سألتني صاحبة الفندق الصغير الذي يقع في مزرعة في مقاطعة نورفولك، شرق بريطانيا، في قلب الريف الإنجليزي، قائلة: «من المؤكد أنك صحفي وأنك جئت لمقابلة جوليان أسانج الذي يقيم في القرية المجاورة في إلينغتون هول؟ قلت لها: هذا صحيح وما الذي جعلك تعتقدين هذا؟ قالت: لم نتعود في هذه المنطقة الريفية الهادئة أن نستقبل غير البريطانيين، لكن إقامة أسانج هنا جعلت شهرة للمكان وجعلت المكان أكثر إثارة، وجاءنا عدد من الصحفيين من أستراليا ودول أوربية خلال الأيام القليلة الماضية، نزلوا عندنا وقالوا إنهم جاؤوا لمقابلة أسانج، فالحياة هنا هادئة إلى حد بعيد، وباستثناء أصحاب المزارع وبعض الحرف فإن كثيرا من المتقاعدين يرونها مكانا هادئا لقضاء سنوات تقاعدهم، قلت لها: وما رأيك في ما يقوم به أسانج؟ ابتسمت وشاركها زوجها الحديث قائلا: لقد كانت الولاياتالمتحدة بحاجة إلى من يوقف عنجهيتها وسطوتها المطلقة على العالم، وإني أشجع ما يقوم به أسانج». زلزال «ويكيليكس» وما لدى أسانج من وثائق سرية تخص الإدارة الأمريكية وعلاقتها بحلفائها وجواسيسها الرسميين أكبر مما يتصوره عقل، فما أعلن عنه حتى الآن في ما يتعلق بوثائق الديبلوماسية الأمريكية لا يتجاوز 2 في المائة، ومع ذلك فقد هز كثيرا من العروش والجيوش، ولولا أن صحيفة «الجارديان» البريطانية احتكرت مع «نيويورك تايمز» عملية التسريب لهذه الوثائق على وجه الخصوص وأصبحت تتحكم فيها وفي نوعية ما ينشر منها، لعصفت الوثائق المتسربة بالكثيرين، لكن أسانج -الذي يعيش تحت الإقامة الجبرية في إلينغتون هول، ربما إلى فبراير القادم، انتظارا للبت النهائي في قرار ترحيله إلى السويد لمحاكمته بدعوى التحرش الجنسي- لن يقف مكتوف اليدين، بل إن ما لديه من وثائق أخرى يفوق بكثير ما يمكن أن يتخيله العقل، ليس في مجال الديبلوماسية الأمريكية فقط وإنما في علاقات الولاياتالمتحدة بالجيوش الحليفة لها والانقلابات العسكرية التي تطيح، من آن إلى آخر، بحكومات وأنظمة لا تقر بالولاء أو التبعية للولايات المتحدةالأمريكية، وتتخطى ذلك إلى النفط وآباره والمناطق الحيوية والاستراتيجية التي تعتمد عليها الولاياتالمتحدة كمصدر رئيسي لمواردها في أنحاء العالم. أما البنوك الأمريكية الكبرى فلها نصيب وافر من الوثائق السرية التي يمكن أن تعصف بهذه البنوك وإداراتها، ولاسيما في ما يتعلق بالعمليات غير القانونية التي سلكتها خلال السنوات الماضية. وما يزيد الطين بلة في هذا المجال هو الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالولاياتالمتحدة والعالم منذ عامين والتي أدت إلي إفلاس ما يزيد على مائتي بنك أمريكي صغير ومتوسط، لكن المشكلة أن تصل إلى أحد أهم بنكين في الولاياتالمتحدة بعلاقاتهما المتشعبة بالنظام المصرفي العالمي وما يمكن أن تؤدي إليه من عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي وعلى اقتصاد العالم. ما يقوم به أسانج أصاب المسؤولين الأمريكيين بلوثة وجعلهم يخرجون عن الإطار الديبلوماسي الذي عادة ما يحرص عليه الساسة. ولعل تصريح نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ووصفه لأسانج بكونه إرهابيا يستخدم التكنولوجيا الحديثة وأن أمريكا سوف تلاحقه قضائيا، يعكس حجم الأزمة التي تعيشها الإدارة الأمريكية. وقد كانت سارة بيلين، المرشحة الرئاسية السابقة، قد طالبت بملاحقة أسانج كما يلاحق بن لادن ووصفت أسانج بكونه خطرا عالميا عابرا للحدود يجب التخلص منه. أما توم فلانجان، كبير مستشاري رئيس الوزراء الكندي، فقد كان أكثر وضوحا وطالب، في الثاني من ديسمبر الجاري، الرئيس الأمريكي باراك أوباما باغتيال أسانج. هذه التهديدات تكشف عمق الأزمة التي تعيشها الولاياتالمتحدة، فما قام به أسانج -حسب الشرطة الأسترالية- ليس به أي تجاوز للقوانين لأنه مجرد ناشر لما وقع تحت يديه من وثائق، وكذلك حسب القوانين السويدية والآيسلندية والبريطانية التي تعطي مجالا واسعا لحرية النشر والصحافة وحماية الصحفيين. لكن الولاياتالمتحدة تمارس ضغوطا كبيرة على هذه الدول لتغيير قوانينها. ومن ناحيته، فإن قانون التجسس، الذي صدر في عام 1917 خلال الحرب العالمية الأولى، لا ينطبق، إن من قريب أو بعيد، على حالة أسانج، لذلك فإن هناك جهودا كبيرة يقوم بها أكثر من مائتي قانوني أمريكي يعملون لدى وزارتي الدفاع والعدل الأمريكيتين يعكفون منذ عدة أشهر على محاولة وضع قانون جديد أو البحث في كافة القوانين القائمة عن ثغرة يستطيعون من خلالها توقيف أسانج أو محاكمته، لكن الاحتمال الأقرب هو الضغط على الجندي الأمريكي الذي قام بتسريب الدفعة الأكبر من هذه المعلومات برادلي ماننج الذي يقيم في سجن انفرادي منذ سبعة أشهر بعدما وشى به صديقه وأبلغ السلطات الأمريكية بأنه (ماننج) هو الذي قام بتسريب الدفعة الأكبر من الوثائق إلى «ويكيليكس». وهنا نقطة الضعف الكبرى لأسانج، فإذا نجحت الإدارة الأمريكية في إقناع ماننج بأن يعترف بأنه كان على علاقة بأسانج أو تواصل معه بشكل مباشر مقابل تخفيف الحكم عليه، فإن هذا يعني توريط أسانج في القضية. لكن أسانج ينفي معرفته بماننج أو التواصل المباشر معه من قريب أو بعيد، بينما لا ينفي أن يكون ماننج هو أحد مصادر معلوماته، لكن توريط أسانج مع ماننج يمكن أن يكون الطريق الوحيد للأمريكيين إلى توريط أسانج في قضية ماننج. معظم البنوك الأمريكية والحليفة لها أوقفت كافة العمليات المالية والتبرعات التي كانت تصل إلى «ويكيليكس» أو أسانج لمحاصرته ماليا وإنهاك موقعه. من ناحية أخرى، دفعت بكثيرين ممن عملوا مع أسانج واختلفوا معه إلى أن يشنوا حربا إعلامية عليه حتى إن عدد الكتب التي ستصدر عن أسانج و«ويكيليكس» خلال الأشهر الثلاثة القادمة يزيد على سبعة كتب، معظمها يتناوله بشكل سلبي. أسانج، من ناحيته، لم يقف مكتوف الأيدي إزاء ما تقوم به الولاياتالمتحدة وإنما شن هجوما كاسحا على السياسة الأمريكية ووصفها بكونها ممارسة مكارثية جديدة نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي الذي قام بحملة مطاردة في خمسينيات القرن الماضي ضد من سماهم الشيوعيين في أروقة الإدارة الأمريكية وعصف بعشرات من الإعلاميين والسياسيين. بقيت ثلاثة أيام في مقاطعة نورفلوك، كنت ألتقي فيها كل يوم مع أسانج.. تحدثنا طويلا وتناولنا الطعام أكثر من مرة. وفي الأسبوع القادم، أكشف بعض ما دار بيني وبين جوليان أسانج، ولاسيما حول مخاوفه ومخططاته لمواجهة التهديدات الأمريكية.