بعد يوم 20 فبراير، انطلقت مجموعة من التقييمات لحجم المحتجين وجغرافية الاحتجاج ومضمون المطالب المرفوعة من طرف المتظاهرين. وجاء الخطاب الرسمي يركز على الأرقام، ويردد أن ظاهرة احتجاجات 20 فبراير عادية ومندرجة ضمن مسلسل «تراكم ديمقراطي»، واصفا ما حدث بعد 20 فبراير في الخميساتومراكش والدار البيضاء بكونه مجرد «هزات ارتدادية». إن أول صفة للسياسي هي الاستشعار والتوقع، فدعونا نشخص ما حدث بنوع من الواقعية بعيدا عن التصنيفات والنعوت التي تريد إقناع نفسها بأن مظاهرات 20 فبراير عادية، لنقول إننا أمام حركة احتجاجية جديدة لا علاقة لها بأجيال الاحتجاج التي عرفها المغرب إلى حد الآن، فنحن أمام حركة تنتمي إلى جيل القرن الواحد والعشرين، تقودها حركة شبابية ليست محكومة فقط برياح ما يجري في العالم العربي، وإنما أيضا بالقواعد السياسية والسوسيولوجية والحقوقية لتطور المجتمعات، حركة شبابية تسعى إلى انتزاع حقوقها بطريقة سلمية، لم تتعلم مبادئ الديمقراطية في بيت الأحزاب السياسية أو النقابات أو تنظيمات المجتمع المدني، وإنما تعلمتها في حوارات على «الفايسبوك»، لما دخلت في حوارات داخل فضاء عمومي افتراضي واستطاعت بناء تمثيلية مشتركة، دفعتها إلى الخروج وهي تحمل مطالب تنطلق من الدستور إلى محاربة الفساد. إنها حركة شبابية يبدو أنها تستمر ويمكن أن تكبر يوما بعد يوم، وهي تستوعب تدريجيا شباب الهوامش وتبني مطالب ذات حجية قوية قادرة على إعادة تأطير المخيال السياسي والاجتماعي أمام ضعف أدوات التعبئة التي توظفها الدولة والأحزاب السياسية. المطلوب اليوم هو فهم الحركة الاحتجاجية وتشخيص مضمون مطالبها لإنتاج إجراءات بهدف التجاوب معها واستيعابها قبل فوات الأوان، فالأمر لا يتعلق -كما يعتقد بعض المحللين الذين استضافتهم القنوات التلفزية الوطنية يوم 20 فبراير وبعده- بمطالب الشارع التي يمكن أن تختفي في أية لحظة لأن الشارع تغير معناه وتحول إلى سلطة. ويبدو أن المغرب يحتاج حاليا إلى أربعة أنواع من الأجوبة: الأولى تدبيرية وسريعة، مرتبطة بجودة الحياة (الشغل والسكن والصحة وضبط الأسعار والزيادة في الأجور..)، إضافة إلى إشارات مرتبطة بتطبيق القانون، فنحن أمام دولة تتطور بدون وجود مبدأ عدم الإفلات من العقاب، دولة استعصى عليها، إلى حدود الآن، إصلاح القضاء، وهي تقترب تدريجيا، إذا لم تكن هناك إصلاحات ملموسة، من فقدان مبدأ الأمن القضائي. النوع الثاني من الإجابات سياسي، مرتبط بالدستور، فالإصلاح الدستوري مورد أساسي في تقديم إشارات إلى بداية تغيير الحياة السياسية وطريقة اشتغال المؤسسات، فنحن أمام دستور قيس على مقاس الملك الحسن الثاني والمعارضة في سنة 1996، وبين 1996 و2011 تغيرت أمور كثيرة. النوع الثالث مرتبط بطريقة اشتغال الدولة وممثليها الترابيين، فأحداث 20 فبراير وما بعدها بينت أن المواقع الاستراتيجية للانتفاضات الحضرية في مغرب الثمانينيات والتسعينيات لازالت موجودة، وأعني هنا سيدي يوسف بنعلي في مراكش وحي بنسودة في فاس والحسيمة وطنجة، فالهوامش لازالت على حالها، ويبدو أن الدولة لازالت مركزية في منطق تطورها وإن كانت تشتغل ببعض أدوات اللامركزية، وبالتالي يطرح التساؤل: أين هي اللجنة الاستشارية للجهوية؟ وأين تقريرها؟ وهل حمل تقريرها توصيات تجمع ما بين ثنائية الإصلاح الدستوري وإصلاح المقدرات التوزيعية للدولة ووحداتها المحلية؟ فالسلوك الاحتجاجي المتمثل في ظاهرة الهجوم على منازل رؤساء المجالس الجماعية السابقين والحاليين يبين أن المستقبل يحمل ميلاد «احتجاج القرب» كرد فعل على محدودية عمل سياسة القرب. النوع الرابع، حال الرقعة السياسية ودور الأحزاب السياسية داخلها، إذ يبدو واضحا أن سقف مطالب الشباب تجاوز سقف تفكير الأحزاب، فنحن أمام أحزاب تعيد ترديد أطروحات قديمة تجاوز سقفها الجيل الجديد، وهي أحزاب سياسية لا تملك أدوات تعبئة جديدة تمكنها من بناء تمثيلية مع فئة المتظاهرين، أضف إلى ذلك أن مسار الحقل السياسي ما بعد 2007 يبين أن «حزب الأصالة والمعاصرة» كتجربة لجيل جديد من الأدوات السياسية، إذا ما انطلقنا من فرضية أن ميلاده ارتبط بحالة فراغ في الحقل السياسي بعد انتخابات 2007، فإن تقييم عمله يبين أنه وسع مساحة الفراغ داخل نفس الرقعة السياسية لضعف مقدراته على الوصول إلى فئات جديدة غير مسيسة من الشباب إذا ما قورنت المقدرات بالإمكانيات، وبالتالي ظل يلعب داخل الرقعة السياسية للأحزاب الأخرى بنفس الموارد البشرية السياسية. والسؤال الذي يطرح بعد 20 فبراير هو: هل ستقيد الدولة سقف حزب الأصالة والمعاصرة؟ وهل سيستمر في الاشتغال بنفس الطريقة رغم المخاطر التي ظهرت أمامنا؟ وكيف سيكون وضع الحزب في انتخابات 2012؟ إن المسافة التي تفصلنا عن انتخابات 2012 لازالت بعيدة، والتفكير في نقل المطالب إلى 2012 فيه خطر، فالسلطات مطالبة بالتحرك مادام سقف المطالب إلى حد الآن عاديا، ولكنه يمكن أن يرتفع في أي لحظة، فالشارع لم يعد عاطفيا، كما يعتقد البعض، فهو يسمع ويقيم الأحداث وينتظر، لكنه يكبر، وإذا كبر من الصعب التحاور معه.