في صحيفة «تشرين» السورية الحكومية، يكتب النائب اللبناني الأسبق ناصر قنديل، دون سواه، في مناسبة الذكرى العاشرة لتوريث بشار الأسد وأداء القسم للولاية الأولى: «كان مخططا للعقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن يكون عقدا يحمل اسم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن». لكنّ الأسد الابن وليس الأب، للتذكير «نجح في جمع الجسد والروح، جسد البراغماتية وروح المبادئ، في معادلة الدولة الوطنية»، و«نجحت معه سورية في تغيير معادلة العالم للقرن الحادي والعشرين، فتحولت حضن المقاومات من العراق إلى لبنان وفلسطين»، و«جاء الذين بشروها بأفول نجمها معترفين طالبين الصفح والدخول إلى غرفة الاعتراف ولو طال الانتظار». وبذلك فإنّ ‘العقد الذي كان مقدرا أن يكون عقد جورج بوش، هو بحقّ عقد الرئيس بشار الأسد في تأسيس قرن جديد تحكمه القيم الإنسانية ومعادلات الحق والعدالة». من جانبه يكتب جيم ميور، المراسل المخضرم لإذاعة الBBC في الشرق الأوسط: «عندما أدى بشار الأسد اليمين الدستورية رئيسا لسورية في السابع عشر من يوليوز عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد، فإنّ قلّة من الناس كانوا على استعداد للمراهنة على أنه سيبقى في منصبه طيلة عشر سنوات»، خاصة وأنه «تولى المنصب وهو يبلغ 34 عاما، بعد أن تمّ تعديل الدستور خصيصا لتمكينه من تولي الرئاسة، وهي السابقة الأولى لتوريث السلطة من الأب للابن في دولة يُفترض أنها ذات نظام جمهوري». ويستخلص ميور أنّ الأسد، بعد هذه السنوات العشر، ما يزال في السلطة، و«مع غياب أيّ تهديد منظور لحكمه، فإنه يبدو أقلّ ضعفا من أوقات أخرى عديدة، خلال العقد المنصرم». لكنّ «قبضته على أعنة السلطة تبدو أكثر وثوقا من أيّ وقت مضى منذ تسلّمه السلطة»، و«من المؤكد أنّ نقائض احتفاله بعقد ثان في الحكم سوف تكون أقوى ممّا كانت عليه سنة 2000». ورغم الفارق الشاسع في الذهنية التي تحكم الموقفين السابقين، بين ديماغوجية التطبيل والتزمير وفحشاء النفاق والتعظيم عند قنديل، والاتكاء على خلاصات الوقائع الظاهرة دون الولوج إلى أعماق الظواهر عند ميور، فإنّ المشترَك بينهما هو أنّ الأسد تمكن من البقاء في السلطة، سواء بسبب عبقريته الفائقة في جمع جسد البراغماتية بروح المبادئ كما يجزم بذلك قنديل، أو بسبب انعدام أيّ تهديد جدّي ملموس لسلطته كما يرى موير. الغائب، في المقابل، هو سلسلة الحقائق والوقائع والمعطيات التي تؤكد المعطى الأبرز في حفظ نظام «الحركة التصحيحية» بأسره، وليس عقد الأسد الابن وحده: أنّ النظام حظي، ويحظى، برعاية إقليمية ودولية إيرانية وسعودية ومصرية وتركية وأمريكية وبريطانية وفرنسية وروسية، دون أن تغيب الدولة العبرية عن الرهط، لأنّ النظام كان ويظلّ متعهد سلسلة من المهامّ التي تخدم أجندات شتى لصالح هذه القوى. وذاك سجلّ حافل، لعله ابتدأ من الخسائر العسكرية الفاضحة على الجبهة السورية، خلال حرب أكتوبر 1973، ثمّ مرّ باتفاقية خيمة سعسع، وإخراس جبهة الجولان، فلم تُطلق رصاصة واحدة تشي بانهيار السلام التعاقدي المبرم. واحتوى السجلّ على التدخل العسكري في لبنان، ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، والوقوف موقف المتفرّج أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ثمّ الانخراط في تحالف «عاصفة الصحراء». ولا تنتهي صفحات السجلّ عند اكتفاء الأسد الابن بالمعارك اللفظية أثناء العدوان الإسرائيلي البربري على لبنان، صيف 2006، وعلى غزّة، أواخر 2008، أو إشاراته المتكررة إلى أنّ غياب المقاومة في الجولان ناجم عن «قرار شعبي»، وليس بإرادة السلطة! وبصدد التفاوض مع الدولة العبرية، وافق النظام على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، وكان بذلك يعترف عمليا وحقوقيا بأنّ الدولة العبرية جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي. وفي سنة 1976، أيّد النظام قرارا لمجلس الأمن الدولي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، مقابل «ضمانات حول سيادة، ووحدة أراضي، واستقلال جميع الدول في المنطقة»، و«الاعتراف بحقّ هذه الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها». وبعد ستّ سنوات وافق الأسد الأب على «مبادرة الملك فهد» وخطة الجامعة العربية التي اعترفت عمليا بحقّ إسرائيل في الوجود. وفي عام 1991، حضرت سورية مؤتمر مدريد، ودشنت سلسلة اتصالات غير مباشرة، وأخرى مباشرة، مع مسؤولين إسرائيليين، شارك فيها أمثال رئيس الأركان الأسبق حكمت الشهابي، ووزير الخارجية السابق فاروق الشرع... السجلّ، في الشأن الداخلي الذي يخصّ الوحدة الوطنية وحقوق الإنسان والحرّيات العامة، لم تعد فيه زيادة لمستزيد: عشرات الآلاف من سجناء الرأي والمفقودين وضحايا التعذيب والقتلى، ومجازر هنا وهناك، أثناء المواجهات المسلحة بين النظام وجماعة «الإخوان المسلمين»، من دير الزور، إلى حيّ المشارقة في حلب، إلى جسر الشغور، فالذروة الوحشية في قصف مدينة حماة وتدمير العديد من أحيائها ومساجدها، خريف 1982. أمّا إسهام الأسد الابن في هذا السجلّ، فإنّ مدن وبلدات القامشلي والحسكة وعامودا وديريك والدرباسية وعين العرب وعفرين شهدت، في ربيع 2004، قيام السلطة بأعمال عنف مفتوح بالرصاص الحيّ ضدّ المواطنين، وكأنّ النظام كان يعيد إنتاج دروس مجزرة حماة، بغية تلقينها للمواطنين الأكراد هذه المرّة. والذين يمتدحون، أو يستغربون، بقاء الأسد الابن في السلطة، يتوجب أن يجيبوا عن السؤال البسيط التالي: مَن هي الجهة التي كانت مرشحة لإسقاط نظامه، في الأساس؟ وللمرء أن يبدأ من عامل القوّة الخارجية، فباستثناء إسقاط نظام صدّام حسين عن طريق الغزو الأمريكي المباشر، هل كانت واشنطن في عزّ صعود، وهيمنة، مجموعات المحافظين الجدد تنوي إسقاط أيّ نظام عربي آخر، ونظام الأسد خاصة؟ ألا يعترف موير نفسه، وهو العليم بأسرار السياسات البريطانية والأمريكية في المنطقة، بأنّ البيت الأبيض لم يمارس أيّ ضغط جدّي ثقيل على نظام الأسد؟ ألا يعترف، ونعرف جميعا، أنّ إدارة بوش الابن، وقبلها إدارات بيل كلنتون وجورج بوش الأب ورونالد ريغان وجيمي كارتر وريشارد نكسون، لم تفكر يوما واحدا في تغيير ذلك النظام؟ ثمّ إذا انتقل المرء إلى العامل الداخلي، فهل سقط نظام عربي آخر، استبدادي فاسد تماما أو نصف استبدادي شبه فاسد، بفعل التحرّك الشعبي، أو ضغط الشارع، أو أفعال المعارضة؟ أليست المعارضة السورية، رغم ضعفها وتفكك صفوفها ومعضلات خطابها السياسي والفكري وقصور أدواتها، حاضرة وحيّة على نحو لا يقلّ البتة، بل يتفوّق أحيانا، على سواها من المعارضات العربية؟ ألم تقدّم، وتواصل تقديم، أثمان باهظة جرّاء محاولات اختراق «مملكة الصمت»، حسب التعبير الشهير للمعارض السوري الأبرز رياض الترك، في وصف الحال التي آلت إليها سورية خلال العقود الأربعة من حكم «الحركة التصحيحية»؟ أليس استمرار حملات الاعتقال، وإحالة ناشطي الرأي وحقوق الإنسان إلى محاكمات كاريكاتورية فاضحة، والمنع من السفر، واعتماد مختلف أنماط التنكيل بالمواطنين أصحاب الرأي الآخر... بمثابة دليل ساطع على أنّ المعارضة حاضرة في قرارة سياسات الاستبداد؟ المرء، بالطبع، لا يعتب على مطبّل مزمّر مثل ناصر قنديل، حين يتغنى ب«النظام الديمقراطي» الذي بناه بشار الأسد، ولكن كيف لمراقب مخضرم مثل جيم موير أن يحصر معارضة النظام في شخص عبد الحليم خدام، أو جماعة «الإخوان المسلمين»، ليستخلص بعدئذ عدم وجود تهديد جدّي يمكن أن يطيح بالأسد؟ إذا كانت هذه معارضة الأسد، فما الذي يجبره على اعتقال ومحاكمة رجال من أمثال المحامي هيثم المالح (79 سنة)، أو المحامي مهند الحسني (حتى بعد أن تهاوت الأدلة ضدّه، وهي كاذبة زائفة أصلا)، أو إعادة اعتقال الناشط علي العبد الله وتقديمه مجددا إلى محاكمة كاريكاتورية (بعد أن أنهى حكما، جائرا أصلا، بالسجن 30 شهرا)، أو تفتيش زوّار فداء الحوراني وتركيب كاميرات تصوير بالفيديو أمام بيتها في مدينة حماة؟ وهل هذا سلوك نظام «منتصر»، «مرتاح»، «خارج من عنق الزجاجة»، «كاسر للحصار»، «مساند للمقاومة»، «قائد لانتصارات الأمّة»... كما تقول سلسلة التوصيفات الراهنة؟ في مطلع عام 1994، حين توفي باسل الأسد في حادث سيارة، كان شقيقه بشار في الثامنة والعشرين، وكان مدنيا، طبيبا، يهوى ألعاب الكومبيوتر وقيادة الدراجات النارية والإصغاء إلى ألبومات مغنّي البوب البريطاني فيل كولنز. وخلال أقلّ من سنة واحدة، تحوّل إلى عسكري، وتخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب (على نقيض من كلّ القوانين العسكرية المعمول بها في الكلية). وخلال شهرين فقط رُفّع إلى رتبة رائد، رغم أنّ القوانين تنصّ على خدمة لا تقلّ عن أربع سنوات قبل الترفيع إلى رتبة عليا جديدة. ولم يمض عام آخر حتى رُفّع الرائد إلى عقيد، قافزا على رتبة مقدّم، وما لا يقلّ عن ثماني سنوات قانونية للترفيع. وفي أقلّ من ستّ ساعات، أعقبت وفاة أبيه، رُفّع العقيد إلى رتبة فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة، بمرسوم وقّعه أحد مؤسسي نظام الاستبداد والفساد: عبد الحليم خدام... «المنشق» الراهن! ثم مضت أيّام قليلة قبل أن يصبح بشار الأسد أمينا عاما قطريا لحزب البعث الحاكم، وأمينا عاما قوميا (حتى دون أن ينعقد المؤتمر القومي للبعث!)، ومرشحا لرئاسة الجمهورية. ولقد تمخض الاستفتاء الرئاسي، إذْ لم يكن انتخابا بين عدد من المرشحين، حتى بالمعنى المسرحي، عن تأييد ساحق بنسبة 79.92، ولم تكن هذه سوى تذكرة بما كان يتكرّر في الماضي من نِسَب مماثلة عند التجديد لانتخاب الأسد الأب. لكنّ بشار الأسد لم يكن مرشح الشعب السوري، ولا يمكنه أن يكون ذلك المرشح إلا إذا قطع الانتهازيون (وهم كُثر في سورية، وخارج سورية أيضا) بأنّ أرحام السوريات عجزت، وستظلّ عاجزة، عن أن تلد مثل هذا المرشح الفتى، غير المجرّب، غير المؤهّل، غير المستحقّ. وباستثناء كفاءة وحيدة (مقدّسة) تقول إنّ هذا الشبل من ذاك الأسد، فإنّ سجلّ الفتى في عالم السياسة (والرئاسة سياسة أوّلا!) كان خاويا فقيرا ومحدودا. ولايته الثانية شاء لها أن تحمل نسبة أعلى في التأييد الشعبي (97.62!)، فاستنسخ المزيد من سياسات أبيه في القمع والفساد، وفي بناء شبكات الولاء، تفسير وإعادة تفسير القوانين (وهن عزيمة الأمّة، على سبيل المثال) التي تعيد تضخيم عواقب الأحكام العرفية وقانون الطوارئ. كذلك استمرأ، ولعله أنس في نفسه مهارة، اللعب على حبال إقليمية شتى، مثل التحالف مع إيران ومغازلة أمريكا في آن، أو مواصلة التفاوض غير المباشر مع إسرائيل حتى حين كانت الدولة العبرية لا تُبقي حجرا على حجر في غزّة. والأرجح أنّ العبارة الشهيرة: «لا أملك عصا سحرية لتحقيق المعجزات»، والتي أطلقها في خطاب أداء القسم للولاية الأولى، تنطبق على ما ينتظره بشار الأسد من نقائض ونقائض مضادة حتى عام 2014، موعد الولاية الثالثة!