شهدت العلاقات المغربية الإفريقية، طوال فترات تاريخية، ازدهارا كبيرا، فلطالما لعب المغرب دور الوساطة التجارية بين ما كان يسمى بلاد السودان وأوربا، ونشطت من ثم العلاقات التجارية بين المغرب وعمقه الإفريقي، فقد اهتمت الأسر المتعاقبة على حكم المغرب بتنمية وتطوير هذه التجارة، وعيا منها بأهميتها لتقوية البلاد وضمان مداخيل قارة لخزينة البلاد، بل أكثر من ذلك أن بعض الدول التي تأسست بالمغرب، كالمرابطين والعلويين، اعتمدت في انطلاقتها على مراقبة تجارة السودان، وهكذا فإفريقيا حاضرة ومؤثرة في تاريخ المغرب. وحرص المغرب في كل الفترات التاريخية التي مر بها على الحضور الفاعل داخل المعترك الإفريقي لضمان موطئ قدم متقدم داخله والهيمنة على تجارته بل وضمان ولاءات عابرة لحدوده. وقد وصل الحضور المغربي القوي في إفريقيا أوجه خلال العصر الحديث زمن حكم الدولة السعدية، حيث لبست بلاد السودان عباءة مغربية خالصة، عندما قام السلطان المنصور الذهبي بفتحتها سنة 1585م على يد القائد المغربي جودر. وفي هذا الصدد، يروي الفشتالي في كتابه «مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا»، ص 39، أن الجيش المغربي استُقبل استقبال الأبطال الفاتحين، وهكذا أصبحت ممالك إفريقية في الغرب الإفريقي بكاملها تابعة للبلاط السعدي، وتقاطرت رسائل الولاء العابر للحدود على السلطان المنصور الذهبي من تخوم السودان، كما تدفقت على المغرب في الآن نفسه خيرات بلاد السودان حتى نُعت السلطان السعدي آنذاك بالمنصور الذهبي لكثرة ما كان يرد عليه من ذهب السودان. وقد أسهبت الروايات التاريخية في وصف عظمة الدولة المغربية بما تقوت به من خيرات السودان، وهكذا فالمغرب تقوى بإفريقيا ورسخ وجوده بها في فترة تاريخية حساسة للغاية تميزت بامتداد الغرب وانطلاقته، ومن هنا تبنت أوربا المسيحية فكرة «إمبراطورية مراكش» طوال العصر الحديث. وإلى جانب العلاقات السياسية والاقتصادية التي ميزت هذه الفترة التاريخية، فقد نشطت العلاقات الروحية والدينية بين الطرفين، فالمغرب يعود إليه الفضل في نشر الإسلام السني المالكي في تخوم إفريقيا السمراء عبرالزوايا برعاية رسمية، وهو ما أثمر في النهاية امتداد الإسلام داخل القارة الإفريقية، وما نشهده من ترابط صوفي وتعلق العديد من الدول القارة، خصوصا في غرب إفريقيا بالمغرب، لهو خير دليل على هذا الإرث التاريخي الذي راكمه الجانبان. غير أن هذا التراكم التاريخي بدأ يتراجع مع وصول طلائع المكتشفين الأوربيين إلى الساحل الغربي لإفريقيا، إذ أخذ معه الحضور المغربي في هذه الأصقاع يشهد بعض الانحسار، بعد ما تمكن الأوربيون من الوصول عبر المحيط الأطلنتي إلى إفريقيا دون ما حاجة إلى الوساطة المغربية، ومن ثم تضررت العلاقات الاقتصادية المغربية الإفريقية وتراجع في الآن نفسه الحضور والتأثير السياسي المغربي على إفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن العلاقات الدينية والروحية ظلت مستمرة. وقد كانت لهذا الوجود الغربي في إفريقيا انعكاسات سلبية للغاية على الاقتصاد المغربي الذي عانى من تراجع مداخيل تجارة السودان، ومن ثم بدأ الضعف يتسرب إلى الدولة المغربية وتدهورت وضعية المدن الواقعة على طريق السودان. ولا يعني هذا أن الأفارقة استسلموا لهذا الوضع الذي وجدوا أنفسهم مجبرين على التعايش معه، بل تقاطرت برقيات الاستنجاد على السلاطين المغاربة في مطلع القرن التاسع عشر لرد الخطر المسيحي الداهم للغرب الإفريقي، غير أن المغرب في هذه المراحل التاريخية لم يعد قادرا حتى على مقارعة الماكينة العسكرية الأوربية الحديثة في ما سمي فترة التجاوز الأوربي كما قال بذلك ذ. عبد المجيد قدوري. وهكذا خاب أمل الممالك السودانية في إمكانية إحياء الدور السياسي المغربي في إفريقيا جنوب الصحراء، ليُفسح بذلك المجال واسعا أمام الفرنسيين للتدخل والهيمنة على الغرب الإفريقي بكامله. واليوم، تبدو الحاجة ماسة إلى إحياء الدور المغربي في إفريقيا والعودة به إلى جذوره الإفريقية من خلال سياسة دبلوماسية إفريقية تعيد إلى المغرب هيبته الضائعة داخل القارة وتحيي إرثه التاريخي هناك. فالقرار السياسي في هذا الشأن قرار استراتيجي تمليه الضرورات الداخلية والإقليمية والعالمية والتحديات المرتبطة بها من قبيل النزعة العالمية نحو التكتلات الجهوية وتعزيز الأدوار الإقليمية للدول خدمة لقضايا التنمية وحماية المصالح الاستراتيجية الكبرى للدول في أفق تحقيق الأمن القومي واكتساب أوراق إقليمية تكون أوراقا رابحة في الرهانات التنموية الداخلية والخارجية. ومن هنا، فالمغرب مدعو إلى تعزيز حضوره الإفريقي وبناء علاقات استراتيجية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء في إطار سياسة دبلوماسية إقليمية إفريقية تضمن له قيادة جهود القارة لرفع تحديات العولمة ولمَ لا التحدث باسم إفريقيا في المحافل الدولية، فلقد تضررت العلاقات المغربية الإفريقية من خلال التركيز الكبير على الانفتاح شمالا من خلال تعزيز العلاقات بالاتحاد الأوربي على حساب العلاقات المغربية الإفريقية، وهو ما ترتب عنه ترك الساحة فارغة لأعداء المغرب لكي يعيدوا رسم الوضع القاري بعيدا عنه بكل إرثه وثقله التاريخي والثقافي. لقد كان قرار المغرب بمغادرة منظمة الوحدة الإفريقية عندما قبلت الأخيرة بجبهة البوليساريو عضوا فيها قرارا غير صائب، من وجهة نظرنا، لأنه أسدى خدمة جليلة إلى المخطط العدائي الذي كان يستهدف مكانة المغرب الإفريقية، وقد نجح ذلك المخطط عندما اتخذ هذا الأخير بالفعل قرار الانسحاب من المنظمة، إذ فتح ذلك البابَ واسعا للتآمر عليه، وجر عليه اعتراف العديد من الدول الإفريقية بما يسمى بجبهة البوليساريو، بينما جلسنا نتفرج لسنوات على تآكل الدبلوماسية المغربية ذات البعد الإفريقي. وقد بدا المغرب للمتتبعين وكأنه دولة معزولة عن محيطها، في إطار مخطط محكم تقوده الجارة الجزائر ومن يسير على خطاها في طروحاتها الانفصالية. المطلوب الآن إعادة النظر في السياسة الخارجية المغربية، خصوصا في شقها الإفريقي، والتخلي عن المقاربة المرتكزة على دبلوماسية الموقف من الصحراء المغربية التي يبني عليها المغرب علاقاته الخارجية مع دول القارة الإفريقية لأنها سياسة لم تعد مجدية، في اعتقادنا، والمدارس الدبلوماسية الحديثة تجاوزت هذه المقاربات، لذلك سيكون من الأجدى تغيير قواعد اللعبة الدبلوماسية المغربية بالانفتاح على الدول الإفريقية النظر المعياري إلى موقفها من قضية الصحراء، وفتح قنوات الحوار مع هذه الدول وتعزيز علاقتنا الاقتصادية معها، وإجراء حوار معمق معها حول القضية الوطنية من موقع المصالح الاقتصادية، طالما أن السياسة العالمية الحالية لا تفهم إلا لغة المصالح المتبادلة أو ما يصطلح عليه بالواقعية السياسية. يتبع... رشيد الجبوري - أستاذ باحث