من منا لا يتوفر اليوم على بريد إلكتروني أو اشتراك فردي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، التي نتبادل فيها الأشياء الأكثر حميمية، انطلاقا من الصور العائلية الأكثر التصاقا بالهوية وانتهاء إلى الآراء السياسية الأكثر تشددا وراديكالية؟! ما من شك في أن الأنترنت أصبحت، اليوم، أكثر مما مضى، موضوعا للاهتمام السوسيولوجي والسياسي، لاسيما ونحن نعيش ثورة رقمية حقيقية، من مميزاتها الارتفاع الكمي لعدد المشاركين والتطور النوعي لأشكال السلوك الفردي والممارسات الجماعية وكذا تنوع المواقف السياسية التي خرجت عن النطاقات الكلاسيكية (الممارسات الحزبية والجمعوية) لتتحرر وتتحول إلى نطاقات غير محدودة زمانيا ومكانيا، يتحول فيها الفرد إلى جماعة والصورة إلى موقف والكلمة إلى إشارة والعنوان إلى مصدر، وبالتالي تحولت فيها مختلف المقولات المنطقية والفلسفية وانقلبت رأسا على عقب (دان شيلر). وكما أن الأنترنت -بحكم طابعه الرقمي- غير محدود (وهو ما يفسر تسميته ب«الفضاء») فإن الخدمات التي يقدمها تبقى، هي أيضا، غيرَ محدودة، فالطابع اللا نهائي لإحداثيات الإبحار ومناطق البحث والاستكشاف والخدمات اللا محدودة دفعت إلى تطوير آليات تقنين الإبحار (لحماية المبحرين من التيه، بوضع بوصلات ومنارات على الطريق)، وهي نفسها المواقع التقنينية التي تطورت، بدورها، بشكل غير محدود إلى درجة أصبحنا أمام ما يسمى «الميتا -أنترنت» (Méta Internet) (إبحار فوق الإبحار). ومن تم، نحس أننا لسنا أمام فضاء واحد وإنما أمام فضاءات متراكبة، يشمل كل واحد منها الآخر. وهذا البعد الشمولي هو الذي تتنافس على تملكه كبريات محركات البحث (google- Yahoo- Altavista...) حيث تتنافس على تقديم المعلومة وطريقة الوصول إليها وكيفية تحسين طريق الوصول وكيفية الرقي بالآليات الكفيلة بالبحث.. إنه بحث في البحث عن حد... وعلى عكس ما يوحي الأنترنت بالفوضى والعبثية غير المحدودة، يبقى أحسن مبحر (المستهلك للمعلومة والمنتج لها) هو الأكثر التصاقا بقواعد توجيهية، ومن هنا تمارس الأنترنت -كما مجالات المعرفة- سلطة الإقصاء بالنسبة إلى الذين لم يحددوا بعدُ الأهداف الإستراتيجية وآليات الاشتغال وضمانات الحماية وفرص توسيع رقعة الشركاء وقنوات الدعاية والحشد... أليست هي في العمق نفس الآليات الضامنة للممارسات السياسية الأرثوذوكسية، ولو كانت متغيرة من حيث الشكل؟ ما يهمنا في هذا المقال هو الاقتراب، ولو بشكل نسبي، من طرح أهم الإشكاليات التواصلية المرتبطة بوظائف الأنترنت السيكولوجية والسياسية، باعتبارها أصبحت وسيطا سياسيا واجتماعيا ضروريا للتغيير الاجتماعي. الأنترنت والشيوعية الشبابية لنبدأ، أولا، ببسط بعض الأرقام الصادرة عن مركز «ComScore» (في أبريل 2010)، وهي مؤسسة دولية لقياس المتابعة الإلكترونية ومواقع الأنترنت، فحسب هذا المعهد القياسي، «هناك أكثر من 900 مليون منخرط ومنخرطة في المواقع الاجتماعية كمواقع «فيسبوك» (Facebook) و«سكاي روك» (Skyrock) و«أوركوت» (Orkut) و«ماي سبيس» (MySpace) حيث يضم «فيسبوك» لوحده 600 مليون منخرط، وهو ما يتجاوز مجموع سكان بريطانيا وألمانيا واليابان وروسيا، وهو الموقع الذي زادت نسبة توسعه العالمي بأكثر من 70% منذ 2003، وهي النسبة التي فاقت 1000 % (بين 2003 و2010) في بعض دول أمريكا الجنوبية، كفنزويلا والأرجنتين وكولومبيا، مما جعل اللغة الإسبانية ثانيَّ أكثر اللغات استعمالا على الأنترنت، بعد الإنجليزية، وهو مؤشر رقمي على أن الدول النامية هي التي سجلت أكبر نسب الالتحاق العالية بشبكة الأنترنت خلال العقد الأخير، وهو ما أصبح يصطلح عليه ب»الأنترنت النامي». من أهم ما يطبع الاستهلاك الإلكتروني اليوم، وعلى رأسه الإبحار على الشبكة، سهولة الولوج إليه، وثانيا كونه ظاهرة شبابية بامتياز، حيث يبلغ مجموع المشتركين في خدمة «فيسبوك» -حسب مؤشرات مؤسسة «Inside Facebook» للرصد والتدقيق- أكثر من 600 مليون منخرط، تمثل فيهم الفئة العمرية 18 -35 سنة أكثر من 75 % (مؤشرات نهاية ماي 2010). وبالتالي، ما الذي يجعل الشباب الأكثرَ استعمالا للإنترنيت -من الناحية الكمية على الأقل- وبماذا تتميز طرائق الاستعمال الشبابي للشبكة؟ يقول بيير ميسون (Pierre Musson) إن فئة الشباب لا تشكل فقط الفئة العمرية الأكثر استعمالات للأنترنيت، بل هي الفئة «المقرِّرة» فيه، حيث إن مؤسسي أكبر المواقع الأكثر ارتيادا اليوم (Facebook -Yahoo -google -twitter)، لم يتجاوز معدل أعمارهم 32 سنة، عندما أسسوا مواقعهم وحققوا نجاحات تجارية باهرة. وحتى مؤسس «Microsoft»، بيل غيتس، كان في ريعان شبابه عندما أسس شركته ووضع البرنامج الأسطوري «Windows»، وبالتالي فيمكن أن تكون الأنترنت، بما تحتمل من مهارات رياضية وتقنية وإبداعية، الملجأ الأكثرَ تفاعلية مع مهارات وإبداعات الشباب، متيحة لهم أكبرَ قدْر من فرص الابتكار والترويج والمتابعة والتقويم والتجارة والاغتناء، وهو شيء عجزت عن القيام به المؤسسات النظامية الأخرى المؤطرة للشباب، الذين لديهم اليوم وعي متزايد بالأهمية المالية للفكرة المبدعة وقبولها للرواج التجاري. هناك أيضا عامل سيكولوجي يجعل الشباب «أسيادَ» الاستهلاك والإنتاج على الشبكة وهو مساهمة هذه الأخيرة في تكثيف سلوك التعارف الاجتماعي عند الشباب الأقل من 35 سنة. (جيروم سيغال) والميل النفسي إلى البحث عن جماعات الانتماء وخلق مجموعات «افتراضية» تلبي رغبات الشباب في الانتماء الاجتماعي. وتزداد هذه الرغبات عندما تكون الإطارات المجتمعية الواقعية غير متاحة أو يكون نمط الحياة -بشكلها المعاصر- فردانيا. (أوليفيي دونا) وبالتالي فالأنترنت تمنح الإحساس بالانتماء وتلبي رغبات التفاعل الاجتماعي التي لم تعد توفرها الحياة اليومية الميالة إلى التوحد والانطواء. وكم هو جلي ملاحظة تلك المتلازمة السلوكية المتنافرة لدى شباب اليوم بين ميلهم الانطوائي في العالم الواقعي وانفتاحهم المعولم والتفاعلي القوي في العالم الافتراضي. ويشدد بعض علماء السلوك، مثل هاينز برينستون، على آثار هذه الازدواجية على عملية استيعاب الواقع وعلى ضرورة وضع برامج التأهيل السلوكي والتأطير السياسي والاجتماعي، لضمان دخول وخروج سلوكي سليم من العالم الواقعي والافتراضي. ولتأكيد فرضية تزايد الرغبات التفاعلية الافتراضية عند الفئات الشبابية المنطوية، فإن موقع «Planet Agregator»، لتقويم عمل المدونات، سجل سنة 2009 أرقاما قياسية في خلق المدونات الشخصية (blogs) في دولة اليابان، حيث تمثل المدونات اليابانية أكثر من 37 % من مجموع المدونات على الشبكة، إضافة إلى دولة إيران، التي تمثل مدوناتها 17 % من مجموع المدونات، جاعلة بذلك من الفارسية عاشر أكثر اللغات تداولا في الأنترنت (متقدمة بكثير عن اللغة العربية). وإذا ما ربطنا متغير خلق المدونات بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، وجدنا الشباب الذين يعيشون أوضاع عزلة اقتصادية واجتماعية وضغط سياسي يكونون الأكثرَ ميلا إلى البحث عن المتنفس السلوكي، عبر خلق المدونات التي أصبحت تشكل اليوم مجتمعا تفاعليا بديلا. المدونات ك«مجتمع افتراضي» بديل تمثل المدونات إحدى الوسائط المهمة والمؤثرة في المجتمع الافتراضي، لِما لها من خصائصَ تميزها عن غيرها من المواقع الأخرى على شبكة الأنترنت. والسمة الرئيسة لهذه المدونات هي التفاعلية في إنتاج وتداول المعرفة، حيث تتيح المدونات الفرصة للمشاركة بفاعلية في تدفق المعرفة داخل «الفضاء التدويني»، عن طريق التدوينات (Posts)، التي توفر معلومات للقراء ومن تم تحثهم على اقتسام ما لديهم من معرفة أيضا، وهي كذلك مجال خصب للتعبير عن الذات وتنامي الشعور بالتمكين. ويمكن أيَّ مدون أن يعبر عما يجول في خاطره من مشاعر وآراء عن طريق التدوين وأن يتلقي ردود القراء، حيث يشعر أن صوته يمكن أن يصل إلى جمهور عريض، وبالتالي يوفر التدوين شعورا مفعما بالتحقق الذاتي والشهرة وتنامي الإحساس بسيطرة المرء على حياته . كما تتيح المدونات فرصا سهلة وسريعة في التدوين والتحديث، دون الحاجة إلى خبرات ومهارات فنية معقدة، فرغم أن غالبية المدونين متعلمون تعليما عاليا (لأن التدوين هو في الأصل سلوك تعبيري ثقافي) فإن ذلك لا يعني أن يكون التدوين مشروطا بامتلاك معرفة متخصصة. وهناك، أيضا، الإمكانيات الكبيرة في التواصل مع الآخرين وتبادل الخصائص الهوياتية، بشكل أكثر حرية، مع إمكانية خلق تجمعات افتراضية ذات هويات مشتركة، إذ تتيح المدونات الفرصة للتواصل الفعال مع أشخاص بعينهم، في إطار تجمعات ذات اهتمامات وهويات مشتركة تسمح بالتداول المكثف في ما بينهم، بالإضافة إلى حرية الإفصاح عن الهوية واختيار أسماء مستعارة. وما فتئت هذه الظاهرة المعلوماتية التواصلية في الانتشار، حيث بلغ عدد المدونات في كل أنحاء العالم 70 مليون مدونة، وفقا للحصر الذي أجراه محرك البحث «تكنوراتي» (Technorati) والذي تم في أبريل 2008، بزيادة قدرها 22.8 % عما كان عليه الحال في نونبر 2006، إذ توضح البيانات تزايدا متواصلا في مجال التدوين بصورة واضحة. فقد تزايد عدد المدونات الجديدة من 12 ألف مدونة يوميا في أكتوبر 2004 إلى 150 ألف مدونة يوميا في أبريل 2009، بزيادة بلغت عشرة أضعاف تقريبا في الدقيقة الواحدة، أي بما يعادل إنشاء 2.4 مدونة كل ثانية... كما زاد عدد «التدوينات» (Posts)، أي تحديث المدونة، بإضافة نصوص ومواد وتعليقات وغيرها، من 400 ألف «تدوينة» يوميا في أكتوبر 2004 إلى 2.4 مليون تدوينة يوميا في أبريل 2009، بزيادة قدرها 350 %. وهكذا، توضح البيانات استمرار تضاعف مجال التدوين كل ستة أشهر تقريبا، على مدى 42 شهرا، حيث أصبح حجم مجال التدوين أكبر 60 مرة مما كان عليه الحال منذ ثلاث سنوات. لكنْ، وعلى عكس ما توحي به هذه المؤشرات، فإن الاتجاه العام يميل إلى الانخفاض في ما يخص نسبة المدونات النشطة. ويمكن تفسير ذلك من خلال ما يتمتع به عالم التدوين من حيوية، إذ يشهد إقبالا متصاعدا عليه من لدن بعض فئات الشباب الداخلين الجدد إلى «عالم» التدوين (غير المحترفين)، مقابل الانصراف أو العزوف من جانب البعض الآخر، الذين اجتذبتهم «عوالم أخرى»، سواء داخل المجتمع الافتراضي أو الفعلي... ولأن الارتباط قوي بين المدونة ولغتها، فإن سنة 2008 شهدت تزايدا واضحا في عدد اللغات التي تستخدم في التدوين، حيث كونت مجموعة ضمت أكبر مائة لغة في عالم التدوين. وفي القائمة التي تضم أهم عشر لغات يتم التدوين بها، نجد أن هناك سبع (7) لغات أوربية، إلى جانب ثلاث (3) لغات أسيوية، وهى اليابانية والصينية والفارسية ، بينما لا نجد اللغة العربية على هذه القائمة... وبفعل عوامل سلوكية واجتماعية ومهارات تواصلية إلكترونية خاصة، يمتلك اليابانيون نصيب الأسد في المدونات العالمية، بواقع 03 مليون مدونة إلى حدود 9002، ولهذا احتلت اللغة اليابانية الصدارة في عالم التدوين، بنسبة 37%، بزيادة أربع درجات مئوية عن عام 2006، تليها المدونات التي تستخدم الإنجليزية، بنسبة بلغت 36%، بانخفاض ثلاث درجات مئوية كل سنة، ابتداء من 2006. ومن الواضح أن الإنجليزية والإسبانية كانتا أكثر اللغات العالمية تجاوزا للحدود الجغرافية للدول وأكثر اللغات استخداما في التدوين على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم. أما اليابانية والصينية اللتين احتلتا المرتبة الثالثة بنسبة (8%)، والإيطالية (3%) التي جاءت في الترتيب الرابع، فكانت أكثر ثلاث لغات مستخدَمة في التدوين داخل نطاق جغرافي محدد. وقد احتلت باقي اللغات الأوربية، وهي الاسبانية (3%) والروسية (2%) والفرنسية (2%) والبرتغالية (2%) والألمانية (1%)، على التوالي، الترتيب من الخامس حتى التاسع، عالميا. بينما جاءت اللغة الفارسية في المرتبة العاشرة والأخيرة، باعتبارها لغة أساسية لنحو (1%) من المدونات العالمية، مما يعنى أن هناك ما لا يقل عن 700 ألف مدونة تستخدم اللغة الفارسية، علما أن إجمالي عدد مستخدِمي الأنترنت في إيران يصل إلى 18 مليون نسمة، بنسبة تقدر بنحو 27.5 % من مجموع السكان. وبالتالي، نشهد، على عكس ما نعتقد، ازدياد انتشار الفارسية في عالم التدوين، والتي أصبحت -منذ أكتوبر 2006- واحدة من أشهر 10 لغات تدوينية في العالم، نتيجة الأحداث الساخنة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في صيف عام 2006، إذ سيطرت الأحداث السياسية على أفق حركة التدوين الفارسية بصورة واضحة، وهذا يدل على أن التدوين يلعب دورا مهما في الأحداث التي يشهدها عالمنا المعاصر. واقع التدوين في العالم العربي يقدر عدد المدونات العربية بنحو 490 ألف مدونة، بنسبة لا تتعدى 0.7% من مجموع المدونات عالميا، وتبلغ نسبة المدونات المصرية النشطة 48.3% ويقدر عدد المدونين المصريين بأكثر من 162.2 ألف مدون، غالبيتهم من الفئة العمرية من 30-20 سنة. وتدون حوالي 79.2% من المدونات المصرية داخل مصر، مقابل 20.8% تدون في دول أخرى، علما أن الشباب المصري المهاجر يبقى -قبل الفلسطينيين واللبنانيين- من أكثر الجاليات الشبابية إنتاجا للمدونات. لكن الظاهرة ما تزال مركزية في مصر، حيث إن أغلب المدونات في مصر هي قاهرية (نسبة إلى العاصمة القاهرة) بنسبة 82.1% وذكورية، بنسبة 75%. ومن حيث شكل المدونات المصرية، هناك خمسة أنماط للمدونات، منها 30.7 % تهتم بمجالات متنوعة و18.9 % ذات طابع سياسي و15.5 % من المدونات معنية بالشأن الشخصي و14.4 % مختصة بالفنون والثقافة، بينما لا تمثل المدونات ذات الأهداف الدينية سوى 7% من مجموع المدونات، وهو ما يقوض الفكرة الرائجة حول كون حركة «الإخوان المسلمين» في مصر تنشط وتسيطر على «تأجيج» الشباب في الأنترنت. ويمكن تسجيل ظاهرة ثنائية اللغة في المدونات العالمية (bilinguisme)، وهي ظاهرة لم تُستثنَ منها المدونات المصرية، حيث تستخدم 67.8% من المدونات المصرية اللغة العربية، وتخلط الغالبية بين العامي والفصحى، وتستخدم 9.5% منها اللغة الانجليزية، و20.8% العربيةَ والإنجليزية معا، وهو مؤشر قوي على مدى نشاط آليات «المثاقفة» (acculturation) في نشاط المدونات التفاعلية للفئات الشبابية. هل الأنترنت «حزب» دولي معارض؟ يضع مايكل مور (مخرج أمريكي معارض للحزب الجمهوري) كل أفلامه للتحميل المجاني على الشبكة العنكبوتية. وجميع لقطات الشطط في استعمال السلطة (من شطط رجال شرطة لوس أنجلس إلى رجال درك تارغيست في المغرب) موضوعة كلها مجانا للمشاهدة على موقع «يوتوب» (youtube)، وكل ما هو غريب، لا إنساني، شبقي، شاذ، ظالم، مجرم، فاسق، فتاك... موضوعٌ اليوم، وبشكل أكثر من ذي قبل، للمعاينة والمشاهدة الجماهيرية في مواقع الأنترنت... وحسب تعبير مانويل كاستلز (Manuel Castels)، وهو من المتخصصين في مبحث السياسات الإلكترونية الجديدة، فإن سقوط المعسكر الشرقي (الذي كان يلعب وظيفة تنافر مع النظام الرأسمالي) قد تلاه اليوم بزوغ أكبر وأشرس أعداء النظام الرأسمالي، والمتمثل في الأنترنت. فهذا النظام -على شاكلة أفلام «Terminator» أو سلسلة أفلام «Matrix»- يصارع منتوجه الذي وضعه في الأول، لزيادة تجبره الدولي، وها هو الآن يقبع تحت وطأته اللا محدودة. والمتتبع لتاريخ الأنترنت، منذ تشكله الأول تحت كنف المؤسسة العسكرية الأمريكية في أوائل ستينيات القرن الماضي، يمكنه أن يسطر هذا المسار «الثوري» الذي عبَرتْه الأنترنت وانتقالها من «الرأسمالية إلى الشيوعية» (وهو تعبير ساخر لمانويل كاستيلز). من المجال المؤسساتي الاستخباراتي العسكري إلى المجال التفاعلي الإنساني، من تجميع المعلومات لغايات حربية إلى مرحلة كشف المعلومات واستباحة استعمالها لأهداف أكثر إنسانية في النهاية، والمتمثلة في إعادة توازن النظام الرأسمالي نفسه، الذي فقد «صوابه» منذ نهاية الثمانينيات إلى اليوم. مارك لوغيتان (Mark le Gatin). فبالرغم من رائحة العمل الاستخباراتي (أو على الأقل الاستخباراتي المضاد) التي تفوح من الملفات المفضوحة على «ويكليكس» وعلى وثائق «الجزيرة»، المتعلقة بأسرار المفاوضات الفلسطينية -الإسرائيلية، وكذا الوثائق -الخطيرة سياسيا- المتعلقة بملف لبنان ومسلسل المحاكمة الدولية لاغتيال رفيق الحريري... تبقى الخلاصات التالية جد حاسمة: كون العقول المدبرة والمهندسة داخل أهم مواقع الأنترنت الأكثر معارضة للنظام الرأسمالي هي عقول غربية ترعرعت داخل مؤسسات هذا النظام. ولسنا متشككين سلبيين، لكن إجراءات النقد والشك تفرض وجود مقايضات سرية وصفقات تجارية وعقود والتزامات. فلا «فايسبوك» (facebook) ولا «غوغل» (google) ولا «yahoo» (ياهو) يمكنها الاستغناء عن شراكاتها مع شركات أخرى -«خفية»- تضمن لها اقتناء أسلاك التحويل الإلكتروني وتخزين المعلومات وبيعها... وكلنا يعرف ما قامت به «غوغل» من تواطؤات مع النظام الصيني، عندما حرمت المبحرين الصينيين من العثور على المواقع ذات النفحات السياسية والتحررية التي لا تخدم النظام. وبالمقابل، رأينا «السخاء» الكبير الذي منحته نفس الشركة وشركة «يوتوب» لتحميل وتحويل وبث كل ما له علاقة بتقويض أو نقد الأنظمة السودانية والإيرانية واليمنية... الصفقة سياسية وليست الأنترنت سوى تمظهرها الإلكتروني!... لا يصح أن ننسب الثورتين التونسية والمصرية إلى الأنترنت إطلاقا، لأن فعل الثورة سياسي ونواته الصلبة هي تحديد المطالب والأهداف السياسية والوعي بالمخاطر المحدقة بتلفها أو بإتلاف إحداثياتها. صحيح أن الأنترنت لعب دورَ وسيط لتسريع التواصل وتبادل المعلومات وحشد الهمم والنفوس، إلا تونس قامت بثورتها الحقيقية بعد ذهاب بنعلي وليس قبل، عندما انتهى عرس «يوتوب» وابتدأ مسلسل الإصلاح السياسي المؤسساتي برجال ونساء حددوا أهدافهم المرحلية بدقة وبدعم دولي. ربما تكون مصر في مأزق سياسي ودستوري وتفاوضي كبير، رغم نشاط المدونات الإلكترونية ورغم آلاف الصور والتصريحات والوثائق المنشورة على «الويب». الأنترنت يسهل الثورة ولا يعوض دور السياسة والوعي السياسي في القيام بها...