لا يخامرني أدنى شك في أن الزعيم الليبي معمر القذافي يفرك يديه فرحا، وهو يتابع أنباء العملية البريطانية العسكرية المخجلة شرق مدينة بنغازي وانتهت باعتقال تسعة أشخاص، بينهم ضابط كبير في المخابرات، كانوا في مهمة استطلاعية لإقامة اتصالات مع قيادة المعارضة ودراسة احتياجاتها من السلاح والتدريب. فلم يتدخل الأمريكان والبريطانيون في طبخة عربية إلا وأفسدوها. وتاريخنا الحافل مع هؤلاء مليء بالقصص المرعبة في هذا الصدد، ابتداء من محادثات حسين مكماهون، والثورة العربية الكبرى التي تمخضت عنها، وانتهت بوضع الدول العربية تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي وإعطاء فلسطين لليهود، وانتهاء بالحرب على العراق تحت عنوان تغيير الحكم خدمة للشعب العراقي بمعاونة بعض المحسوبين على العراق. التلفزيون الليبي الرسمي بث تسجيلا صوتيا لمكالمة هاتفية أجراها السفير البريطاني في ليبيا، ريتشارد نورثرن، من مقر إقامته في لندن وكان يتحدث اللغة العربية بشكل جيد مع متحدث باسم السيد مصطفى عبد الجليل، قائد المجلس الوطني المؤقت، الذي يمثل الثوار في المناطق الليبية الواقعة تحت سيطرتهم. الغالبية الساحقة من الشعوب العربية تعاطفت مع الثورة الليبية المشروعة لأنها بدأت سلمية وضد نظام ديكتاتوري دمر ليبيا وأهدر ثرواتها وتقلب في تحالفاته ومواقفه بشكل بهلواني، ولكن هناك مؤشرات مقلقة تؤكد أن بعض القوى الغربية، وبتحريض من قبل بعض «الكرزايات» الليبيين والعرب، تريد خطف هذه الثورة وتفريغها من معانيها السامية وتحويلها إلى «كونترا» ثانية. نحمد الله على أن السيد مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الليبي المؤقت، أمر باعتقال الخلية البريطانية «الجيمس بوندية» وأطلق سراح أفرادها لاحقا، مؤكدا رفضه مثل هذا التدخل البريطاني وإصراره على أن الليبيين قادرون على تحقيق الأهداف المرجوة دون الاستعانة بأي تدخل خارجي. الثورتان الرائدتان في كل من مصر وتونس حظيتا باحترام كبير لأنهما كانتا مدنيتين، لم يلجأ الثوار فيهما إلى السلاح مطلقا، كما لم يستعينوا بأي قوى خارجية، بما في ذلك اللجوء إلى الأشقاء العرب، أو حتى طلب اجتماع لجامعة الدول العربية، وهذا ما يفسر نجاحهما في نهاية المطاف، إلى جانب أسباب أخرى شرحناها في مقالات سابقة. ما لا يفهمه الأمريكان والإنجليز وكل المسؤولين الغربيين المنافقين أن الليبيين الشرفاء يريدون إنهاء نظام طاغية، وليس البحث عن أسياد جدد، وخاصة الدول الاستعمارية الغربية، ومحاولاتهم الدؤوبة للتدخل أو اختراق الثورة الليبية ستدمرها وستعطي نتائج عكسية تماما. العقيد معمر القذافي يريد شق هذه الثورة وإحداث انقسامات في صفوفها، بما يؤدي إلى إضعافها، متبعا في ذلك أساليب شيطانية مثل اللعب على العنصر القبلي وتوظيف الأموال لشراء الذمم، ويبدو أن العالم الغربي يقدم له مساعدات قيمة في هذا الصدد، سواء بحسن نية أو سوئها، وإلا ما معنى أن يرسل ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، جواسيس على متن طائرة هليكوبتر مزودين بالخرائط ومعدات التجسس والأسلحة ودون أي تنسيق أو طلب رسمي غير محاولة إحراج الثوار الليبيين وتشويه سمعة ثورتهم. في الميدان الرئيسي لمدينة بنغازي لافتة كبيرة تقول «لا للتدخل الأجنبي.. الليبيون يستطيعون إنجاز المهمة وحدهم». هذه اللافتة تلخص أجمل قيم الثورات العربية، والليبية منها على وجه الخصوص، فلماذا الانحراف بالثورة الليبية من كونها امتدادا للثورتين التونسية والمصرية إلى صيغة مختلفة تماما، مثل الجهاد الإسلامي في أفغانستان أو الحرب على العراق بدعم من القوى الغربية. بالأمس (يقصد الاثنين)، نشرت الصحف الغربية تقارير إخبارية عن طلب تقدمت به الإدارة الأمريكية إلى العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز بإرسال أسلحة إلى الثوار الليبيين، وألحوا على إرسال صواريخ وقذائف مضادة للدبابات ومدافع مورتر، ولكن العاهل السعودي، الذي لا يكن أي ود للزعيم الليبي، رفض هذا الطلب لعواقبه الوخيمة أولا، ولأن بلاده مقبلة على انتفاضات ومظاهرات احتجاجية صاخبة في الأيام المقبلة، أي أنه لا يريد أن يقع مرة أخرى في مصيدة أفغانية الطابع أو مغامرة دعم كونترا جديدة، ولكن عربية هذه المرة. الثوار الليبيون أدانوا بشدة استخدام العقيد القذافي مرتزقة أفارقة في حربه ضد أبناء شعبه المنتفضين، وحظوا بتعاطف الكثيرين، ترى كيف سيكون حال أنصار النظام الديكتاتوري إذا ما استعانوا، أي الثوار، بمرتزقة أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين؟ نجدد تأكيدنا، للمرة المليون، على أن النظام الديكتاتوري في ليبيا هو قمة السوء، ولكننا نضع أيدينا على قلوبنا خوفا من مستقبل مرعب لليبيا يؤدي إلى تدمير هذا البلد وتمزيق وحدته الوطنية ورهن ثرواته في خدمة المصالح الغربية. فديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا، الذي كان أول زعيم غربي يزور مصر بعد رحيل حسني مبارك مخلوعا، للاحتفال بانتصار الثورة الديمقراطية مع شباب ميدان التحرير، شارك في معرض أبوظبي للسلاح على رأس وفد يضم ثمانية من ممثلي أكبر شركات الأسلحة البريطانية لعقد صفقات ضخمة مع أنظمة عربية ديكتاتورية قمعية تطالب شعوبها بإسقاطها. كيف نثق بأحاديث هؤلاء عن الديمقراطية، ومساعدة الشعوب للوصول إلى الحريات واحترام حقوق الإنسان، والتخلص من أنظمة القمع والقهر. وكيف سنتعامل مع مناطق الحظر الجوي التي سيقيمونها ويفرضونها بقوة السلاح وطائرات الأواكس؟ أصبنا بخيبة أمل كبرى عندما سمعنا آلان جوبيه يعلن، وبعد اجتماع مع السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية، ترحيب الجامعة بإقامة مناطق حظر جوي في ليبيا، ودون أي تشاور مع الثوار الليبيين أو الحصول على موافقتهم المسبقة بالتالي. لا نعتقد أن السيد موسى، الذي تنتهي فترة ولايته أمينا عاما للجامعة مع نهاية هذا الشهر، ينطق عن هوى، ولا بد أن أطرافا عربية تدفع في اتجاه خطوة فرض الحظر الجوي هذه، وكنا نتمنى لو أنه تأنى قليلا أو ذهب في إجازة طويلة لأخذ قسط من الراحة استعدادا لمعركة انتخابات الرئاسة التي يستعد لخوضها. ونجد لزاما علينا التنبيه إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن الولاياتالمتحدة لم تعد القوة العظمى الوحيدة في المنطقة، وأن هناك قوى عظمى أخرى، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، قد يكون لها رأي مخالف في ما يتعلق بمسألة الحظر الجوي هذه انطلاقا من مصالحها الاقتصادية، ربما يطيل عمر النظام الديكتاتوري الليبي في الحكم. باختصار شديد، لا نريد ليبيا أن تتحول إلى ساحة صراع، ليس فقط بين نظام ديكتاتوري قمعي وثوار شعبه من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة وإنما بين القوى العظمى، بحيث يدفع الليبيون والعرب جميعا ثمنا باهظا في نهاية المطاف من أرواحهم ودمائهم وثرواتهم واستقرار بلادهم. نحن أمام «لعبة أمم» جديدة، وضعتنا فيها هذه الأنظمة الديكتاتورية العربية الحليفة للغرب والخادمة لمصالحه، ويتحمل الزعيم الليبي معمر القذافي وأبناؤه وبطانته الفاسدة المسؤولية الأكبر في كل ما سيجري لليبيا وشعبها، لأنه لم يقم حكما رشيدا أولا، ورفض التجاوب مع ثورة شعبه السلمية (في بداياتها) بمغادرة الحكم وتسليمه إلى الشعب مثلما كان يقول دائما، وهو قول نكتشف يوميا أنه أبشع أنواع التضليل والخداع.