انبثقت اليوم دراسات تناشد بتجاوز العولمة، بإخراج العالم من أسرها، بل بالتخلص منها لأنها استنفدت زخمها كنموذج ثقافي، حضاري واقتصادي. في هذا الأفق يندرج البحث الأخير الذي أنجزه حكيم القروي في عنوان «إعادة ابتكار الغرب. دراسة في أزمة اقتصادية وثقافية»، الصادر عن منشورات فلاماريون في المعجم السياسي، كما في الحياة اليومية، مفهوم العولمة هو أحد المفاهيم الكسيحة التي اكتست وبسرعة شرعية من الرواج وإلى حد الابتذال! وإن تعددت وتنوعت وتغايرت الاستعمالات لتتخذ دلالات مغايرة مثل الشمولية، العالمية، الكونية الخ.. يبقى المفهوم المتداول هو ما يقابل في اللغة العربية مفهوم العولمة، La mondialisation. وعليه تعد العولمة، وبامتياز، المفهوم الذي دمغ بقوة العقود الأخيرة من القرن العشرين. انبثقت اليوم دراسات تناشد بتجاوز العولمة، بإخراج العالم من أسرها، بل بالتخلص منها لأنها استنفدت زخمها كنموذج ثقافي، حضاري واقتصادي. في هذا الأفق يندرج البحث الأخير الذي أنجزه حكيم القروي في عنوان «إعادة ابتكار الغرب. دراسة في أزمة اقتصادية وثقافية»، الصادر عن منشورات فلاماريون. الأطروحة الرئيسية التي يقوم عليها البحث هي أن العالم اليوم، بعد أن أصبح بفعل العولمة قرية كونية، هو قيد البحث الآن عن نماذج حضارية، اقتصادية وسياسية واجتماعية بديلة لتلك التي اشتغلت بموجبها إلى الآن المرجعيات السائدة. دخلنا في مسلسل جديد يعرفه حكيم القروي ب«رغبة الخروج من مسلسل «التغرب» l'occidentalisation.. إذ أصبح الغرب معضلة حقيقية وذلك بالنظر إلى عدة اعتبارات أهمها: الأزمة الدبلوماسية الناتجة عن حرب، بل حروب العراق، وهي حرب تمت باسم الخير ضد الشر والتي ساهمت في زعزعة الشرق الأوسط، من دون أن تقدم بالمقابل حلولا ناجعة. الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم والتي كانت من ورائها الولاياتالمتحدة وأوروبا. ثالثا الأزمة البيئية الناتجة عن نمو الغرب والتي تسببت في العديد من الكوارث من دون أن تقدر أي دولة أو منظمة على-فرض «نظام مناخي جديد» يأخذ بعين الاعتبار أخطاء الماضي وينظم أنشطة المستقبل. نتجت هذه الأزمات عن إحساس بالتفوق: تفوق أيديولوجي وعسكري في الشرق الأوسط، تفوق اقتصادي على المستوى العالمي. فيما يخص مسألة البيئة، فقد أعطت هذه البلدان الانطباع وكأنها أرجأت إلى أجل غير مسمى مشكل الانحباس الحراري، وهو مشكل مطروح منذ أزيد من 30 سنة. لم يعد الغرب سيدا للمستقبل غداة انفجارات الحادي عشر من سبتمبر، لبس الغرب جلد الضحية، لكنه اكتشف اليوم أنه مسؤول بل مذنب وبالتالي شعر بضعفه وفقدان قوته. مما دفع الباحث إلى التشديد على فكرة أن الغرب فقد مناعته وقوته الداخلية. حدث كما لو أن الغرب انطفأ من الداخل، يشير حكيم القروي. بدأنا نلاحظ تجزؤا تدريجيا للمجتمعات الغربية. يعيش الغرب وبشكل هوسي على فكرة نهاية الاحتكارات التي مكنته من أن يكون سيدا للعالم. الحقيقة أنه لم يعد سيدا للمستقبل، كما أن تاريخ العالم لم يعد يكتب تبعا لنموذج تاريخه. أخيرا يعاني الغرب من غياب نجاعة مؤسساته التي نظمت لانتقاء مسيرين همهم الوحيد هو التفكير على المدى القريب والتفكير في مطامحهم الشخصية بدل المصلحة العامة. رب معقب على هذه الانتقادات بالقول بأن الأزمات ليست حصريا غربية. ليست هذه التفسيرات بكاذبة لكنها جزئية وغير مقنعة. إذ بمنأى عن المشاكل الاقتصادية والعسكرية، فإن الإضافات التي جاء بها الغرب هي اليوم مهددة، بل أكثر من ذلك: يتهدد الطوفان هذا الكيان الذي اسمه الغرب، والذي قام على الحيف، العنف، الغطرسة وإرادة القوة. لا تسعى هذه الدراسة إلى فحص مفهوم ودلالة الغرب. كما أنها لا تطمح إلى مقاربة مزاياه أو سلبياته. فالنقاش في هذا الموضوع لا ينضب. بل تهدف إلى معالجته كرؤية مستقبلية. هذا مع العلم أنه يجب التعريف بالغرب، بكيفيات وطرق استعمالاته والتعامل معه، تبعا لأربعة مستويات: أولا الغرب هو جغرافية بمركز واضح المعالم، تمثله أوروبا والولاياتالمتحدة. ومحيط غامض القسمات تمثله أمريكا اللاتينية وروسيا. لما ننظر للغرب من الخارج، نقف عند الحقيقة وهو أنه تباين واختلاف، كما أنه تاريخ مؤلف من الأمل والتراجيديا، بحيث يغذي الأمل وباستمرار التراجيديا. أخيرا، فالغرب واقع أيديولوجي. ذلك أن فكرة الحرية الفردية، فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، الفكر النقدي، اقتصاد السوق، تبقى القاسم المشترك بين أوروبا والولاياتالمتحدة، وهي قيم لا تتقاسمها لا مع الصين ولا مع الدول العربية مثلا ولا مع مجموع الدول الآسيوية أو الإفريقية. ولأنه وجب الحفاظ على هذه القيم في أزمنة التقلبات والتحولات، فمن الطبيعي أن يسعى الغرب إلى استقطاب الآخرين لتصوره ولوجهات نظره. المشكل أن وضع الغرب وضع مهزوز الشيء الذي يبرر بحثه عن متهمين لتحميلهم مسؤولية إخفاقه. وهذا ما يفسر عنف الخطاب العنصري الذي أصبح يلهب أوروبا، من فرنسا إلى الدنمارك مرورا بهولندا، سويسرا، النمسا وإيطاليا، والذي جعل من المسلمين «برابرة جدد»، لا يرغبون في الاندماج، لأنهم حملة ديانة «لا تتوافق والديمقراطية». في هذه الأثناء «تدافع» الولاياتالمتحدة عن الديمقراطية، بأية طريق؟ تعذب، تغتصب في السجون العراقية، تدوس القانون في غوانتانامو... في الوقت الذي تتشدق فيه بالديمقراطية تناصر أبشع الديكتاتوريات. صحيح أن الرئيس أوباما قد أسمع صوتا جديدا في مصر في خطاب القاهرة، كما مد يده للإيرانيين في جنيف، ومطالب على المستوى الداخلي بالتعايش مع بلد لم يخرج بعد من صدمة انفجارات الحادي عشر سبتمبر، لكنه لم ينجح في وضع حد للصورة الرائجة التي ابتكرها بوش والتي ينقسم بموجبها العالم إلى أبطال وأشخاص مشكوك فيهم، وهم غالبا مسلمون. الصين إلى الصدارة تسعى الصين من دون عقدة وبلا خجل إلى سحب البساط من تحت أرجل أمريكا رغبة في احتلال المرتبة الأولى. عملت بنظام ميركنتيلي رأسمالي مكرس مكنها من تطوير السوق الداخلية على حساب استيراد المنتوجات الخارجية التي اكتفت باستنساخها من دون أي مشقة. كما أنها كذبت بممارساتها «النبوة الأمريكية» القائلة بضرورة التطابق بين اقتصاد السوق والديمقراطية. قدمت للعالم «بديلا صينيا» أثبت إلى حد الآن نجاعته. يوجد العالم الغربي في وضع قلق، وبخاصة البلدان التي توجد عرضة للتغيرات. وذلك في فترة تفاقمت فيها، أكثر من أي وقت مضى، التمايزات الاجتماعية. تشعر الشرائح الشعبية والمتوسطة بأنها عرضة للانهيار في أي وقت. غير أن تخلص العالم من «الغربانية» يجب أن لا يقوده إلى دوس القيم السياسية والفلسفية التي تسند الغرب. التخلص من «الغربانية» أو التغرب هي مناسبة لكي يعيد الغرب إنتاج ذاته. لتحقيق هذا الهدف، يجب إعادة إنتاج خطاب جديد في موضوع الأمة. خطاب يصبو إلى المستقبل. خطاب يستقبل الوافدين الجدد بدل نبذهم. أن نثق بمستقبل الأمة معنى ذلك ابتكارنا لاهتمام عالمي جديد. لأننا، يقول حكيم القروي في حاجة إلى أوروبا وبأنه من الصعب التخلي عن الهوية الأوروبية. آن الأوان لاقتراح مسالك جديدة للغرب يمكنها أن تتمحور حول الفرضيات التالية: المساواة. التكافؤ في العلاقات وأخيرا التقمص حتى تصبح القيم التي يمثلها ويرمز إليها قيما مرغوبا فيها وليست مفروضة بالقوة. نظرة مزدوجة يلقي الباحث على الوضع نظرة خالية من أي مجاملة وذلك بحكم انتمائه المزدوج: فهو فرنسي من جهة أمه البروتستانتية. تربى وتعلم بمدرسة الجمهورية. كما عمل مستشارا للوزير الأول السابق جان- بيار رافاران. صوت لصالح ترشيح سيغولين رويال. بالنظر إلى هذه المعطيات فهو فرنسي. لكنه في نفس الوقت أجنبي عن المجتمع الفرنسي بحكم أصل والده التونسي، الذي كان وزيرا في رئاسة الحبيب بورقيبة. عاش أيضا في مصر قبل أن يعود إلى فرنسا. اليوم وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، يعمل كرجل أعمال وتحديدا كخبير بنكي في بنك روتشيلد. وهو متخصص في الأسواق الناهضة. ماذا تعني عملية تخليص العالم من النفوذ الغربي؟ معنى ذلك أن يتخلص الغرب من ذاته وبذاته، لا عن طريق تدخل خارجي. مما يقتضي طبعا تخلصه من السلطة والجبروت. غير أن تخليص الغرب من نزعته الغربية من الممكن أن يحوله إلى سلطة مهددة. ويسجل الخبير وقفة عند موضوع أوروبا التي تشكلت بفضل كيانها الاقتصادي، السياسي، الثقافي...والتي لم تلبث أن أظهرت عن نقائصها إلى الحد الذي أصبح فيه الحديث عن أزمة الهوية الأوروبية واقعا ومن عاديات الأمور. ما أسماه فرانسوا ميتران بالأفق الأوروبي، يبدو اليوم أفقا مغلقا. إن كانت أوروبا في وضع مأزقي فإن أمريكا التي تعرف ب«القوة العظمى»، وهو التعبير الذي أطلقه هوبير فيدرين، وزير الخارجية السابق، هي اليوم «الضعيفة الكبرى». فقد دخلنا، كما أشار إلى ذلك أوليفييه طود، «مرحلة ما بعد الإمبراطورية». ومنذ 2002 تبرهن كل الأدلة على ذلك. فالولاياتالمتحدة التي يقوم اقتصادها على المديونية والتي فتحت للأمريكيين صنبور القروض من دون شروط، وجدت نفسها مع الأزمة الجديدة مجبرة على النهل من المدخرات لتمويل عجزها. الشيء الذي قوى من سلطة الدول المانحة. لضعف القوة الأمريكية أسباب بعيدة كما تفسرها عدة اختيارات استراتيجية، سياسية واجتماعية. لم تعرف فرنسا نفس الإعصار، لكنها تتقاسم والولاياتالمتحدة ضعف السوق الداخلي. لا يقتصر حكيم القروي على مقاربة أشكال العجز الاقتصادي بل يتعداه لمعالجة أشكال أخرى من العجز: العجز السياسي والديمقراطي ثم عجز للهوية. يبرر العجز الاقتصادي غياب البدائل الاقتصادية. ما يتهدد الغرب هو غياب قدرته على تحويل الأفراد إلى جماعات. ثم هناك تهديد آخر لا يقل خطورة هو فقدانه لسماته المميزة الثلاث: توفير التعليم، الحفاظ على المستقبل وضمان التاريخ. على مستوى التعليم، تمت في %63 من دول العالم في التعليم الابتدائي المساواة بين الذكور والإناث. وبلغت النسبة %37 في الثانوي. لكي تقلع الدول يجب أن تكون للسكان القدرة على استغلال شيء آخر غير الأرض. مما يقتضي كفاءات أولية، معدة سلفا. مثال الصين في هذا المجال يعد نموذجيا: من بين مليوني شخص حاصل على ديبلوم عام 1982 قفزت النسبة إلى 80 مليون عام 2007. في الصين يلتحق 6 ملايين من الطلبة بالجامعة سنويا من بينهم 39 % يقبلون على دراسة العلوم، مقابل 5 % في الولاياتالمتحدة. كما أن معدل التمدرس قفز من 10 % عام 1999 إلى 35 % عام 2008. انتقلت الصين اليوم من هجرة إلى عودة الأدمغة Brain drain, brain gain. لم تكن لأوروبا وبخاصة لبلد مثل فرنسا الجرأة الكافية لخوض»الاستثمار في الذكاء»، في البحث والابتكار. فيما نجحت الصين في استنساخ طائرة الآيرباص مع تحسينات جديدة، والتي ستكون في المستقبل منافسة للطائرة الأوروبية بنفس الاسم!
الحلم الصيني يأخذ مكان الحلم الأمريكي تغيرت مواقع وجغرافية المستقبل. ولذلك أسباب عديدة أهمها سبب ديمغرافي. فرنسا والغرب مصابون عموما بالشيخوخة. أما الصين فهي بلد شباب. فالسن المتوسط لليابانيين يبلغ 45 سنة. 44 في ألمانيا. 40 في فرنسا و37 في الولاياتالمتحدة. إلى هذه الخاصيات الفيزيقية تجب إضافة خاصية سيكولوجية. بالأمس كان المستقبل وكأنه مكتوب على جبين الأمم. كان يشبه إلى حد كبير الماضي. أما اليوم فقد تغير الوضع: في الهند وفي العديد من البلدان الأخرى، مكن استعمال الهاتف النقال الفلاحين الهنود من الانخراط في السوق العالمي والتعرف على سير ومجرى الأسهم العالمية. دائما وبواسطة الهاتف النقال، أمكن للفلاحين أخذ صور للحشرات المضرة بمحاصيل الزراعة وإرسالها إلى المختبرات الغربية التي تقوم بتحليلها واقتراح الحلول لمحاربتها. لم يعد أي مكان للمستقبل بصفته قدرا مقدرا. فيما يخص الصين، أخذ الحلم الصيني مكان الحلم الأمريكي. وغدا ولربما أخذ الحلم الإفريقي مكان الحلم الصيني. الحلم الإفريقي هو في لحظة تطور. لم يدخل الأفارقة في التاريخ وحسب، بل دخلوا أيضا في المستقبل. حاول الغرب تكريس الفكرة القائلة بأن كل المجتمعات آيلة إلى الديمقراطية، وذلك على هدي الديمقراطيات الغربية. إنه «المصير المكشوف» الذي عبر عنه الأمريكيون منذ القرن التاسع عشر. تجد هذه الديمقراطية أسباب دعائمها في كونية الحرية والتعبير الفردي. لكن انفجارات مركز التجارة العالمي عززت مركزية الولاياتالمتحدة والغرب عموما، غير أنها أظهرت في نفس الوقت بأن تفوق الغرب ليس في آخر المطاف سوى لحظة من لحظات التاريخ البشري وليس خاتمة له. فمستقبل الدول الصاعدة غير مكتوب على صفحات التاريخ الغربي.