إذا كان أسامة بن لادن قد وجد نفسه عام 1994 وقد فقد جنسيته السعودية، فإن السودان كان قد استفاق سنة 1993 على واقع جديد، لا يبدو أنه كان قد وضعه في صميم حسبانه. ذلك أن الإدارة الأمريكية أضافت اسم البلد إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، مع ما يعنيه ذلك من ثمن اقتصادي وسياسي، وصعوبة بالغة في الخروج من القائمة السوداء، وتساؤلات كثيرة تقفز إلى وجهك وأنت تتلمس تفاصيل هذه المرحلة، فلا تدري ما إن كانت الجبهة الوطنية الإسلامية وشيخها الترابي كانا يعرفان خطورة ما أقدما عليه حين أشرعا أبواب السودان أمام مقاتلين من مختلف الألوان والجنسيات، همهم البحث عن ملاذ آمن وقاعدة خلفية للتخطيط والدعم اللوجيستي. كما لا تورد المصادر الأمريكية جوابا شافيا عن حقيقة تعاطي الإدارة الأمريكية مع الجهود الأولى لتجميع هؤلاء المقاتلين في الخرطوم، حيث يُستشف من بعض الكتابات الأمريكية أن كلا من البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية عضّوا على أصابع الندم لعدم إجهاض المشروع «الجهادي» السوداني. الحسابات الخاطئة للجانبين، الأمريكي والسوداني، جعلت قطاريهما السياسيين ينحرفان عن مساريهما ليستيقظا على هول اصطدامهما المفاجئ عام 1995، حين كان الرئيس المصري حسني مبارك في مرمى نيران متشددين إسلاميين بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أثناء مشاركته في مؤتمر لمنظمة الوحدة الإفريقية. فكان للعملية وقعها الخاص على القاهرة وعلى واشنطن التي رأت أحد أهم حلفائها بالمنطقة هدفا لمقاتلين تأكد أن الجبهة الوطنية الإسلامية سهلت تسربهم إلى إثيوبيا وفرارهم بعد العملية. فنجا الرئيس المصري لكن صفحة جديدة في كتاب التحالف المعقد القائم في الخرطوم كانت قد فتحت. فتمت إزاحة رئيس أهم أجهزة التجسس السودانية، أي الاستخبارات الخارجية، وباتت البوصلة في الخرطوم تبحث عمن يوجهها نحو واشنطن. «لم يمض وقت طويل على هذه التطورات حتى راحت الخرطوم تستعمل أسامة ورقة مساومة لبلوغ هدفها الأبعد وهو العودة إلى دائرة الرضا الأمريكي. وهذا ما بدا واضحا عندما تطرق البحث للمرة الأولى مع الولاياتالمتحدة إلى المسألة الشديدة التعقيد المتعلقة بالإرهاب والجهاديين المتطرفين، وكان ذلك في حفل العشاء الوداعي الذي أقامه وزير الخارجية علي عثمان محمد طه للسفير الأمريكي... عرض السفير بشيء من التفصيل ما كانت تريده واشنطن من الخرطوم، وكان الوزير طه يصغي بانتباه كامل دون أن يعترض على أي شيء قاله السفير، ذلك أن النقاش خلال العشاء أقنعه بأن من الممكن الوصول إلى صفقة يُصار من خلالها إلى تحسين العلاقات الثنائية» يقول كتاب «أسامة» لجوناثن راندل. في تلك الأثناء، كانت رقعة المواجهة تتسع لتشمل بؤرا شديدة الحساسية، والتي سترتكز عليها أدبيات المحافظين الجدد فيما بعد، لتتوصل إلى نظرية صدام الحضارات وحصرها في حرب الإسلام ضد بقية العالم، من خلال تمركز المناطق الساخنة على أطراف العالم الإسلامي. ذلك أن كلا من الشيشان والبوسنة والفلبين وغيرها كانت بمثابة معسكرات جديدة لتطوير إمكانيات مقاتلي القاعدة القتالية، وتعزيز سندهم من المشروعية بمشاركة بعض من مقاتليهم في تلك الحروب. و«بحلول العام 1995، لم يكن الشيخ بن لادن مستعدا للتنديد بالنظام السعودي فحسب، بل أيضا لمهاجمته. وإذاك بعث في غشت رسالة مفتوحة إلى الملك فهد داعيا إياه إلى وضع حد للوجود العسكري الأمريكي المستمر في المملكة. وجاء في الرسالة: «مملكتكم ليست سوى محمية أمريكية، وأنتم ترزحون تحت نعل أمريكا». ولما لم يسر الشيخ بن لادن بالرد (الذي تمثل بالصمت)، عمد إلى تنشيط «خلية نائمة» من قدامى المحاربين الأفغان في المملكة العربية السعودية. وكان أن أقدمت هذه الخلية على تفجير مركز تدريب الحرس الوطني الذي تديره الولاياتالمتحدة في الرياض، مما أدى إلى مقتل سبعة أشخاص. وقد أخبرني الشيخ بن لادن بأن الهدف من هذا الهجوم كان أيضا الثأر لما عاناه العلماء من إذلال وتعذيب» يروي عبد الباري عطوان. مع كل هذه المؤشرات، بدأ يتضح أن أمد «الجنة السودانية» آخذ في الانقضاء، واستعداد حكومة الخرطوم لتقديم القرابين للديناصور الأمريكي بات جليا. لكن المثير أنه سيتضح بعد سنوات أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن تبدي الاستعداد الكافي للإيقاع بأسامة بن لادن والقبض عليه. فواشنطن كانت حينها مازالت تعتمد على القانون في تحركاتها، ولم تكن تتوفر على ما يكفي من الأدلة لمحاكمة بن لادن وإدانته، حسب البعض. أو هو الأمل المتواصل في إعادة إدماجه في إحدى جبهات القتال التي تخدم المصالح الأمريكية وإلهائه عن عدائه لها، يقول البعض الآخر. «تردد» أمريكي زاد في تغذيته الشيخ حسن الترابي، بتوجيهه لقدر من النصح مفاده أن إبقاء أسامة في السودان سيجعله أقرب إلى عيون الاستخبارات الأمريكية، وتبقى أخباره بالتالي متواترة في مكاتب ال«سي آي إي»، وهي النصيحة التي ستعود بعض الأدبيات الأمريكية إلى التسليم بصحتها بعد أن رحل بن لادن عن السودان. «كانت تلك الأيام الأولى المبكرة في محاربة الإرهاب وأسامة، وكانت الولاياتالمتحدة آنذاك لا تزال حريصة على التمسك بمتطلبات القانون والأصول، وإذا استثنينا عميلا مزدوجا باسم أ. محمد، مصري المولد أمريكي الجنسية من أفراد القوات الخاصة سابقا، وكان مخبرا لمكتب التحقيقات الفيدرالي وللقاعدة في آن، فإن القسم الأكبر من القليل الذي عرفته واشنطن في تلك الفترة عن القاعدة في السودان، جاءها من عملاء الاستخبارات المغربية» يقول الأمريكي جوناثن راندل في كتابه، ويوضح في الهامش أن مصدر معلومته هذه حوار مع مسؤول أمني فرنسي رفيع، أجراه في العام 2002، ثم يضيف أنه «كانت لدى المغاربة أسبابهم الخاصة بالنسبة إلى إرضاء الأمريكيين وإبقاء أعينهم مفتوحة وواعية تراقب المتشددين لديهم، مع العلم بأن قلة فقط من مواطنيهم كانت متورطة في هذا المجال».