شهد الفضاء السمعي -البصري العربي في الأيام الأخيرة تحولات في التعاطي مع الأحداث التي تعرفها القاهرة، عاصمة الإعلام العربي. وقد أعادت التظاهرات والاحتجاجات والأعمال الدموية إلى الواجهة نقاش وظيفة الإعلام واستقلاليته وتفعيل قيم الحرية والتحول الديمقراطي، مع إمكانية مناقشة المقارنة بين انعكاسات ثورة «الياسمين» في تونس و«الفل» في مصر على المستوى الإعلامي. في بدء النقاش، لا بد من الانطلاق من إلقاء نظرة سريعة على هوية نظامي الدولتين اللذين يقومان على سلطة العسكر وما تعنيه من تفعيل سياسة «الثكنة» (الإملاءات) وإسقاطها على الفعل الإعلامي في مختلف تمظهراته، فكان طبيعيا أن يتناوب على وزارة الإعلام في الدولتين رجال المخابرات. وإذا كان النظام المصري يتأسس على محاولة محاكاة النموذج الأنجلوساكسوني، الذي يقوم على تفعيل قيم الحرية والمبادرة، بدليل غياب أوتغييب وزارة للإعلام والاتصال، فإن هذا النظام، أي المصري، نظر إلى مسألة الإعلام كمعطى استثنائي يجب أن يُفصَل عن أي محاكاة، بالنظر إلى حيويته وقوته ونجاعته في تكريس خطاب النظام القائم... وإذا كان النظام التونسي يتأسس على محاكاة التجربة الفرنسية، التي تقوم على احتكار الدولة وسائل الإعلام، بالتعايش مع مبادئ الحرية والتعدد، فإن نظام بن علي، المتشبع بثقافة «الثكنة»، لم يستطع مجاراة تحولات النظام الفرنسي الذي ألغى، في ثمانينيات القرن الماضي، وزارة الإعلام والاتصال وخلق هامشا كبيرا للتعدد والحرية، بالتزامن مع تفعيل إصلاحات تهُمّ الفضاء السمعي-البصري. ورغم القبضة الحديدية للنظام التونسي على الإعلام ووسائله، فإن «الثورة» الإلكترونية قلبت المعادلة والحسابات، فأعلنت هذه الثورة عن قناة تواصلية جديدة وفاعلة تُغرّد «خارج السرب» المراقب من لدن جهاز الإعلام، واستطاعت الثورة العنكبوتية أن تخلخل النظام وتساهم في إسقاطه في ما بعد، فكان طبيعيا أن تعمد أول حكومة، وعيا منها بسلطة الإعلام، إلى إلغاء وزارة الاتصال، للقطع مع النظام الشمولي السابق الذي يشكل الإعلام أداته لتكريس خطابه وتسويغ إيديولوجيته، مما مهد لبداية انتعاش سياسي في تونس. وعلى النقيض التام من ذلك، وبعد عقود من إحكام رجل المخابرات والأمين العام المقال للحزب الحاكم في مصر، صفوت الشريف، قبضته على الإعلام وتكليف أنس الفقي، صنيعة العسكر، بالجوانب السمعية -البصرية وتعيينه مديرا للتلفزيون المصري، قبل أن يُعيَّن وزيرا للإعلام، «اهتدى» المصريون إلى ضرورة «اقتفاء أثر» الثورة التونسية، للبحث عن نافذة لإسماع صوتهم وتكسير خطاب الدولة المصرية، الذي يتردد في كل القنوات، رغم أصوات الممانعة التي تصدر، هادئة، بين الفينة والأخرى. ومع استمرار الاحتجاجات وسقوط ضحايا لثورة شبابية حالمة في مصر، اضطر الرئيس المصري إلى الإعلان عن حكومة جديدة، إلا أن اللافت أن هذه الحكومة أعطت الضوء الأخضر لاستمرار أنس الفقي وزيرا للإعلام، ما فسره مهتمون بالرغبة في استمرار النظام عبر ضمان استمرار وسائله، مما خلق توجسا في صدق «نوايا» النظام و«رغبته» في الإصلاح حقا، وهي النوايا التي اتضحت، بشكل جلي، من خلال تشديد الخناق على قنوات عربية والاعتداء على صحافيين ومراسلين ومنعهم واعتقالهم وإعطاء تعليمات لوسائل الإعلام العمومية، والقنوات بشكل خاص، بضرورة دعم النظام السابق، وتحصيل ذلك أن أي إصلاح يمر عبر وضع مسافة بين السلط الكلاسيكية والسلطة الرابعة وضمان استقلاليتها، لتكون «مواطِنة» وتنقل نبض الشارع ورغبته في التغيير من عدمه، وهو رهان يكون صعبا على الأنظمة الشمولية، لأن الإعلام جزء لا يتجزأ من فكر وإستراتيجية هذه الأنظمة...