سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
إدريس الفينا: هناك غياب أدوات فعالة لضبط السوق العقارية الباحث الاقتصادي قال ل«المساء» إنه لا يمكن ترك آليات السوق وحدها تستمر في ضبط عنصر استراتيجي كالعقار
في ظل ارتفاع أسعار العقار في المغرب، وسوء توزيعه بين مختلف القطاعات الإنتاجية، يطرح السؤال حول السبيل الذي يمكن أن يقود إلى معالجة الاختلالات التي تخترق عملية استغلال تلك المادة الاستراتيجية و تجنب المضاربة والمساطر الاستثنائية التي تحولت إلى قاعدة .. ذلك سؤال كبير قاربناه مع الباحث المغربي في اقتصاد السكن، إدريس الفينا، فكان الحوار التالي. - بينما يشير البعض إلى أن العقار يشكل عائقا أمام الاستثمار في المغرب، يتجلى أن التقارير الدولية عند تناولها لمناخ الاستثمار في المغرب لا تتوقف كثيرا عند هذا المعطى؟ كل التقارير المنجزة من قبل بعض الهيئات الدولية والتي ترصد باستمرار تطور مناخ الاستثمار في المغرب وتنافسيته لم تشر بشكل كبير إلى مشكل العقار. فبالعودة إلى آخر تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، وقف تقريرها لسنة 2010 على مختلف الإنجازات التي حققها المغرب للانخراط الفعلي في الاقتصاد الدولي ولتطوير تنافسيته الدولية، أما إشكالية العقار في عمقها فلم يتم تناولها إلا من جانب مسألة حماية الملكية ومدة الإجراءات الضرورية للتملك وكلفتها والجهات التي تسهر على حماية الملكية، وقد خلص التقرير إلى ارتفاع كلفة تحويل الملكية التي اعتبرها جد مرتفعة مقارنة مع دول المنطقة المتوسطية. فعملية حسابية بسيطة تظهر أن خضوع نفس العقار لتحويل الملكية ثلاث مرات خلال نفس السنة ينجم عنه ارتفاع مباشر لسعره لا يقل عن 15 في المائة. بالمقابل هناك تقرير للبنك الدولي اهتم بتحليل السياسات القطاعية سبق وأن رصد هو الآخر جانبا من هذه الاختلالات. حيث أشار إلى أن كلفة العقار داخل الكلفة الإجمالية لإنتاج السكن تبقى جد مرتفعة مقارنة مع العديد من الدول من نفس مستوى النمو الاقتصادي. فالتقرير أشار إلى أن العقار أصبح يشكل 30 إلى 50 في المائة من كلفة إنتاج السكن في مدن كالبيضاءوالرباط. وهي النسبة التي لا يجب أن تتعدى 10 في المائة إلى 20 في المائة حسب المعايير الدولية. أي أن العقار ساهم ويساهم بشكل كبير في الرفع من كلفة إنتاج السكن وهي الكلفة التي تساهم بدورها وبشكل كبير في إضعاف الطلب وفي المساهمة في خلق الركود الشامل الذي يعرفه قطاع السكن ومنه المساهمة في إضعاف القدرة الشرائية للأسر الجديدة. - أين تتجلى الاختلالات في مجال تدبير العقار في المغرب في ارتباط مع الرغبة في إرساء نموذج جديد للنمو بالمغرب ؟ هناك العديد من أوجه الاختلال في مجال تدبير العقار تبرز أساسا في غياب أدوات فعالة لضبط السوق العقارية لتحقيق أهداف استراتيجية منها بالأساس الرفع من تنافسية الاقتصاد وخلق شروط مستدامة للنمو. فأدوات التخطيط المجالي تغيب عنها الفعالية، والسياسة الضريبية تساهم في رفع الأثمنة وتوسيع دائرة التهرب الضريبي، أما الأثمنة الحالية فلا تعكس في شيء الندرة الاقتصادية لمادة «العقار»، بقدر ما تعكس مستوى احتكارها والريع الذي تساهم في تحقيقه من جهة أخرى. لقد سبق لأحد الاقتصاديين البارزين أن أشار إلى أن الاستثمار في العقار في المغرب أصبح أفضل من الاستثمار في أي مجال آخر باعتبار الغياب التام لجانب المخاطرة وارتفاع المردودية، وخلص إلى أن هذا الأمر لا يساهم في بناء اقتصاد حديث، فأثمنة العقار اليوم وإشكالية الولوج إليه أصبحت تشكل ليس فقط عائقا حقيقيا أمام الاستثمار، بل عنصرا لإضعاف تنافسية الاقتصاد، ونموه وعاملا من شأنه أن يساهم على المدى المتوسط والبعيد في إضعاف المجهودات الرامية إلى الرفع من تنافسية الاقتصاد على المستوى الدولي. كما أن آثار هذا المشكل على تطور المدن وعلى تنفيذ مختلف السياسات العمومية أصبح واضحا : فسياسة السكن الاجتماعي ومحاربة السكن غير اللائق التي تستنزف سنويا 1500 هكتار أصبحت اليوم تجد صعوبة في تنفيذها بفعل غياب المخزون العقاري الكافي بأثمنة تنافسية خصوصا على مستوى المحور الإقتصادي الرباط - البيضاء. وقطاع السكن بصفة عامة الذي يستنزف 3500 هكتار سنويا أصبح يعيش ركودا كبيرا بفعل مستوى الأسعار التي تأثرت بشكل هام بأسعار العقار وساهمت بشكل نسبي في الركود الذي يعرفه هذا القطاع. بالمقابل تستنزف المناطق الصناعية 500 هكتار وهي المساحة التي لا تتجاوب مع حاجيات تنفيذ مخطط الإقلاع الصناعي، الذي يتطلب سنويا تعبئة مايناهز 4000 هكتار من العقارات وتهيئتها وعرضها بأثمان تنافسية تسمح بجعل كلفة العقار لا تتعدى 10 في المائة من كلفة الاستثمار الصناعي من جهة وجعل العرض العقاري الصناعي ينافس نظيره بدول المنطقة المتوسطية. بالمقابل تستنزف باقي التجهيزات والبنيات التحتية والمرافق العمومية ما يناهز 1200 هكتار سنويا وهي العقارات التي تتطلب تعبئة مسترسلة للعقار بأثمنة تسمح بالتحكم في كلفة الاستثمارات العمومية على المدى البعيد. أمام كل هذه المعطيات التي تظهر جليا حجم الإشكالية وأبعادها الاقتصادية أعتقد أنه حان الوقت، كما حصل في العديد من الدول، لطرح إشكالية العقار في المغرب في إطار ندوة وطنية لتحديد الخيارات الكبرى في هذا المجال. فقد أصبح العقار عنوانا للمضاربة والربح السريع ومعيقا أول لتطور الاقتصاد وللاستثمار. ولا يمكن بأي حال ترك آليات السوق لوحدها تستمر في ضبط عنصر استراتيجي كالعقار في غياب الفاعلين الأساسيين للعملية التنموية وعلى رأسهم الفاعل العمومي. - كيف يتم ضبط تدبير الرصيد العقاري في المغرب؟ عملية تدبير الرصيد العقاري تبقى اليوم محدودة الفعالية فمن جهة هناك تعدد المتدخلين بأدوات متقادمة ومن جهة أخرى تبقى الأهداف غير واضحة ولا تتماشى والتطورات المتسارعة التي يعرفها الاقتصاد الوطني . فعلى مستوى الرصيد العقاري العمومي تدبيره موزع بين أطراف متعددة : فوزارة الاقتصاد والمالية لا تزال تشرف على جانب من هذا الرصيد في إطار نموذج عمر لأكثر من خمسين سنة وهو النموذج الذي أصبح اليوم فريدا مقارنة مع ماهو معمول به دوليا ولا يساير روح النموذج الاقتصادي الحديث الذي يطمح إليه المغرب، فتدبير الرصيد العقاري داخل وزارة الاقتصاد والمالية لم يعد له اليوم أي مبرر. الجزء الآخر من هذا الرصيد العمومي تدبره وزارة الداخلية، وهو رصيد يتوزع بين أراضي جموع وأراض جماعية. وزارة الأوقاف هي الأخرى تدبر رصيدا عقاريا ذا أهمية اقتصادية بالغة، كما تشرف المندوبية السامية للمياه والغابات على رصيد عقاري جد هام. هناك أكثر من سؤال يطرحه تدبير الرصيد العقاري العمومي من جانب أحقية الولوج وفقا للأولويات الاقتصادية ومن جانب تجديد هذا الرصيد المستنزف بشكل دائم. بالنسبة للرصيد العقاري الخاص لا توجد جهة معينة تتابع تدبيره وترصد جوانب الاختلال به، فالوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية دورها يتركز بالأساس حول حماية الملكية العقارية ولا ترصد كل المعطيات التي تهم هذا القطاع. بخصوص أدوات الضبط والتخطيط نجد مختلف وثائق التخطيط الترابي وعلى رأسها مخططات التهيئة التي تقوم بتحديد الاستعمالات الخاصة بالعقارات المتواجدة على مستوى المدارات الحضرية، وهي المخططات التي أبانت عن محدوديتها في ضبط السوق العقارية: فنسبة تنفيذها تبقى ضعيفة من جهة، كما أن الاستثناءات في مجال الترخيص استنزفت في العمق الأهداف الاستراتيجية لمختلف هذه المخططات من جهة أخرى، والدولة لم تواكب هذه المخططات من جانب الاقتناءات العقارية الضرورية لتنفيذ مختلف برامجها. على المستوى الضريبي لا توجد سياسة واضحة المعالم تستهدف هذا المجال، فعدا عن بعض الضرائب التي تسعى إلى الحد من الاحتكار العقاري وإعادة توزيع المداخيل من خلال اقتسام الأرباح، تبقى السياسة الضريبية في هذا المجال فارغة من كل عمق استراتيجي ولا تساهم في ضبط حقيقي لهذا القطاع، بل ساهمت إلى حدود اليوم في ارتفاع كلفة هذه المادة من خلال مختلف الرسوم والضرائب المطبقة على العقار. - ما هي النماذج العالمية التي يمكن استلهامها عند الرغبة في ضبط تدبير الرصيد العقاري في المغرب؟ هناك نموذجان أساسيان في هذا المجال تعتمدهما العديد من الدول المتقدمة: الأول يعتمد مبدأ المركزية في ضبط السوق العقارية والثاني يعتمد مبدأ الضبط المحلي. النموذج الأول يعتمد على مؤسسات مركزية تعمل على تدبير وتخطيط السوق العقارية لجعلها تواكب مختلف حاجيات النمو الاقتصادي من خلال أدوات التخطيط والضرائب والقوانين والاقتناءات المباشرة. أما النموذج الثاني فهو يعتمد على الجماعات المحلية كأدوات للقرب في تدبير وتخطيط الرصيد العقاري من أجل ضبط أفضل لهذه السوق. في بعض الدول المتقدمة منها نموذج كندا يتم اعتماد منطق بسيط في هذا المجال: العقار هو ملكية فردية لما يكون خارج المدارات الحضرية ويصبح تحت تصرف المجموعة بالأثمنة التي تراها مناسبة عندما يدخل المدارات الحضرية. فالمدن تحتاج إلى العقار لتحقيق توسعها ولبناء التجهيزات الأساسية التي تحتاجها الساكنة ولبناء المساكن بكلفة تتحملها الأجور التي توزعها المدينة. كل هذا يتطلب ولوجا سلسا وبأثمنة معقولة للعقار خارج منطق السوق. - من هم المتدخلون الذين يفترض فيهم التأثير في عملية تدبير الرصيد العقاري الذي يتوفر عليه المغرب؟ أعتقد أنه حان الوقت لإحداث أداة مركزية تعمل على توحيد استراتيجيات الدولة في هذا المجال وتجعل الولوج للعقار في متناول المدن والجماعات المحلية ورهن إشارة مختلف السياسات العمومية بأثمنة مقبولة، والأساسي هي الاستثمارات الداخلية والخارجية التي تحتاج إلى عقارات تنافسية. فالإجراءات والتدابير والاتفاقيات الدولية التي انخرط فيها المغرب لن يكون لها جدوى دون عقار تنافسي. فالصين على سبيل المثال التي تستقطب سنويا 100 مليار دولار من الاستثمارات الخارجية والتي تبوؤها الرتبة الثانية بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، تهيئ بالمقابل 35 ألف هكتار من المناطق الصناعية سنويا بأسعار ولوج جد تنافسية. أعتقد أنه حان الوقت للتفكير في خلق أداة مركزية للتخطيط الاستراتيجي لقطاع العقار. وهي الأداة التي عليها مواكبة الحاجيات الآنية واستشراف الحاجيات العقارية المستقبلية لمصاحبة النمو الاقتصادي. إن حجم الاستهلاك السنوي للعقار من قبل كل القطاعات أصبح يبرر وجود هذه الآلية المكلفة بضبط القطاع. الصناعة والسكن والسياحة والبنيات والتجهيزات العمومية كلها مجالات تحتاج سنويا لما يزيد عن 9000 هكتار لتنفيذ برامجها واستراتيجيتها، وهو ما يمثل استثمارا مباشرا في العقار يناهز 225 مليار درهم موزعة بين الفاعلين الخواص والعموميين وهو المبلغ الذي يمثل 32 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وأي زيادة على سبيل المثال في أثمنة العقار في حدود 5 في المائة يمكن أن تفقد النمو الاقتصادي 1.6 نقطة، دون احتساب الآثار المرتبطة بالتضخم وما تفقده من قوة شرائية للأسر الجديدة. كل هذا يتطلب إعادة طرح إشكالية العقار وجعلها في قلب أوراش الإصلاح المقبلة. - هل خلق وكالة عقارية مستقلة يشكل ضامنا لتدبير عقلاني للرصيد العقاري؟ ما هي المقدمات التي يفترض توفيرها قبل خلق تلك الوكالة؟ مشروع الوكالة العقارية ليس بالجديد فقد طرح للنقاش مند عقدين إلا أن هذا المشروع وجد معارضة شديدة من قبل القائمين على النموذج الحالي، الذي يعتمد على تعدد المتدخلين وغياب الرؤية الاستشرافية. العديد من الدول اعتمدت هذه الآلية لضبط قطاع العقار الذي يبقى قطاعا استثنائيا بامتياز. فآليات السوق وحدها لا يمكنها أن تضبطه، كما أن الدولة لايمكنها بالمقابل أن تتخلى عن هذا القطاع الحيوي والاستراتيجي لفائدة دور متنام للأفراد. الوكالة يمكنها أن تلعب أدوارا متعددة وطنيا جهويا ومحليا: منها الوقوف على الاختلالات الحالية وإيجاد حلول مناسبة لها «تعدد الأنظمة، ضعف التحفيظ، ...»، كما ستعمل على تدبير المخزون العقاري العمومي لا من حيث أولويات الاستعمال أو من حيث تجديد هذا المخزون، كما أن الوكالة لها دور أساسي في مواكبة الحاجيات العقارية للمدن وللمخططات القطاعية من خلال الاستفادة من مختلف وثائق التخطيط العمراني وعلى رأسها المخططات الحضرية لمواكبتها على المستوى العقاري.