كيف الخلاص والانفكاك عندما تتحول التكنولوجيا إلى وبال على صانعيها وروادها؟ وهل كانت دبلوماسية الولاياتالمتحدةالأمريكية تدرك تمام الإدراك أنها ستكون ضحية تكنولوجيا المعلومات والاتصال، على الرغم مما تملكه من هيمنة عليها وتحكم فيها ومراقبة لها؟ وكيف لم تفلح في نهج أسلوب الحرب الإلكترونية الوقائية على شاكلة الحرب الوقائية ضد الإرهاب، درءا لكل المخاطر التي يكون مصدرها المناوئين لسياستها الخارجية، حتى إن كان وقع تسريب المعلومات من أهل الدار كما هو حاصل مع «ويكيليكس»؟ وما هو أكيد أن جل الإمبراطوريات العالمية التي تعاقبت على مر التاريخ بقدر عنجهيتها وجبروتها، كانت تحمل بين ثناياها بذور انهيارها أو دلائل فضح ادعاءاتها وافتراءاتها التي تظل بصمة ووصمة غير قابلة للانمحاء حتى مع مرور الزمن، إنها ضريبة القوة والهيمنة الوحشية. وبغض النظر عن الخلفيات والعوامل الماورائية التي كانت السبب الجوهري في تسريب هذه المعلومات، وعلى الرغم أيضا من الأسئلة الكثيرة التي تتناسل يوميا وتعكس منحى معينا في التحليل، والتي تصب في استشكال محوري: لماذا هذا الوقت بالذات وما إذا كان توظيفها وتوقيتها يخدم الأجندة الأمريكية؟ أو ما إذا كان الغرض الأساسي منها هو الزيادة في إحراج إدارة أوباما والضغط عليها أكثر؟ فإن تسريب هذه المعلومات يشكل بحق صك اتهام وفضحا لمنطق اشتغال الدبلوماسية الأمريكية التي بنيت على مسوغات ومقومات استعلائية واستصغارية إلى حد احتقار الآخر، إنها دبلوماسية غير أخلاقية وتعوزها المبدئية والاحترام وتؤشر على الاستغراقية في المصلحية والبراغماتية انسجاما مع «البراديغم» الذي يستحوذ على مكنون السياسة الخارجية الأمريكية الذي مفاده «ليس هناك أصدقاء أو أعداء دائمون وإنما هناك مصالح دائمة». لا شك أن المكمن القصدي في استحضار هذه الوثائق في هذا المقام لا نقتفي من ورائه سرد محتوياته، وإنما غائيته البحث عن إمكانات تشكل معارضة إلكترونية وتبلورها على المستوى العالمي، نتيجة ما تفرضه تكنولوجيا المعلومات والاتصال من درجة عالية، وقدرة انسيابية للمعلومات وسرعة الاطلاع عليها وتنقلها بين أفراد ما يعبر عنه ب«المجتمع الافتراضي» الذي لا يعرف الحدود الجغرافية، ويشمل العديد من التباينات والتمايزات العرقية والثقافية والهوياتية، فهو مجتمع جامع لكل الجنسيات، حيث يبقى القاسم المشترك هو بناء ردود أفعال نقدية وتنديدية ومعارضة للدبلوماسية الأمريكية لتتوسع هذه المعارضة التي من شأنها التأثير حتى على الرأي العام الأمريكي الذي يمكن أن يشكل ورقة ضغط حتى على الإدارة الأمريكية داخليا. لا شك أن ثمة العديد من المواقع الإلكترونية الأنترنيتية تعمل بشكل مسترسل على القيام بمحاولات تشكيل رأي عام عالمي معارض ومعاد للسياسة الأمريكية، وهي تابعة لمنظمات حكومية وغير حكومية، وأيضا مواقع لأفراد في شكل مدونات أو مؤسسات أكاديمية همها الأساسي بناء وعي عالمي بأهمية معارضة أمريكا في سلوكياتها على المستوى الدولي، وهي تعتمد على دراسات وإنجاز تقارير دائمة حول نشاط الدبلوماسية الأمريكية وسياستها الخارجية ومعطاها القائم على سياسة «الكيل بمكيالين»، وهي في الغالب تعتمد على معلومات ظاهرية تستجمعها، غير أن الوضع مع «ويكيليكس» يختلف لأن الأمر يتعلق بمعلومات سرية يصعب الاطلاع أو الحصول عليها إذا لم تكن محل تسريب من محصليها بطرق سرية بدورها، وبالتالي تبقى هذه المعلومات السرية محصلة تنويرية للرأي العام الدولي حول الأسس والدعامات التي تقوم عليها الدبلوماسية الأمريكية واكتشاف الدبلوماسية العالمية بعيون أمريكية، فالمعارضة الإلكترونية تكون أكثر فعالية لما تملكه من تقنية في تسهيل وتيسير التنسيق بين أعضائها على المستوى الدولي، وما توفره من فضائل وميزات للتحرك والتعبير، من دون إكراهات تنظيمية أو تدبيرية من شأنها فرض تغييرات على مستوى وظيفيّة الدبلوماسية الأمريكية في تمثلها وتعاطيها مع القضايا الدولية، وذلك ما تفرضه هذه المواقع الإلكترونية من قدرات تجميعية وتوزيعية للمعلومات. شكلت وثائق «ويكيليكس» مفاجأة للإدارة الأمريكية، خصوصا وزارة الخارجية، فهي مازالت تحت وقع الصدمة بفعل ما تضمنته من معلومات كشفت مضامين الدبلوماسية الأمريكية المضمرة واعتمالاتها المختلفة والمتباينة، وبينت للعالم أجمع منطق التفكير الدبلوماسي الأمريكي الذي ينظر إلى جل الدول بحكامها ومسؤوليها ومؤسساتها بمنظار الدونية، واعتبارها مجرد أدوات يتم تسخيرها لخدمة مصالحها وتنتهي صلاحيتها بمجرد نفاذ مهامها، وبينت حجم النفاق الدبلوماسي الممارس وحتى طبيعة اللغة والقاموس الدبلوماسي المستعمل الذي يرتقي إلى مستويات الابتذال والسوقية، خاصة في وصفها لبعض رؤساء الدول وإنجاز التقارير التي يقوم بتحريرها موظفو وزارة الخارجية وتمثيلياتها الدبلوماسية والقنصلية في باقي الدول التي تجمعها بها علاقات مختلفة. إن نشر هذه الوثائق من شأنه أن يحدث انقلابات ويجلب العديد من التداعيات على المستوى الدولي ويسبب الإحراج لأمريكا، خاصة وأن العديد من الدول ستقوم بمراجعة شاملة لفعلها الدبلوماسي في التعاطي مع أمريكا، وإعادة تأسيس لمنظومة علاقاتها على اشتراطات معينة أمام هذه الفلتات الرقابية والأمنية الإلكترونية التي تظهر أن وراء كل قوة مكامن قصور وثغرات قد تترتب عنها نتائج وخيمة في حالة استسهالها، كما يمكن أن تشكل مصدرا لإحداث قطائع دبلوماسية بين مجموعة من الدول، من خلال تضمين هذه الوثائق مواقفَ دول من بعضها بعضا، بخصوص قضايا تهم شأنها الداخلي أو سياستها الخارجية، وأيضا مساهمتها في زيادة الفجوة بين الحكام وشعوبهم، خصوصا في الدول العربية والإسلامية وتأليب الرأي العام حولهم . ولعل هذه الوثائق أثبتت أيضا أن القرار على المستوى الدولي تتم بلورته من خلال «دبلوماسية الكواليس» التي تتم وفقها التنازلات والمساومات التي ترهن مستقبل الشعوب، وما تحمله أنماط العلاقات الدولية من مفارقات وغرائبية تستعصي على الفهم والاستيعاب، وبالتالي تبقى مسألة التسريب مستحسنة، وما أحوجنا إلى «ويكيليكس» آخر وبصيغة الديمومة. وعليه فأمريكا عظيمة بقوتها العسكرية والتكنولوجية، وضعيفة بزلاتها وأخطائها، وهي قابلة للاختراق على جل المستويات والجبهات، شريطة أن يكون هناك فعل إرادوي دولي يكون مرجعه الشعوب التواقة إلى الانعتاق من الاستعباد الأمريكي.