في ظل تحولات جذرية تعرفها منطقة شمال إفريقيا بوتيرة متسارعة، برزت التحركات القوية للإدارة الأمريكية من خلال مواكبة مجريات الأحداث والضغط من خلال التصريحات الرسمية والتي وصلت إلى حد خطوط التدخل عسكريا، إن اقتضى الأمر، كما في الحالة الليبية. في سياق هذا الوضع المليء بالأحداث والمتطور، جاءت زيارة المبعوث الأمريكي ويليام بورنز الخاطفة للمغرب بعد عدة محطات شملت ضفتي المتوسط مرتبطة مباشرة بتحولات المنطقة. مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية كانت رسائله إلى السلطات السياسية المغربية واضحة ومشفرة في ذات الوقت. ففي الندوة الصحافية المشتركة مع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الطيب الفاسي الفهري، بدا واضحا من خلال ملامح الرجلين عدم الارتياح، وربما عدم الرضى، وهو ما سيتكشف مع مجريات الندوة التي تحكمت فيها، عموما، الكلمات المقتضبة وعدم رغبة الخارجية المغربية في طرح الصحافة والحاضرين للأسئلة. خطاب ويليام بورنز كان محددا ودقيقا جدا، حيث انطلق من التأكيد على الاستثناء المغربي كحالة نوعية في شمال إفريقيا، مذكرا ومشيدا في نفس الوقت بالإصلاحات التي أطلقها المغرب على الصعيد السياسي لتعزيز الديمقراطية والانفتاح، وكذا على الصعيد الاقتصادي لتحقيق التنمية. وركز المسؤول الأمريكي على مسألة أساسية تهم الشراكة مع المغرب، معتبرا ذلك من الأولويات والاهتمام لدى إدارة الرئيس باراك أوباما التي تسعى إلى تطوير المبادلات التجارية والاستثمارات مع المغرب. من جانب آخر، أشار الدبلوماسي الأمريكي إلى دور المجتمع المدني الذي تحدوه -حسب قوله- إرادة حقيقية لمواصلة مسلسل التحديث في المغرب، مجددا التعبير عن دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية لجهود المغرب برفعه التحديات على عدة مستويات من خلال الشراكة الفعالة وما تفرضه تحديات الألفية. رسالة مشفرة من ويليام بورنز مفادها أن المملكة المغربية ستحظى بالمساعدات الأمريكية بشكل مهم شريطة انخراطها بشكل أكبر وأقوى في مسلسل الإصلاحات السياسية العميقة، وأن تحولات المنطقة تفرض، أكثر من أي وقت مضى، استمرار المغرب في استكمال عملية الانتقال الديمقراطي للوصول إلى الديمقراطية بمنظورها الشمولي الجامع بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي. وفي معرض إجابته عن الأسئلة -التي لم يسمح وزير الخارجية المغربي لدى فتحه باب طرحها إلا بسؤالين، الأول مرتبط بمجريات الأحداث في ليبيا والثاني مرتبط بالنزاع حول الصحراء- كان الدبلوماسي الأمريكي واضحا في موضوع ليبيا، وذكر أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تعتبر احتجاجات المواطنين تعبيرا عن حقهم في التغيير، وأن الإدارة الأمريكية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الاستعمال المفرط للقوة ضد المواطنين، وهو ما يعتبر دعما أمريكيا لأي تحرك مدني شعبي في منطقة شمال إفريقيا. وهو التصريح الذي أغضب، في واقع الأمر، المسؤول المغربي الذي خرج عن دبلوماسيته معبرا عن رفض المغرب لاستعمال القوة من طرف السلطات الليبية ضد المحتجين -وهو ما يلزم وزارة الداخلية المغربية بدورها بعدم استعمال القوة ضد المحتجين- وعبر في نفس الوقت عن رفضه لأي تدخل أجنبي في ليبيا، وهو بذلك عكس تأييد موقف الحليف الاستراتيجي الفرنسي ولو بخسارات مقبلة مع الجانب الأمريكي في مجالات قد تكون حساسة بالنسبة إلى المغرب، كما بدا المسؤول الأمريكي غير مكترث لتعليق وزير الخارجية المغربي على المعلومة التي تناقلتها بعض الصحف حول مشاركة ميليشيات البوليساريو في المعارك الدائرة ضد المحتجين والثوار في ليبيا إلى جانب قوات معمر القذافي. أما في ما يتعلق بنزاع الصحراء، فإن رد الدبلوماسي الأمريكي كان واضحا ويحمل في ثناياه إرشادا وتوجيها للمغرب، فقد أكد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية مقتنعة بل وستستمر في اعتبار المبادرة التي طرحتها المملكة المغربية، والمتمثلة في تخويل سكان أقاليم الصحراء حكما ذاتيا موسعا في إطار سيادة المغرب الوطنية، جدية وتحظى بالمصداقية، مضيفا أن أمريكا ستواصل دعم جهود السكرتير العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي كريستوفر روس من أجل إيجاد حل سلمي لقضية الصحراء متفق عليه ومقبول من لدن الأطراف. جواب المسؤول الأمريكي حمل رسالة قوية لمسؤول الدبلوماسية المغربي الطيب الفاسي الفهري مفادها أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تبارك المبادرة المغربية وتراها جدية، غير أن العلاقات الدولية محكومة بقوانين دولية خارج الاحتكام إلى العواطف والتزاما بالبراغماتية التي تضيق وتتسع حسب ارتفاع نسب أسهم المصالح المشتركة بين ما هو اقتصادي سياسي وجيواستراتيجي. الرسالة الأمريكية وضعت الجانب الدبلوماسي المغربي أمام مسؤولياته في تحقيق خطوات فعالة في ملف الصحراء من زاوية الضرورة الملحة التي تفرضها الظرفية في سبيل التحرك المبني على تفعيل دور الدبلوماسية المغربية بشكل جدي، من خلال إدخال إصلاحات في الجهاز نفسه الذي يعاني حالة من الانكماش التي تجعله غير قادر على تسويق وجهة نظره بالشكل المطلوب ووفق التصور الذي وضعه الملك في بداياته. بالرغم من ذلك فإن تصريح ويليام بورنز يعتبر تحولا نوعيا في اتجاه إدخال مرونة على الموقف الأمريكي الداعم لجهود الأممالمتحدة، فالكل يتذكر الخبر الذي تناقلته بعض الصحف الأمريكية حول تراجع أوباما عن دعم مقترح المغرب في قضية الصحراء، عقب الرسالة التي تحدث فيها عن «إطار مقبول لدى الطرفين»، غير أن بورنز كان واضحا في زيارته الخاطفة حول المقترح المغربي القاضي بمنح حكم ذاتي للصحراء، والذي تتقاطع فيه الرؤية الاستراتيجية حول جديته ومصداقيته، يبقى فقط أن يحسن المغرب طريقة اشتغاله ومقاربته للملف في سبيل تحقيق الأهداف المرجوة. الخلاصات الأمريكية للمغرب عكست خطورة المرحلة ومتطلباتها، وبذلك صبت في اتجاه اقتراح إمكانية التجديد في سيرورة المجتمع المغربي من خلال الإبداع والمشاركة والقطع مع غياب المعرفة في الميدان العام ومجال القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، وتعتبر استكمال الإصلاحات رهينا بتشجيع الكفاءات وفهم الإنسان محور التطور الإيجابي والتخطيط والاستقلال الذاتي. إن التصورات والتحاليل والمناهج والسياسات والاستراتيجيات لا معنى لها إلا إذا كانت تتفاعل في ما بينها مباشرة من أجل إسعاد المواطن، فلا يوجد أسوأ من أولئك الذين يجهلون درجة جهلهم، من خلال أعمال تهدف إلى تصغير الخبرة والمبادرة. لقد آن الأوان لمعالجة الشرخ الحاصل بين القرار والخبرة، تماشيا مع المبادرات الملكية التي غيرت من صورة المغرب وقفزت به على أزمتين حقيقيتين إلى اليوم، أزمة اقتصادية عالمية وأزمة ثورات في المنطقة. وعليه فإن تحسين حكامة السياسيات العامة تبقى رهينة بتغيير الأدوات التدبيرية بدءا بتجديد النخب الحقيقية للوصول إلى القيمة المضافة.