يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ «مهما يكن من أمر القاعدة، في ذهن أسامة، كانت نوعا من «الاحتياط الجاهز»، فيلقا إسلاميا يقف متأهبا مستعدا للخدمة عند الطلب ليس فقط في أفغانستان، وإنما في أية حملة جهادية قد تدعو إليها الحاجة. كان أسامة في لحظات نشوته يفترض أن ما حصل في أفغانستان قد يحصل في أي مكان آخر، لذلك فإذا عاد أتباعه إلى أوطانهم يمكنهم البقاء جاهزين لإعادة تعبئتهم بسرعة كبيرة. في تلك الآونة لم يُبد أسامة أي اهتمام، ظاهريا على الأقل، بإثارة القلاقل والمشكلات في وجه الحكومات الإسلامية، ولا –طبعا- بالأعمال الإرهابية، مع أن الأفغان العرب الذين عادوا إلى الجزائر ومصر وغيرها انخرطوا في أوائل عقد التسعينيات في هذين النوعين معا من الأعمال التخريبية» يعود الأمريكي جوناثن راندل ليجيب عن تساؤلات سابقة. موضوعيا، ما حمل بن لادن على التأسيس لجيشه الاحتياطي وفتح سجلات «القاعدة»، هو ما وقف عليه في بعض مراحل القتال في أفغانستان من صعوبة في تعبئة المقاتلين وتأخر في وصول المزيد منهم. وخلافا لأمثال عبد الله عزام، فإن المشروع الذي بدأ يؤسس له تحالف بن لادن-الظواهري كان يتجاوز المشكل الأفغاني القابل للحل عاجلا أم آجلا، ويخطط بالمقابل لإرساء مفهوم الجهاد الإسلامي بمعناه المطلق، والذي يفترض منطقيا، تطبيق النموذج الأفغاني في بؤر التوتر المشابهة، بداية من كشمير والفلبين، وانتهاء بالشيشان والبوسنة. فكانت رحلة الكثير من المقاتلين تبدأ من أفغانستان لتحط الرحال في إحدى واجهات قتال المسلمين في العالم. وعندما كانت القوى المتحالفة ضد السوفيات تستعد، أواخر عقد الثمانينيات، للاحتفاء بنصر كاسح و»ممتع» بما أنه نُفذ عن طريق جهاز التحكم عن بعد، وبمراحل طويلة من الاستنزاف والخدوش العميقة في وجه الدب الروسي، كان جيش من المقاتلين، الذين أرسلتهم دولهم العربية من المغرب إلى الخليج لمحاربة الكفار، يلتفت من حوله بحثا عن منافذ تصريف ما قالت له الفتاوى الرسمية إنه واجب شرعي ورسالة إلهية لا تعرف الحدود الجغرافية والزمنية. لكن الخيبة كانت كبيرة كِبر الأحلام السابقة، حين رأى المجاهدون كيف تقلص الدعم الأمريكي والعربي (السعودي) بمجرد ما بدأ الجيش السوفياتي في الاندحار. فبذلك نالت واشنطن أقصى ما طمحت إليه ولا يهمها أن يسيطر هذا الفصيل أو ذاك؛ وسرعان ما انتشرت الفوضى في أفغانستان ودبّت الخلافات بين قادة الحرب وبرزت طموحات متعارضة للسيطرة. وبات «المجاهدون» يجدون صعوبات بالغة في الزحف نحو العاصمة كابول. أكثر من ذلك، فإن المقاتلين العرب ذهبوا بطموحاتهم أبعد مما يمكن، وباتوا يطالبون مصادر الدعم المالي بمواصلة العمل رفقتهم، حتى تتحقق لهم السيطرة على كابول وإقامة الدولة الإسلامية المنشودة على نهج السلف الصالح. وزادت الخيبة بانهزامهم في إحدى معاركهم بجلال أباد عام 1989، والتي كان انتصارهم فيها يعني نهاية للحرب. فبدأ أسامة بن لادن في الحديث عن مذابح إسرائيل في حق الفلسطينيين، وعن الدعم الأمريكي لإسرائيل. «لكن يبدو أن الشيخ بن لادن بدأ يرتاب في آل سعود في مرحلة مبكرة. ولا شك في أن كرهه للولايات المتحدة، أقرب حليف للمملكة العربية السعودية في الحرب الأفغانية، كان يتنامى. وكان منذ أواسط الثمانينيات قد بدأ يخبر رفاقه المجاهدين بأن أمريكا هي عدو الإسلام. وفي العام 1987، أطلق الدعوة لمقاطعة السلع الأمريكية والإسرائيلية دعما للانتفاضة الفلسطينية الأولى» يقول عبد الباري عطوان. الصحفي الفلسطيني يعود ليوضح أن العداء الحقيقي بين أسامة بن لادن وآل سعود بدأ في العام 1989، عندما انتهت رحلة الجهاد الأفغاني، ووجد بن لادن نفسه على رأس جيش مدرب ولا يجد معركة يخوضها. وكان جزء هام من مجاهديه قد أتى من اليمن الجنوبي الخاضع لنظام شيوعي آنذاك. فشرع هؤلاء اليمنيون فور عودتهم من أفغانستان في الحلم باسترجاع الأراضي التي صادرتها منهم الحكومة الماركسية. التقت طموحاتهم مع ميولات قائدهم بن لادن، فوجههم فورا نحو العمل على قلب النظام. أكثر من ذلك، اعتقد بن لادن لبعض الوقت أن اليمن الجنوبي سيكون قاعدة جديدة للعرب الأفغان، ومنها تنطلق عملية «تطهير» الجزيرة العربية. فكانت إمدادات السلاح تصل إلى المقاتلين اليمنيين، وحقائب الدعم المالي تعبر الحدود بين العربية السعودية واليمن الجنوبي. وراح يوطد علاقته بجمهورية اليمن العربية، ويلقي الخطب في المساجد للدعوة إلى الانتفاض على حكومة اليمن الجنوبية. علما أن كلا من الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة السعودية كانتا قد ساهمتا في تسليح جيش اليمن العربية وتدريبه، لصد المد الشيوعي الصاعد من الجزء الجنوبي. لكن مع نهاية الثمانينيات، وانحسار المعسكر الشرقي، كانت السياسة الأمريكية قد غيرت مسارها، وبات هدف الوحدة اليمنية أجدى لاستقرار المنطقة. فكان أول اصطدام بين أسامة بن لادن والأهداف الأمريكية، عن قصد أم عن سوء تقدير، لا أحد يجزم بالإجابة. بهذه التطورات، انتهى شهر العسل الطويل بين بن لادن وآل سعود، ومن خلالهم العرّاب الأمريكي. فالشيخ المعتد بإمكانياته وجيشه الجديد لم يتدخل في شؤون دولة جارة فقط، بل بدأ يوالي تدخلاته في شؤون البيت السعودي، حيث راح يطالب بالإصلاح والتطبيق السليم للشريعة. وتجاوز الجزيرة العربية ليوجه سهام نقده للعراق ورئيسه السابق صدام حسين، واصفا إياه بالجشع والعدواني المتطلع للسيطرة على الكويت. بل إنه ذهب حد تكفيره مثيرا فزع السعوديين شديدي التوجس من ردود فعل صدام حسين. الإجراء «التأديبي» الأول كان حرمانه من جواز سفره في محاولة لثنيه عن الاستمرار في تطاوله، لكنه سيعاود إحداث المفاجأة بعد وقوع الاجتياح العراقي للكويت الذي تنبأ به، ليقترح على آل سعود سياسة دفاعية يتولى من خلالها الدفاع عن المملكة بواسطة مقاتليه، فكان الرد أكثر ازدراء هذه المرة، محذرين إياه من معاودة التدخل.