحت الحداثة المالية في الهيمنة على الإعلام وجعله خادما لأغراض أسواقها المختلفة في البضائع والأذواق والأفكار، ويجري التحكم من خلال آليات لا يستطيع منها فكاكا،و يظل الإعلان باعتباره مؤثرا في مسار الصحافة المكتوبة و في خطها التحريري ... جاء في الكتاب (ص:117):"هو ذا الاختراق الأول للصحافة . اختراق أشبه ما يكون بإغراء الشيطان , شيطان ميستوفليسي يمنح غريمه الفتوة مقابل روحه " ثم يقول:(ص 124 ): لقد أصاب العالم الاستراتيجي الألماني كلوزفيتس الرمية حين قال بأن أولى ضحايا الحروب هي الحقيقة . لا جدوى من تلمس الحقيقة من الإعلام أثناء الحروب .والحرب من العالم الغربي حالة مستمرة تختلف أشكالها . حروب ايديولوجية كما عرفتها الحرب الباردة أو حروب بالوكالة يقوم بها آخرون أو حروب تحررية ضد الاستعمار تعرض وفق رؤية المستعمر ثم هناك الحروب التجارية التي لا تنتهي ...فالإعلام أحد الأسلحة الثقيلة في يد دهاقنة العولمة يقول (ص 130): " العولمة في نهاية المطاف أمركة , وهذه الأمركة لا تكتفي بالمنتوج المادي . ولكنها تستند على مجموعة من القيم و التمثلات و المفاهيم تلك التي يشيعها الاعلام و السينما و المسيقى و الشوبزنس ..." وما يراد في نهاية المطاف هو مواطن سلس , مدجن , مقولب لا مكان عنده للحاسة النقدية . التقنوقراطيون أداة طيعة في يد الحداثيين: لما كان العداء متأصلا من الحداثيين للديموقراطية، كان من اللازم التركيز على نوع معين من التقنوقراطيين لتصريف مشاريع الهيمنة على كل شيء داخل المجتمعات الغربية وخارجها ، يقول حسن أوريد (ص 161): التقنوقراطي هو السادن أو حامي معبد الحداثة فهو مالك أسرار بنيات ضخمة غير شخصانية تقوم على التخصص والفعالية "هذه النوعية من الأدوات البشرية تزداد خطورتها في العالم الثالث ومنها بلاد المسلمين، يقول المؤلف (ص:177):"إن عيوب التقنوقراطي في الغرب مهما جلت يحد منها توزع مراكز القرار و وجود مراكز سلطة مضادة وجتمع مدني قوي و صحافة مؤثرة .... أما في العالم الثالث فسطوة التقنوقراطي تصبح نوعا من الاستبداد الظلامي . ولم يخف حسن أوريد تذمره وسخطه من تدبير ملف التعليم وما يتعلق بالتنمية البشرية ببلادنا كمثال لاستئثار التقنوقراط بغالب تدبيرهما، يقول(ص:178): " لقد كان التعاطي مع ملف التعليم والفقر تعاطيا تقنوقراطيا صرفا و عرف هذان الملفان تعثرا بينا رغم الجهود التي بذلت وتبذل .... ولكن ألا يبدو أن من أسباب التعثر هي السعي إلى إسكاب الواقع في قوالب جاهزة ؟ هي عدم ربط التعليم بمنظومة أخلاق وثقافة مجتمع ...."وطالما اتهم معظم التيقنوقراط بانفصالهم شعوريا عن مجتمعاتهم ووفائهم أكثر للدوائر التي كونتهم وبكونهم أداة طيعة في يد أهل السلطة والمال. ماذا يريد الحداثيون من الدين؟ رغم العداء الكامن من الحداثي للدين، فليس عند مانع من توظيفه، فالدين كما يقول المؤلف ( ص: 180) : ليس أفيونا إلا حين يراد له أن يكون كذالك ، ولهذا فدهاقنة الحداثة في الغرب يريدون مثلامن الحكومات الحليفة أن تقوم بدلا عنهم باحتواء الإسلام أو بإشاعة إسلام معين " وأكثر من ذلك كما يقول المؤلف(ص: 186 ):" بل يتدخل في الحقل الديني عبر علاقات مع المؤسسات الرسمية المهادنة من منظور تصور معين للإسلام . وبعد كما قال أمريكي فهناك وجهان للإسلام , وجه إنساني هذا الذي يشيعه التصوف و رقصات الدراويش , وهناك إسلام حركي مشبوه و منبود " وفاء الإسلام للقيم الإنسانية وخيانة الحداثيين لها: فالإسلام بحسب المؤلف مرآة للغرب قبل أن يخون قيمه. وهو مرآة لحضارة عريقة لها ما تقدمه للإنسانية ، يقول الكاتب (ص 188 ): "للغرب ما يقدمه للإنسانية مثل ما قدم قبل قرون عدة حينما ارتبط بأنواره , و للإسلام ما يقدمه للجم جموح المادة والشهوة وإغراء الصورة واستغلال الرأسمالية " وحتى من يمثلون الإسلام لا يجوز الوقوف على الصورة النمطية التي تبعث على التقزز وتعمم حالات معزولة لصور الإرهاب والتخلف، وإنما لابد من الانتباه إلى (ص:189):"صورة لشرائح واسعة انتهت إلى الإسلام، من الأرض الصلبة للحداثة، من معرفة عميقة بها، وتمثل واع لطرق الغرب. هم أطباء ومهندسون وجامعيون ومثقفون انتهى بهم مسارهم إلى تبين مأزق الغرب...نجدهم في بلاد الغرب وفي بلدانهم يطبع خطابهم الهدوء والتعقل، ويتسم سلوكهم بالسكينة، هم من سيحمل مشعل الإسلام غدا.." إنه يدعو للتعاون من أجل إحقاق الحق ودعوة العدل من أجل خدمة الإنسان" إنسان يعمل العقل، و لكن دون أن يشتط به أو يركبه الغرور فيطيح به العبث الذي استهوى فريقا من الذين فقدوا كل مرجعية للخير و الشر." الأمل في النخبة من الطبقة الوسطى لإحداث التغيير والوقاية من زلزال الحداثة: وبخصوص بعض ما يراه الكاتب من حلول ممكنة للخروج من قبضة الحداثة المدمرة بالإضافة إلى إعادة الاعتبار لقيم عصر الأنوار في الغرب والارتباط بالقيم والأصول في العالم الإسلامي، المراهنة في التغيير على الطبقة الوسطى، شريطة التحرر من سطوة عبادة المال، يقول (ص:61 ): "تبقى الطبقة الوسطى بؤرة تمرد ضد زيغ الرأسمالية المالية ..." ويراهن على أنها قد تؤثر في الوضع العام الاجتماعي و السياسي إن هي أخذت على عاتقها التعبير عن هموم الطبقات الشعبية و مآسيها ... فالطبقة الوسطى تستطيع أن تضطلع بهذا الدور, " من باب أولى في الدول الثالثية المرتبطة بالعولمة ... نعم، لا تزال شرائح منها مرتبطة بالسلطات الحاكمة و تحوم حول سلطة الرأسمال , و لكن لا شيء يمنع أن تغير ولاءها فتنأى عن الطبقات الحاكمة و ترتبط بالجماهير. ولا بد في السعي لذلك ومعه من تضحيات من أجل ترسيخ الديموقراطية الحقة يقول: (ص 139): "الديمقراطية هي ضمير متجدد و تضحية، لأنها كانت دوما معرضة للمصادرة ."