تعتبر الولادة تجربة مؤثرة في حياة المرأة على المستويين العضوي والنفسي. لذلك فمن الطبيعي أن تشهد مرحلة ما بعد الولادة لدى العديد من النساء تغيرات مزاجية، ما بين فرح مفرط وحزن مقلق. وهي تغيرات تختفي في الغالب حوالي عشرة أيام بعد الولادة. لكن بعض النساء يمكن أن يعانين من اكتئاب شديد ومستمر لمدة أطول. إنه اكتئاب ما بعد الولادة. وعلى الرغم من سهولة التعرف على هذا النوع من الاكتئاب، إلا أن الحالات التي يتعرف عليها لا تزال أقل بكثير مما هو موجود حقيقة. وحتى في الحالات التي يتعرف عليها، فإن ذلك يكون في الغالب متأخرا. وتشير التجربة إلى أنه بقدر ما يتم ذلك التشخيص في وقت مبكر، بقدر ما يكون العلاج ناجعا. هناك ثلاثة أنواع من الاكتئاب المرتبط بالولادة، بعضها أشد من بعض، وهي: اكتئاب اليوم الثالث، واكتئاب ما بعد الولادة، وذهان ما بعد الولادة. أما اكتئاب اليوم الثالث فهو الشكل الأخف، ويتميز أساسا بتوتر نفسي وميل إلى البكاء وقلة النوم وتغيرات في المزاج. ويمكن أن تستمر هذه الأعراض بضعة أسابيع قبل أن تختفي تلقائيا. ويرجح أن خمسين إلى ثمانين بالمئة من الأمهات يمررن بهذه التجربة النفسية. أما اكتئاب ما بعد الولادة فهو أشد من سابقه. وتشعر المرأة معه بأعراض مثل الحزن والبكاء واحتقار الذات والقلق والتوتر الشديد والتعب. ويصاحب هذه الأعراض النفسية أعراض جسدية مثل أوجاع الرأس وآلام الصدر وفرط التنفس. كما تحس هؤلاء النساء بالسلبية وعدم الاهتمام بأطفالها. وهي حالة ذات تأثيرات سلبية على العلاقة العاطفية بين الأم وطفلها. وتتراوح نسبة الإصابة بهذا النوع من الاضطراب ما بين ثلاثة إلى عشرين بالمئة من الولادات. ويمكن أن يظهر في أي وقت على مدى ستة أشهر الموالية للولادة، ويمكن أن يستمر بضعة أشهر إلى سنة كاملة. أما ذهان ما بعد الولادة فهو اضطراب نادر نسبيا. وتصاب معه المرأة بالارتباك الشديد والتعب والاهتياج وتغيرات المزاج والشعور باليأس، إضافة إلى الهلاوس والهذيانات. وهو لا يصيب إلا امرأة واحدة من بين ألف أم ولدت. تحار المرأة عندما تصاب بهذا النوع من الاكتئاب متسائلة ما هو تفسيره وما هو سببه. والصحيح أن هذا السبب غير معروف بدقة، وإن كان يبدو أن التغيرات الهرمونية والنفسية التي تصيب جسم المرأة في هذه الفترة من بين أهم عوامله. كما تشير الدراسات إلى عوامل أخرى أقل أهمية مثل عمر المريضة، والإرهاق الذي أصابها، ومدى تحقق انتظاراتها من الحمل والولادة ووظائف الأمومة، ومستوى الدعم الذي تلقاه من الأسرة ومن المحيطين بها. هذا يبين أنه من الأهمية بمكان أن تعي المرأة التي تعاني من هذا النوع من الاكتئاب أنها ليست هي السبب فيما تحس به. ذلك أن هذا الوهم يزيد من معاناتها وآلامها. وهناك علامات ومؤشرات تشير الدراسات إلى أنها عندما تظهر لدى النساء يكن أكثر عرضة لاكتئاب ما بعد الولادة. ومن ذلك: عدد العطل المرضية أثناء فترة الحمل، ووتيرة الاستشارات الطبية، فبقدر كثرتهما بقدر ما تكون الأم معرضة للمرض وجود حالتين من الإجهاض على الأقل في التاريخ المرضي للمصابة كون الحمل يعرف مضاعفات متوسطة أو شديدة كون المرأة تعاني عادة من أعراض قاسية فيما قبل فترة الحيض توتر في العلاقة بين الزوجين، أو كون الزواج مهددا بالفشل تعرض المرأة لأحداث ضاغطة أثناء الحمل أو بعد الوضع. هناك إذن اكتئاب خاص بمرحلة ما بعد الولادة، يستلزم الوعي بالمرض وتأثيراته. وأول ما يجب استحضاره من قبل الأم المصابة به هو أنها ليست الوحيدة في ذلك. إن هناك حوالي عشرين بالمئة من الأمهات اللواتي ولدن حديثا يصبن باكتئاب ما بعد الولادة. وإن الإصابة بالمرض ليس خطأ الأم ولكنه قدر من الله مثل ما هو الأمر بالنسبة لجميع الأمراض العضوية والنفسية الأخرى. ويجب عليها بالتالي عدم تصديق بعض المفاهيم الخاطئة الشائعة حول الموضوع وخصوصا تلك التي تميل إلى المبالغة والتيئيس وربط المرض بعوامل غير موضوعية. لذلك عليها بمجرد أن تحس بأعراض اكتئابية أو قلق أو حتى بمجرد عدم ارتياح مستمر وغير مفهوم، إلا وعليها أن تتوجه إلى الطبيب المختص لتشخيص الحالة في بداياتها، فهذا أسلم وأعون على العلاج الناجع والسريع بإذن الله. سعد الدين العثماني - طبيب مختص في الأمراض النفسية [email protected]