تضغط على الوجود الإنساني اليوم أزمةٌ جديدة: أزمة الغذاء العالمي. كانت المشكلة مقصورة –ولأزمنة متطاولة- على بلدان الجنوب الفقيرة في المعظم منها، ثم لم تلبث أن بدأت تنتقل إلى بلدان الشمال. ولولا أنها بلغت تلك المنطقة الحمراء المرفَّهة من العالم، لََمَا اكترث لأمرها أحد. فلقد كان الناس يموتون بالآلاف يوميا في أفريقيا وبعض آسيا لعدم توفّر الغذاء لهم من دون أن يَعْبَأ بأمرهم أحد. وهكذا كان الأمر مع الأوبئة والأمراض الفتاكة وآخرها الإيدز قبل أن ينتقل بعضها إلى الشمال، ومع الحروب الأهلية والعرقية قبل أن يتذوق بعض المجال الأوروبي طعمها المُرّ والقاتل. ثمة معايير متفاوتة لقياس أوضاع الغذاء وللحكم عليها بأنها في حالة أزمة أو وفرة. بعضها كمّيّ من قبيل التناسب أو عدم التناسب بين الإنتاج وبين الحاجات الاستهلاكية، بين العرض وبين الطلب. وهو قياس لا يلحظ الفارق بين قدرة استهلاكية ضرورية للحياة وبين أخرى كمالية تفيض عن الحاجة العضوية أو الحيوية. وبعضها الثاني – وهو الأهم- نوعيّ، يتعلق بقياس مدى حصول الإنسان على كمية الطاقة الحيوية من الغذاء الذي يتناوله. وينصرف هذا القياس إلى إعادة تعريف مفهوم الإشباع بما هو إشباع للحاجة إلى تلك الطاقة وليس إشباعا للجوع. وعند هذا التمييز الثاني، يستطيع القارئ في صورة أزمة الغذاء العالمي اليوم أن يقطع بأن معنى الأزمة هذه مختلف في بلدان الشمال عنه في بلدان الجنوب. فحيث الأزمة في الأولى تَغْشى مجتمعاتٍ لم تتعوَّد على أيّ تدهْوُرٍ في مستوى الغذاء ونوعيته، فهي –في الثانية- تضغط على حقٍّ بدائي من حقوق الحياة في مجتمعات تَعْسُرُ فيها شروطُ الحياة. ليس في المقارنة بين الأزمة في العالَمَيْن أي تزيُّد أو مبالغة، ولا هي تنطوي على تمثلات إطلاقية. نحن نعلم بأن شعوب الشمال ليست جميعُها في بحبوحة غذائية: تتناول الكافيار وتشرب الشامبانيا. ففيها طبقة وسطى محدودة الدخل (بمقاييس التفاوت الاجتماعي هناك)، وفيها عمالٌ وفلاّحون يكدحون من أجل الحدّ الأدنى من شروط العيش، وعشراتُ الملايين من العَطَلَةِ عن العمل. ونحن نعلم أيضا أن شعوب الجنوب ليست جميعُها تبحث عن قُوتِها في صناديق القمامة. ففيها من يقذفون ببقايا أو فضلات الطعام في صناديق القُمامة، وفيها من يُزَاحِمُون أثرياء أمريكا وأوروبا في الثراء أو يتفرقون عليهم فيه وفي أنماط ومستويات الإنفاق الاستهلاكي الباذخ.. إلخ. تأخذ المقارنة، إذن، هذه الحقائق والمعطيات في الحسبان، وهو ما يَحْميها من الأحكام المطلقة ويضفي عليها القدر الضروري من الفهم النسبي للأوضاع الاجتماعية في عالميْ الشمال والجنوب. لكن الحاجة إلى مقاربة نسبية للفارق بين معدلات الغنى والفقر في العالميْن وترجمتُهُ في معدلات الاستهلاك الغذائي فيهما ليست تُلغي حقيقة وجود ذلك الفارق في مستوى الغنى والفقر بين عالميْن يكادان يبدوان غير متجاورْين في الزمان من فرط التفاوت بينهما في الإمكانيات وفي فرص الحياة، إذ تفصل بينهما قرونٌ عديدة لا تَقْبَل الجَسْر أو التجاهل بدعوى وجود أغنياء وفقراء في الجانبيْن. وفي إطار هذا التفاوت المذهل، تأخذ مفاهيم الحاجة، والفقر، والجوع، والاستهلاك، والإشباع معانيَ شديدة النسبية. فحين يعني إشباع الحاجة في بلدان الجنوب قدرة المواطن المغربي على الحصول على حاجته من القمح، وقدرة المصري والسوداني على توفير حاجته من الفول، وقدرة الهندي أو الباكستاني على تأمين حاجته من الأَرُزّ، أو قدرة هؤلاء جميعا –وغيرهم- على تأمين حاجتهم من السُّكر أو الزيت (فهذه مواد الغذاء الأساسية عندهم)، فإن معنى الإشباع يختلف عند المواطن الأمريكي والياباني والأوروبي الذي لا يغطي حاجتَهُ سوى توَفٌّر ما هو في حكم مواد الغذاء الأساسية في منظومة الاستهلاك الغذائي في مجتمعه (لحوم، أسماك، أجبان، مشتقات حليب، فواكه...). وهو تفاوُت، يترجم نفسَه في ما دعوناه بالمعنى الحقيقي للإشباع (الحصول على كمية الطاقة الحيوية الكافية)، حيث السَّعِرات الحرارية المتحصّلة من الغذاء تختلف درجات تبَعا لذلك التبايُن. من يتحمل مسؤولية أزمة الغذاء العالمية اليوم؟ من البيّن أن لدول الجنوب وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية قسطا كبيرا من المسؤولية في الموضوع. إن الخراب الذي أصاب القطاع الزراعي، في معظم بلدان الجنوب، نتيجة التركيز الشديد على اقتصاد الخِدْمات الطفيلي (بعد انصرام حقبة الوهم الصناعويّ في الدول المأخوذة بفكرة التصنيع الثقيل على النمط «الاشتراكي» في «العالم الثالث»)، والتوسّع الكثيف في بناء المدن على أخْصب الأراضي الزراعية، والهَدْر المروِّع للثروة المائية إلى حدود الإنْضاب أو الخَصَاص، والتدمير المنهجي والعشوائي للبيئة، ورفع الحماية عن المزارعين وقطاعهم الزراعي وحجب الدعم لمزروعاتهم ووضع مصالحهم في حالة انكشاف كامل أمام تدفق السلع الزراعية من الدول الكبرى بمقتضى اتفاقات التبادل الحُرّ، مع ما ترتّب على ذلك من نزوح اليد العاملة الزراعية من الأرياف إلى المدن (والتكدّس في أحزمة البؤس) واتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، بين العرض والطلب. واليوم، لا تكاد توجد دولة من دول الجنوب توفّر الحدّ الأدنى من حاجياتها الغذائية (دعْك من الأمن الغذائي)، فمعظم حاجاتها تحْصل عليه من طريق الاستيراد (الذي يثقل كاهل الدولة وماليتها)، فيما هي كانت تستطيع –في المعظم منها- تحقيق اكتفائها الذاتي الزراعي قبل ثلاثين عاما أو يزيد! على أن التوزيع العادل للمسؤوليات يقتضي القول إن حصة دول الشمال أعلى من السابقة. إذ ليست دول الجنوب من يتحكم في سوق المزروعات العالمية وفي أدوات الإنتاج الزراعي وأسعارها. وليست دول الجنوب من أنتج هذا الارتفاع المهول في أسعار الطاقة لترتفع بارتفاعها أسعار مواد الغذاء. وليست دول الجنوب من يرهق الزراعة من أجل الحصول على الوقود الحيوي من المزروعات، ولا هي من يُقْفل أسواقه في وجه منتوجات الآخر الزراعية من أجل حماية مصالح المُزَارِع المحليّ. ثم ما هو حجم القروض و«المساعدات» التي قدمتها دول الشمال لبلدان الجنوب من أجل تطوير قطاعها الزراعي وتحديثه أو تنظيم مواردها المائية على النحو الأمثل وبالمعايير الحديثة العالمية... إلخ؟ إن من مقتضيات التفكير في المسؤوليات وتوزيع الحصص والأقساط فيها على نحو صحيح أن تُؤخَذ في الحسبان عوامل عدّة مثل: التفاوت في الموارد والإمكانيات، وحرية القرار الاقتصادي والسياسي، وحصّة كل دولة أو مجموعة دولية من القرار العالمي ومنه حصتها في قرار المنظمات المالية والاقتصادية الدولية المتحكمة في قوت الإنسان اليوم...، وليس من مجال –على هذا المستوى- للمساواة في المسؤولية بين الحاكمين والمحكومين في الأرض.