يبدو أن هناك جهات غير متفقة مع ما قلناه قبل يومين في هذا العمود، من أن المغرب لا يشكو، مثل تونس والجزائر وليبيا ومصر وسوريا، من مشكل في نظام الحكم وإنما يشكو من مشاكل في نظام الحكامة. وحسب هذه الجهات غير المتفقة مع هذا التحليل، فإن «الماسكين بالسلطة» في المغرب هم من وجهونا نحو هذا القول من أجل الفصل بين ما يحدث في تونس وبين المغرب. وهذا ما يبرر، حسب هؤلاء «المحللين المحلفين»، كل «الإعلانات المشبوهة» التي يغدقها علينا هؤلاء «الماسكون بالسلطة». أولا، إذا كانت هناك جهات ترى أن المغرب لديه مشكل «نظام حكم» وليس مشكل «نظام حكامة»، فعلى هذه الجهات أن تتحلى بالجرأة الضرورية وتعلن عن نفسها صراحة. أما أن تختفي وراء ما يحدث في تونس لكي تقطر الشمع وتمارس عادة «التقلاز من تحت القشابة»، فهذا منتهى الجبن السياسي والأخلاقي. السيد بوعشرين، الذي يتهمنا بتجنب «الخوض في تفاصيل «ثورة الياسمين» خوفا من إغضاب من يسميهم «المساكين بالسلطة»، والذين وجهونا إلى القول بأن المغرب لا علاقة له بتونس، وأن في البلاد «مشكل حكامة وليس مشكل حكم»، وسمانا بالصحافة الصفراء التي تستحق أموال الإعلانات المشبوهة التي تغدق عليها، ذهب بعيدا في «تحليلاته» هذه المرة. ويبدو أننا سنسفه «أحلام» الرجل عندما سنؤكد مرة أخرى، وبدون مركب نقص أو عقد، على أن تونس ليست هي المغرب، وأن إشكالية «نظام الحكم» غير مطروحة في المغرب مثلما هي مطروحة اليوم في تونس، أو مثلما يمكن أن تطرح غدا في أكثر من دولة عربية يقودها رئيس خالد وحزب واحد. ليس بوعشرين وحده من يشعر بالأسف لأن «ثورة» الأشقاء في تونس لم تجد لها صدى في شوارع المغرب، فهناك أشباه له يتمنون انتقال العدوى إلى بلادنا لكي يحدث «التغيير المنشود». وربما بسبب ذلك سارع إلى نشر مقال غداة سقوط بنعلي على صدر جريدته يتحدث عن التهاب أسعار المواد الغذائية في المغرب، وهو الخبر الذي كذبه بلاغ حكومي في اليوم الموالي. السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو ماذا يقصد هؤلاء بالتغيير المنشود.. التغيير على مستوى نظام الحكم أم على مستوى نظام الحكامة؟ بالنسبة إلى بوعشرين، ف«الماسكون بالسلطة» في المغرب وجهونا لكي نقول إن ما حدث في تونس يطرح أسئلة على «نظام الحكامة» وليس على «نظام الحكم». ولأننا خضعنا لهذا الإملاء الفوقي، فإننا تعرينا أمام القراء، والدليل على ذلك هذه الإعلانات التي يغدقها علينا «الماسكون بالسلطة». هذه اتهامات خطيرة جدا، ووجه الخطورة فيها أنها تحاول الركوب على «ثورة» تتحول بسرعة شديدة إلى حرب أهلية في تونس، لكي «يقطر الشمع» على «الماسكين بالسلطة» في المغرب. وجميعنا يعرف من هم «الماسكون بالسلطة» الذين يقصدهم بوعشرين، فهو لا يتحدث عن الوزير الأول وحكومته، فهم -في نظره- لا يمسكون بأية سلطة ولا يمارسون أي نوع من أنواع الحكم، ونحن عندما ننتقدهم فإننا نصنع ذلك لتجنب انتقاد «الماسكين بالسلطة» الحقيقيين، أي «بالعربية تاعرابت» الملك. وهذه مناسبة لوضع النقاط على الحروف، لكي يفهم السيد «بوعشرين» ومعه الواقفون وراءه، والذين سهلوا له تراخيص رحلته «السرية» الأخيرة إلى ساحل العاج التي تعيش بدورها بوادر حرب أهلية، أن «المساء» ليست حزبا سياسيا معارضا لكي تضع نفسها في مواجهة «نظام الحكم»، وإنما نحن نصنع جريدة مستقلة همها الوحيد هو إخبار الرأي العام بالطريقة التي تدار بها شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وحسب علمنا المتواضع، فالإدارة يتحمل مسؤوليتها الوزير الأول حسب الفصل 61 من الدستور والذي يقول حرفيا: «تعمل الحكومة على تنفيذ القوانين تحت مسؤولية الوزير الأول والإدارة موضوعة رهن تصرفه»، كما ينص الفصل 63 على كون «الوزير الأول يمارس السلطة التنظيمية»، أي أن ميزانية القصر نفسها إذا لم يوقع عليها الوزير الأول فإنها لا تصرف. وإذا كان الوزير الأول عباس الفاسي يتهرب من تحمل المسؤولية التي أعطاه إياها الدستور، بادعاء عدم قدرته على التحكم في وزارة الداخلية أو غيرها من الوزارات، فهذا يعني أن الوزير الأول يخل بأهم بنود الدستور، وأنه ينتحل صفة وزير أول دون أن يمارس هذه الصفة بالفعل. وهذا بالضبط ما يجب فضحه وعدم التستر عليه. إذا كان الوزير الأول غير قادر على ممارسة جميع صلاحياته الدستورية، فما عليه سوى أن يضع الحقيبة الوزارية ويغادر إلى بيته. لهذا نحب أن نذكر السيد بوعشرين، ومن خلاله الواقفين وراءه، بأن «المساء» تعرف دورها جيدا، وهي تمارسه داخل الحدود التي يسمح بها القانون، بعيدا عن اللعب بأعواد الكبريت التي يحاول البعض إضرام نيران الفتنة بواسطتها داخل المغرب، عبر القيام بإسقاطات فجة وغير واقعية لما يحدث في تونس اليوم. وبما أن السيد بوعشرين يتهمنا بتجنب الحديث عن تفاصيل «ثورة الياسمين» خوفا من إغضاب «الماسكين بالسلطة»، رغم أننا نخصص يوميا للحدث صفحة أو يزيد، فليسمح لنا بأن نشرح له أن ما يحدث في تونس اليوم ليس ثورة وإنما فتنة ستنقلب إلى حرب أهلية. ومثل هذه «الثورات» لا أحد يتمنى حدوثها في المغرب. «برا يا الباس». فجميع الثورات التي قامت في العالم كانت لها رؤوس، إلا ثورة تونس فهي بدون رأس. فقد قادها الشارع في غياب معارضة سياسية تتزعمه. وهذا ما يفسر فشل القوى السياسية والحقوقية في البلاد في تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة تسهر على تنظيم الانتخابات وإفراز حكومة من صناديق الاقتراع. إن ما حدث في تونس يكشف عن شيئين مهمين، أولا هشاشة الدكتاتور وصلابة النظام الدكتاتوري، وثانيا قوة الشعب وضعف هيئاته السياسية. وما لا يريد كثير من المتحمسين رؤيته اليوم في تونس هو أن البلاد ذاهبة نحو الحرب الأهلية بين أنصار الرئيس المخلوع وميليشياته المسلحة التي لا تريد مغادرة الساحة السياسية، وبين الشعب وبقية أطيافه السياسية والنقابية والحقوقية التي تريد إحداث قطيعة نهائية مع النظام السابق وحزبه الحاكم. الاعتقاد السائد الآن هو أن «ثورة الياسمين» ستنتهي بإعادة السلطة إلى الشعب. لكن هذا الحلم يبدو الآن بعيد المنال، خصوصا بعد صدور تصريحين أعتبرهما شخصيا على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة. أولا، تصريح إسرائيل الواضح الذي تأسفت من خلاله على الإطاحة بالرئيس التونسي، وتصريح العقيد الليبي معمر القذافي الذي عاتب التونسيين على طردهم للجنرال بنعلي وحديثه شبه المتوعد للتونسيين بحتمية ندمهم على ما قاموا به. لنكن واضحين. إن الأنظمة العربية المبنية على سيادة الرئيس الأبدي والحزب الوحيد ستكون أول عدو لثورة الشعب التونسي. وهذه الأنظمة المحروسة من طرف الموساد الإسرائيلي ستكون أول من ينسق مع تل أبيب من أجل إجهاض الثورة في مهدها، حتى لا تصبح نموذجا تحتذي به الشعوب العربية التي ترزح تحت حذاء رؤسائها الذين باتوا يتوارثون الجمهوريات. ولعل أكبر متضرر من نجاح «ثورة الياسمين» هو إسرائيل. فهذا الكيان العنصري الغاصب لن يسمح بتغيير المعطيات السياسية في دول الجوار، خصوصا الأردن ومصر وسوريا، مخافة أن تنتقل عدوى تونس إلى شوارع هذه الدول، وبالتالي يسقط هؤلاء الرؤساء الخالدون الذين يتواطؤون مع إسرائيل وأمريكا ضد فلسطين ويتقاضون ثمن تواطئهم على شكل مساعدات بالعملة الصعبة. لقد فضحت تل أبيب الجنرال بنعلي عندما قالت إنه كان أحد حلفائها الكبار في المنطقة، وبالتالي فالضربة التي تلقتها إسرائيل، بسبب سقوط النظام في تونس، أكثر وجعا وإيلاما من الضربة التي تلقاها بنعلي نفسه. واليوم، يبدو من خلال المعطيات على الأرض أن عملية إجهاض «الثورة» في تونس ماضية في طريقها، فالجنرال بنعلي غادر تونس تحت حماية إسرائيلية، واتجه إلى السعودية بعدما صدرت أوامر من تل أبيب للقادة السعوديين باستقبال الرئيس المخلوع وضمان حمايته وحماية مسروقاته. ومن يعتقد أن الجنرال بنعلي انسحب كليا من السلطة واهم، فالرجل يدير من جدة أمور حزبه الذي تسلل رجاله إلى الحكومة المؤقتة واستولوا فيها على المناصب الوزارية الثلاثة المهمة، الخارجية والمالية والداخلية التي ستسهر على إعداد الانتخابات. إذن، فالمخطط الجهنمي الذي يعد لتونس في كواليس الموساد الإسرائيلي أسود للغاية. والقذافي لم ينطق عن الهوى عندما أنهى خطابه إلى التونسيين بعبارة «وعلى تونس السلام». ولعل أول جواب عما قاله الرئيس الليبي كان هو إشباع المتظاهرين التونسيين في الشوارع ضربا وركلا على أيدي عناصر الشرطة التابعة مباشرة لبنعلي. إن الترويج الإعلامي للمكالمة الهاتفية التي أجراها رئيس الوزراء المؤقت محمد الغنوشي مع بنعلي، والتي أطلع فيها الرئيس السابق على خطورة الأوضاع في تونس، يعني شيئا واحدا وهو إرسال إشارة واضحة حول كون بنعلي لازال على الخط. وبالتالي دفع الشعب إلى النزول إلى الشوارع وإحداث الفتنة عبر جعل الجيش الذي اصطف إلى جانب الشعب يواجه بالسلاح جهاز الشرطة والحرس الرئاسي وأعضاء حزب الرئيس الذين سيدافعون بشراسة عن امتيازاتهم ومصالحهم التي تهددها «الثورة». وبهذه الطريقة، سينجح مخطط تقسيم التونسيين إلى خندقين متناحرين. والهدف من وراء هذه الحرب الأهلية هو إرسال رسالة واضحة إلى كل الشعوب العربية التي ستفكر في تقليد «ثورة الياسمين»، مفادها أن «ثورة الياسمين» يمكن أن تتحول إلى «ثورة الحنظل». هكذا، ستفكر الشعوب طويلا قبل أن تجرؤ على اقتراف الثورة، وستفهم مغزى الجملة الأخيرة التي قالها القذافي في خطابه وهو ينصح التونسيين بالقبول بالدكتاتورية حرصا على حياة أطفالهم. وهي نفسها الخلاصة الذي تريد إسرائيل أن تصل إليها الشعوب العربية الراغبة في إزاحة أصدقائها الرؤساء الدكتاتوريين من كراسي السلطة. هذه الخلاصة الجهنمية التي تريد إسرائيل إيصالها إلى العرب هي: «إلى كانت هادي هيا الثورة اللهم الديكتاتورية». ببساطة شديدة، ليس مسموحا لأي شعب عربي بأن يثور دون حصوله على الضوء الأخضر من «السادة» الذين يحكمون العالم ويصنعون خرائطه. أما أن يستيقظ شعب في الصباح ويقرر إسقاط النظام، فهذه في نظر «السادة» مجرد «ضصارة» يجب أن يدفع ثمنها الشعب.