من يُتابع الموقف الأمريكي في مواجهة الثورة الشبابية-الشعبية في تونس ضدّ زين العابدين بن علي ونظامه، يمكنه أن يلحظ ثلاث مراحل كان لها في كل مرحلة موقف سياسي. ففي الأسبوعين الأولين أو ما حولهما، كان الموقف الأمريكي باردا من الحركة الشعبية، بل كان منتظرا من زين العابدين وقوات أمنه، المدربة والمسلحة أمريكيا، أن يقضيا على المفاوضات، ويجري «إصلاحات» على القياس الأمريكي بالطبع، وذلك في محاولة للظهور بمظهر غير الموافق على الاستبداد والفساد. ولكن أنى يكون لأمريكا أن تكون ضدّ الاستبداد الذي مارسه بن علي ونظامه وقد حالفته ودعمته، بتوصية من الموساد الصهيوني، طوال العقود والسنين السابقة للانتفاضة، فيما كان الرئيس وعائلته ونظامه غارقين في الفساد إلى آذانهم وفيما كانت أموال الفساد تتدفق على بنوك أمريكا وأوربا وأسواقهما العقارية. ولكن عندما فشلت قوات الأمن في قمع الثورة وطلب زين العابدين إنزال الجيش، بدأت الإدارة الأمريكية تصرّح بأنها تحترم إرادة الشعب التونسي فيما راحت تراهن على الجيش ليلعب الدور الذي فشلت أجهزة الأمن في لعبه، أي سحق التظاهرات، ثم راحت تساوم من أجل إيجاد حل دون سقف رحيل زين العابدين. الجيش وقف عاجزا أمام تدفق الآلاف وعشرات الآلاف إلى الشوارع في كل مدن تونس وبلداتها حتى وصل الأمر إلى العاصمة تونس، حيث لم يعد أمام الجيش إلا طلب رحيل زين العابدين، ولكن دون المساس بالنظام. وهنا أصبحت أمريكا تتحدث عن تأييدها للتغيير الذي حصل، وذلك من أجل الالتفاف على أهداف الثورة والعودة بتونس إلى إنتاج نظام بن علي، وهي ما زالت في هذا الوضع في مواجهة مع إرادة الشعب بآلافه المؤلفة التي ما زالت في الشارع تواصل سعيها إلى تحقيق أهداف الثورة. باختصار، الموقف الأمريكي كان مُعاديا للثورة، ولم يزل، وكيف لا يكون والثورة تطيح بعميل أمريكي-أوربي-صهيوني ونظامه. وبهذا لم تختلف المراحل الثلاث التي مرّت بها المواقف الأمريكية في مواجهة الثورة الشبابية-الشعبية-المليونية في مصر عن تونس، وذلك عدا الدور المكشوف الذي لعبه المبعوث الأمريكي فرانك ويزنر عندما جاء إلى مصر، في 1/2/2011، واجتمع بحسني مبارك وأركان نظامه في حينه، وأُخِذ قرار شنّ الهجوم المضاد الذي تعرّض له المعتصمون في الميدان. وقد استُخدِم رجال الأمن ومَنْ حول النظام من عصابات في هذا الهجوم بعد أن ارتدوا ألبسة مدنية لتبدو المعركة بين أطراف من الشعب المصري. وهنا أطلق العنان لهؤلاء لاستخدام أقصى أشكال الوحشية تحت حجّة أنهم غير رسميين، وإنما أطراف «شعبية» معارضة. ولكن بطولة الذين صمدوا أمام هذه الهجمة التي سمّيت بهجمة «البلطجية»، كما بطولة الذين تعرضوا لها واشتبكوا مع البلطجية، أحبطتا هذه المرحلة من مراحل الصراع مع الثورة. وكانت أمريكا، بلا جدال، طرفا مباشرا في اتخاذ قرارها، وفي تغطيتها بالتصريحات الأمريكية التي اعتبرت ما يجري غامضا ولا معلومات لديها عن المهاجمين، وذلك لإعطاء الفرصة الكافية لإنجاز المهمة من خلال تلك الهجمة الوحشية التي استهدفت إخراج المعتصمين من ميدان التحرير. هنا اضطر الموقف الأمريكي، بعد أن فشل هذا الهجوم المضاد وبعد أن سبق وفشلت قوات الأمن المدربّة والمسلحة أمريكيا في أن توحي بأنها مع إحداث تغيير سريع وفوري، مما فُهِم منه أن لا مانع لديها من رحيل حسني مبارك، وقد أصبح رحيلا حتميا. وكان الهدف الثاني بعد محاولة امتصاص النقمة عليها (أمريكا) من قِبَل الملايين من المصريين، أن تبدأ عملية الالتفاف على الثورة لإعادة إنتاج نظام حسني مبارك. فسياسات حسني مبارك كانت ثابتة لأمريكا، وعلاقاته بالكيان الصهيوني كانت حسب المطلوب أمريكيا، وكذلك كان الاستبداد الذي يُصادِر حريّة الشعب وإرادته، كما الفساد الذي ينهب أموال الناس والدولة ليصدّرها إلى بنوك أمريكا وأوربا. أما الموقف الأمريكي من الثورة الشعبية في ليبيا ضدّ معمر القذافي فقد اختلف شكلا، بسبب الخصوصية التي اتسّم بها الصراع في ليبيا وبسبب التجربة مع تونس ومصر. ففي الأسبوع الأول، صمتت أمريكا وأوربا صمتا كاملا لإعطاء كل الفرصة للقذافي لقمع الثورة بكل ما أوتي من قوّة، وهو ما فعلته مع مصر وتونس. الأمر الذي دفع محللين كثيرين إلى الحديث عن صفقة سابقة تمت بين القذافي والإدارة الأمريكية والاتحاد الأوربي مفادها أن يستجيب لكل ما هو مطلوب منه أمريكيا، وهذا ما فعله منذ عام 2003، بما في ذلك أن يلعب دورا نشطا جدا في دعم انفصال جنوب السودان والتهيئة لانفصال دارفور وغيره من المناطق لاحقا. أما في المقابل، فقد تعهدّت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوربي بعدم التعرّض للقذافي ونظامه، بل ودعمه. ولكن عندما تحرّرت بنغازي وبدأت تلحق بها مدن أخرى وبدا القذافي معزولا وآيلا للسقوط، بدأت أمريكا تتحدث في الأسبوع الثاني عن احترام إرادة الشعب، مفسحة المجال لما قد تسفر عنه التطورّات الداخلية. ولكن عندما أخذ القذافي، رغم عزلته وضعفه، موقف التحدي واعتصم ببعض المناطق مستعدا لخوض حرب دموية.. أخذ الموقف الأمريكي يتحرك ضدّه كما عبّر عن ذلك إصدار قرار من مجلس الأمن. ثم الحديث عن المقاطعة وتجميد الأموال والتفكير في فرض حظر جوّي فوق ليبيا، حيث كانت بِيَد القذافي بضع طائرات راح يستخدمها في قصف الثورة والشعب. ثم صعّدت أمريكا موقفها بتحريك المحكمة الجنائية الدولية المصهينة من خلال لويس أوكامبو ليتقدّم باتهام القذافي وأولاده ومعاونيه بارتكاب جرائم حرب. وهنا راح البعض يتوهّم أن أمريكا كانت، منذ البداية، مع الثورة وضدّ القذافي. مسألتا التلويح بالحظر الجوّي مع تحريك بعض قطع حاملات الطائرات باتجاه الشواطئ الليبية، كما التلويح بالمحاكمة، في ظرف صممّ فيه القذافي على القتال، يشكلان -عمليا- وضعه في زاوية تفرض عليه القتال حتى النهاية، وذلك حين يُسَّد في وجهه أي باب الرحيل. وبهذا تكون أمريكا تريد من القذافي أن يعجل باستخدام الطيران، ولا يجد أمامه أي مجال للانسحاب والهرب بعد أن سَدّت في وجهه خيار الرحيل. وبهذا، تكون أمريكا قد وضعت الثورة أمام التهديد الذي يمثله القصف وإدامة القتال أمدا طويلا لكي تساوم قيادة الثورة في المرحلة المتبقية لسقوط القذافي وتسحب منها التنازلات. من هنا، تكون السياسة الأمريكية في مواجهة الثورة الشعبية في ليبيا قد لجأت إلى إطالة أمد القتال الدامي ومنع القذافي من التراجع، كما حصل مع زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وذلك من خلال تدخلها الذي يبدو في ظاهره ضدّ القذافي ولكنه في واقعه يذهب إلى ابتزاز الثورة والحيلولة دون تحقيقها لنصرها الأكيد ضدّ القذافي الذي هُزِمَ منذ الأسبوع الأول، فخلاصة مواقف أمريكا منذ قرار مجلس الأمن متجهّة إلى عدم فتح باب للقذافي للرحيل وإنما للقتال المستميت. وهنا يُلحظ أن هذه السياسة الأمريكية استطاعت أن تؤثر في مواقف بعض الأطراف المشاركة في الثورة لتطلب منها فرض عقوبات واستخدام المحكمة وصولا إلى فرض حظر جوّي، الأمر الذي يسمح لها بأن تعقد الصفقات لتضمن دورا لها في ليبيا الجديدة.. ولكن هذا كله سيفشل، لأن يقظة الثورة في ليبيا وإرادة الشعب لن تقبلا بإعادة إنتاج سياسات القذافي إزاء أمريكا، ولأن أمريكا أصبحت أكثر هشاشة في مواجهة إرادة المقاومات والممانعات والثورات. وأخيرا، على كل الذين يمكن أن ينجرّوا وينخدعوا بالموقف الأمريكي أو بمحكمة أوكامبو الصهيونية أو بمجلس الأمن أن يضعوا ثقتهم في شعبهم ويجعلوا اتكالهم على الله، لإحراز النصر الذي أصبح قاب قوسيْن من التحقق ضدّ القذافي. وما مواقف أمريكا ومجلس الأمن ومحكمة أوكامبو إلا السمّ المدسوس في الدسم، فما من ليبي إلا ويُدرك ما انعقد بين القذافي وأمريكا من علاقة وصفقات، فكيف يكون هنالك من يذهب لتجريب المجرّب؟