بعد الاستقلال في سنة 1957، وتحت رئاسة بورقيبة، ستعرف تونس مرحلة تقدمية واجتماعية. الاستعمار، الذي دام 75 سنة والذي ارتكز على الزراعة بسرقة الأراضي والتجارة المربحة بفضل الموانئ في العاصمة وصفاقس، وكذلك باستغلال الشعب التونسي، قد ترك البلاد بنسبة بطالة عالية وصناعة ضعيفة. عند الاستقلال، أممت تونس ما سرق منها وأصبحت حينئذ تتوفر على اقتصاد اجتماعي مسير من طرف الدولة بنسبة 80 في المائة، مما أدى إلى تنمية كبيرة، كما حصلت المرأة على حق التصويت ومنعت التعددية في الزواج وشرع الإجهاض عشر سنوات قبل فرنسا. وفوق كل ذلك، خصص أكبر جزء من الميزانية للتعليم (30 في المائة). لكن البنك الدولي، الذي يعمل لمصلحة الشركات العالمية، بدأ يتدخل في الأمور التونسية بمساندة من البورجوازية التونسية، فأصبح يمنح ما يسمى ب«مساعدات»، أي قروضا غالية جدا، والتي ستمكنه من الضغط على الحكومة لإيقاف تأميم الاقتصاد الذي بدأه بن صالح، وزير الدولة للتنمية والتخطيط آنذاك. البنك الدولي سيقوم كذلك بالاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الفوسفات. في نهاية الستينيات، سيصبح البنك الدولي أحد الدائنين الرئيسيين لتونس وسيؤدي إلى الإطاحة ببن صالح. حينئذ، ستشرع تونس في سياسة أكثر ليبرالية بقيادة هادي نويرة، المحافظ السابق للبنك المركزي. إلا أن الليبرالية لن تؤدي إلى تنمية البلاد، بل إنها ستبيعه رخيصا للخارج، والصناعة التونسية ستثري أوربا أكثر.. نسبة البطالة ستتضاعف ومعدل التمدرس سينخفض والمفارقات ستتزايد. وفي سنة 1978، ستدعو النقابة UGTT، والتي كانت تشكل أول قوة معارضة، إلى إضراب عام. في تلك الفترة، كان على رأس الأمن الوطني شخص يدعى «زين العابدين بن علي» الذي أمر بإطلاق الرصاص على الناس، مما أدى إلى مقتل 200 شخص وجرح المئات في ما يعرف ب«الخميس الأسود». في 1983، سيضاعف بورقيبة ثمن الخبز والقمح، مما سيؤدي إلى «مظاهرات الخبز» التي ووجهت بقمع شديد، إلا أن الشعب لم يتخل عن الكفاح حتى تم إلغاء الزيادة في الأسعار. كل هذا القمع سيساعد بن علي على تسلق درجات السلطة، لأن البورجوازية التونسية كانت في حاجة إلى رجل قادر على قمع الحركات الشعبية وتحطيم اليساريين والإسلاميين. وفي سنة 1987، سيقوم بن علي، وزير الداخلية آنذاك، ب«انقلاب طبي» ليصبح بذلك ثاني رئيس لتونس ويبدأ سياسته القمعية والليبرالية. ثانيا، في ما يخص المساندة الفرنسية لنظام بن علي: غالبا ما تعلل تلك المساندة بمناهضة النظام للتيار الإسلامي. إلا أنه بالرغم من الحرب الشرسة التي شنها ضد الإسلاميين، فإن السبب الرئيسي يكمن في المصالح الاقتصادية الهامة، إذ إن العلاقات المتميزة التي تربط فرنسا ببن علي مكنتها من أن تكون أول مستثمر خارجي في تونس بحجم 280 مليون يورو سنة 2008. 1250 شركة فرنسية مستقرة في البلد توفر 106 آلاف منصب شغل. كبريات الشركات الفرنسية تسعى إلى اقتحام السوق التونسية ومن ثم الأسواق الليبية والجزائرية مثل Air Liquide، Danone،Renault، Total... هذه الشركات تستقر في الغالب بتشارك مع مجموعات محلية، ولو بنسبة أقلية، مثل Carrefour وGéant Casino، التي حرصت على التشارك مع العائلات المافياوية (مبروك والطرابلسي). بالإضافة إلى ذلك، فإن الشركات الفرنسية تهتم بمشاريع الطاقة التي تتراوح ميزانيتها بين مئات الملايين ومليارات الدولارات (EDF، GDF Suez، Alstom). في مجال السياحة، نجد (FRAM، Club Med،Accor..). في التأمينات، شركة Groupama التي تملك 35 في المائة من «ستار»، أول شركة تأمين تونسية. وأخيرا في مجال الاتصالات، فإن شركة Orange تمكنت من الحصول على الرخصة الثالثة للهاتف النقال والثانية للهاتف الثابت. وفي دائرة أوسع، فإن الاتحاد الأوربي بدوره منح ثقته لنظام بنعلي. ففي أبريل 2009، أفاد بلاغ للجنة الأوربية بأن «تونس هي أول بلد في المنطقة الأورو-متوسطية يوقع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوربي الذي يهدف إلى إقامة علاقة سياسية واقتصادية واجتماعية بين الطرفين». حاليا، يمثل البنك الأوربي للاستثمار أول ممول لتونس. كما أن بن علي هو الزعيم العربي الوحيد الذي ساند «حلف المتوسط من أجل منطقة تبادل حر» الذي سيجعل دول المغرب العربي تحت رحمة رؤوس الأموال الغربية. كما أن البنك العالمي يسير في نفس الخط، ففي تقريره Doing Business 2009 الذي يحدد مدى فاعلية الإجراءات المتخذة من أجل تحسين مناخ الأعمال، منح نقطة 7/10 لتونس بالإضافة إلى الرتبة ال73 من بين 188 دولة. أما إسرائيل، فلقد عبر مسؤولوها عن قلقهم تجاه هذا التغيير المفاجئ وأسرعت بترحيل رجال أعمالها من تونس، إذ كانت تعتبر بن علي من أهم حلفائها في المنطقة، وليس أدل على ذلك من أنه منع أية مظاهرة مساندة للشعب الفلسطيني أثناء حرب غزة. والكيان الصهيوني يترقب من سيخلف بن علي على رأس البلاد وما هي السياسة التي سيتبعها تجاهه. وأخيرا، الدول العربية التي لا زالت وفية لعهدها، إذ تراوحت التصريحات بين الصمت المطبق و«مراقبة تطور الأوضاع» إلى همسات ب«حق الشعب التونسي في اختيار قادته»، حيث إن تصريح الزعيم «الثوري» معمر القذافي بأن «بن علي هو الأصلح لتونس إلى الأبد» يدل على الهوة الهائلة التي تفرق بين القادة والشعوب.. هؤلاء القادة الذين لا يخشون شيئا كما يخشون تفشي مرض «الشجاعة» المعدي. وإذا كانت تونس هي السابقة، فإن طابور اللاحقين يمتد طويلا...