إنها روائع أمنية لسيمفونيات الأجهزة الأمنية في العالم العربي. في وطن تحول إلى سجن كبير، الكل فيه يعتقل الكل، والكل خائف من الكل، والكل خائف من الاعتقال، يراه عن اليمين والشمائل في الحقيقة والمنام. وكل بناية في الوطن يمكن أن تتحول إلى سفينة أمنية عامرة بالزوار في بطنها. قبل أربعين عاما، كانت فروع الأمن محدودة العدد قليلة المجندين لا يزيد حجمها على بناية صغيرة. كما أذكر ذلك المكان القميء في القامشلي حين زربنا فيه عام 1963م في فرع الأمن العسكري في القامشلي ثلاثين شخصا في غرفة صغيرة، واليوم نمت الفروع الأمنية بأشد من السرطان القتاميني، وعظمت بأكبر من ديناصور لاحم، وارتفع عددها أكثر من أبواب جهنم السبعة، عليها تسعة عشر، للخارجي والداخلي والعسكري وأمن الدولة والأمن السياسي وفلسطين والحرس الجمهوري والقوى الجوية والأمن العام، وآخر من شكله أزواج، منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك. هذا ما كان على السطح، أما ما خفي فلا يعلمه إلا الله والراسخون في المخابرات. وأهم شيء هو استتباب الأمن. ولو تحول الوطن إلى مقبرة يمشي فيها حارس واحد وحفار قبور وجثث تتوافد وقبور تبلع. القوانين السبعة للمخابرات عندما اعتلى الثعلب محمد علي باشا كرسي الخلافة في مصر عام 1805م، طلب من وزيره الأرمني، آرتين، أن يترجم له من الإيطالية كتاب «الأمير» لمكيافيللي. وينقل علي الوردي في كتابه «تاريخ العراق الحديث» عن الوزير أنه كان يترجم له كل يوم عشر صفحات حتى كان اليوم الرابع حينما استوقفني قائلا: «لقد قرأت كل ما أعطيتني إياه من مكيافيللي، فلم أعثر على شيء جديد يذكر في صفحاتك العشر الأولى، إلا أنني كنت آمل أن تتحسن الحال. لكن الصفحات العشر الأخرى لم تكن أفضل، أما الأخيرة فليست سوى مجرد عموميات. إنني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيللي ما يمكنني أن أتعلمه منه، فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرفه، فلا داعي للاستمرار في ترجمته». وفي كندا، روت لي ابنتي، التي كانت تدرس العلوم السياسية في جامعة «مك جيل» في مونتريال، أن الأستاذ وقف في يوم فقال: هل تعلمون كيف يحكم حافظ الأسد سوريا؟ فبدأ الطلبة الكنديون الأبرياء الذين عاشوا عمرهم في الديمقراطية يعصرون أدمغتهم في محاولة استحضار كل أساليب الشيطان الممكنة. وفي كل مرة، كان الأستاذ يضحك من سذاجتهم ويقول لا.. لا.. إنه أذكى منكم جميعا. ثم بدأ يشرح بشكل هندسي ماكينة الحكم والعبقرية الاستخباراتية التي وصل إليها قائد البلد المذكور المنكوب. وكان تحت قانون المخابرات السبع مثل أبواب جهنم السبعة. 1) الفقرة الأولى، اعتماد الكذب هاديا ودليلا: يجب أن يكذب العنصر على زوجته التي في حضنه وأمه التي ربته لأنها أسرار الدولة أو هكذا يوحى إليه. وتحت آلية الكذب، يجب أن يكذب ولو لم تكن هناك حاجة إلى الكذب. وفي يوم، كانت زوجتي تسأل عن مصير زوجها عدنان الدباغ، رئيس المخابرات العامة، فقال لها: هو بخير وسنفرج عنه بعد أيام، ولكن زوجها لم يكن (بخير) بل كان يذوق العذاب الأليم ولم يفرج عنه إلا بعد سنة. والشاهد أن الجبار رئيس الفرع الأمني قوي ولا يحتاج إلى الكذب، ولكن الكذب أصبح في دمهم مثل الكريات الحمراء، فلا يتنفس ولا يزفر إلا كذبا. وفي النهاية، مات الدباغ الجبار، رئيس فرع المخابرات العامة مثل بعوضة وقملة، مختنقا بسرطان الرئة، ويوم القيامة هو من المقبوحين. ومن الغريب أن رجل المخابرات يسّود وجهه مع الوقت بما عانت نفوسهم، فطبعت النفس بصمتها على الجباه. وهي ظاهرة يعرفها من رآهم وعرفهم، تغشى وجوههم قطعا من الليل مظلما، وهي تحتاج إلى دراسة بذاتها. 2) والفقرة الثانية من القانون الاستخباراتي تنص على أنه لا ضمانة لأي شيء أو إنسان في أي زمان ومكان. وتطبيق هذه الفقرة هو استباحة المواطن في كل شيء. والمخابرات هنا ليست وظيفتها التجسس على الخارج بل التجسس على المواطن. وفي ألمانياالشرقية، كانت عند (الستازي STASI)، جهاز الاستخبارات، عشرون ألف غرفة للتنصت على المواطنين. وهو يذكر بمرض خطير في الطب هو التهاب اللوزات، تحت قانون حاميها حراميها، فهي في الأصل خلقت كجهاز للدفاع عن الجسم، ولكنها مع الوقت تتحول إلى وكر للجراثيم فترسل الذيافين والسموم إلى كل الجسم، فتلحس المفاصل وتعض القلب وتعطب الكلية. والأطباء عندها يلجؤون إلى الجراحة فيستأصلون اللوزات، وهو ما فعله الشعب الروماني مع السيكورتات التي خلقها تشاوسيسكو اللعين. وتحت الفقرة الثانية، يجب ترويض المواطن وترويعه واقتحام خصوصيته والاستيلاء على الفاكس في بيته ومصادرة سيارته ونهب ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة وإخضاعه للرب الأعلى، الذي اسمه الحاكم، لأنه ظِلُّ الله على الأرض، ويجب أن يرى المواطن المخابرات في المنام وأثناء مضاجعة زوجته تلوح في الأفق وتعكر كل حياته. يجب إدخال القلق وعدم الهدوء إلى ضمير المواطن ويجب أن يشعر بهم ولو هاجر إلى كندا واختفى في غابات يوكوتان. 3) والفقرة الثالثة تنص على استخدام أي أسلوب للوصول إلى المعلومة. وتطبيق مبدأ «الحلاوة والكرباج»، أي «حلحلة» المواطن بين قطبين من الترغيب المعسول والتهديد الماحق، وأي أسلوب مشروع، وكل حديث عن القيم ليس بقيمة، وكل المحرمات مسوغة، وإذا تطلب اغتصاب زوجة المستجوب فعلوا ولم يترددوا ويجب أن يكون الأمر بحضوره. وكان لينين يعطي تعليماته بشنق المعارضين بعد انتقاء كرام القوم وبحضور الناس أجمعين. وفي يوم، راجعت فرع الأمن السياسي (وهو أحد رؤوس التنين السبعة عشر)، وهي غصة مع كل مرة في دخول البلد أي فرع ينتظرك وأي جهة تطلبك، فينشف الريق ويبيض الوجه من سوء المآل، وفي أي قبو سيرسو المصير؟ لأكتشف أن الأمر يعود إلى تقرير كيدي من امرأة طلقها زوجها قبل عشرين سنة. وعندما راجعتهم، بدؤوا من نقطة الصفر لعلهم يفوزون بشيء جديد ينافسون به الفروع الأمنية الأخرى بعد أن تحول المواطن إلى حمار لم يبق على ظهره مكان للركوب. بدؤوا في السؤال عن نوع الحليب الذي تغذيت به في الطفولة، هل كان سيريلاك أو سيميلاك؟ وفي النهاية بعد مراجعة مضنية لمدة 17 يوما، قالوا له كان بإمكاننا اعتقالك من الحدود، قلت نعم أشهد بذلك. قالوا له إن الأمن في بلدنا مستقر، يشهد بهذا القاصي والداني، قلت لهم نعم أشهد، وقلت في نفسي إنه هدوء يشبه سكون المقابر، فلم يبق مواطن بل قبور تبلع وحفّار جاهز بالرفش وجثث تتوافد. وعندما صعدت الطائرة وأنا أنفض عني غبار الاعتقال، كان بجانبي راكب باكستاني قلت له: ما الذي لفت نظرك في بلدنا؟ تردد الباكستاني ثم قال: لم أر هدوءا وأمنا مثل هدوء وأمن هذا البلد. ثم تنحنح وبلع ريقه، وتابع: ولكن صور الزعيم كثيرة جدا في البلد، وفي صالة مستوصف حقير في خان أرنبة كانت على الجدران 17 صورة للبطل وابنه. 4) الفقرة الرابعة، الشك والشك بدون حدود: عندما انتشر تنظيم العباسيين في خراسان، كان أبو مسلم زعيم عصابة المخابرات، وكانت التعليمات تقضي بأن يقضى على كل مشتبه فيه ولو كان طوله خمسة أشبار. وفي يوم، قال ضابط أمني لواحد: هل تعلم لماذا ضحك عليكم فلان، وكان تاجرا جمع أموال الناس بدعوى الربح السريع الوفير، وكان منهم قسم من أفراد عائلتي وضعت في يده مليون ريال؟ قال: لأنكم تثقون ونحن لا نثق في أحد، ولو زوجتي التي في حضني وابنتي التي ربيت. يتبع...