كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. وضع الشيعة أحاديث خاصة بهم، ومنها ما يتضمن إساءة بالغة لعائشة ولبني أمية. والهدف من ذلك هو النيل منها بسبب تزعّمها ثورة مسلحة ضد الخليفة الشرعي، الذي هو عليّ. ويدّعي أتباع هذا الأخير أن عثمان، الخليفة ذا الشخصية الضعيفة، والذي رتب أول نسخة معتمدة من القرآن، قد حذف منه آيات بأكملها لكونها تناصر فريق خصومه، أي المناصرين لعليّ. وكان الأمر سيكون مفاجئاً لو أن هذا الجو المشحون جداً من الحروب الأهلية الحقيقية والفكرية (أحاديث في مواجهة أحاديث مضادّة، مدارس مختلفة في التفسير، نزاعات حول صحة القرآن نفسه، إلخ) لم يفلح في إنتاج غلة غنية من المشككين والزنادقة. بالفعل، لم يتأخر هؤلاء في الظهور. وما يثير الاهتمام حقاً هو كيف تم، خلال القرون الإثني عشر الأولى من الإسلام، التسامح مع كثير منهم خلال مدة طويلة. أولئك الذين يتحدّون القرآن عادة ما كان يلقى عليهم القبض ويُعدمون، مثلما حدث للزنديق اليمَني الذي ابتدع سلسلة من الأحاديث وُصفت وقتئذ بأنها تجديف على النبي وقذف ضد مكانته الأخلاقية. إلا أن كثيراً من الشعراء والفلاسفة والزنادقة قد وسعوا حدود الجدل والمعارضة بحثاً عن المعرفة، فأثروْا بذلك الحضارة الإسلامية. وغالباً ما كانت احتجاجات الملالي (الفقهاء) لدى الحكام تقع على آذان صمّاء، وفي هذا دليل على أن الإسلام كان في ذلك الوقت ديناً متنامياً وواثقاً من نفسه. لقد جادل الفلاسفة الأندلسيون عادة داخل حدود الإسلام، ولو أنّ الفيلسوف القرطبي ابن رشد (1126-1198م) تجاوز في بعض الحالات الحدود المسموح بها. عُرف ابن رشد في العالم اللاتيني ب «أڨيرّويصْ»، وكان أبوه قاضياً، وكذلك جده من قبله، كما أن أحد جدّيه كان إماماً للجامع الأكبر بقرطبة. وابن رشد نفسه كان قاضياً بإشبيلية وقرطبة، ولو أنه سيضطر، هو الآخر، لمغادرة هاته الأخيرة هرباً من حملة شنها الفقهاء ضده، حيث أحرقت كتبه ومُنع من دخول الجامع الأكبر. لقد شحذت صدامات ابن رشد مع الحنيفية الإسلامية ذهنه، ولكنها أيضاً جعلته يتخذ بعض الاحتياط والحذر. فعندما سأله السلطان المتنور أبو يوسف عن طبيعة السماء، لم يناوله الفيلسوف والفلكي (ابن رشد) أي جواب في البداية. وحين ألحّ الأمير قائلا: «هل هي مادة وُجدت منذ الأزل أم لها بداية؟». أي فقط لما بيّن الحاكم درايته بأعمال الفلاسفة القدامى أجابه ابن رشد وفسر له سبب تفوق المناهج العقلية على المعتقدات الدينية. لقد كان ابن رشد على وعي تام بأن الإقرار بكونه فيلسوفاً شبه مادي سوف يقوده فوراً إلى الموت، إلا أنه اختار أن يضع الثقة في حاكمه، الذي شجعه على البحث. ولما أشار السلطان إلى أن بعض أعمال أرسطو يكتنفها الغموض وعبر عن أمله في أن تشرح بلغة واضحة ومركزة، استجاب ابن رشد بوضع سلسلة من الكتب في هذا الباب. وقد جلبت «شروح» ابن رشد اهتمام اللاهوتيين المسيحيين واليهود. تعرضت جلّ أعمال ابن رشد باللغة العربية للتلف أو للإتلاف وما يوجد منها عبارة عن فقرات. ما تبقى منها مكتوبٌ باللاتينية وكان يدَرس بكثافة خلال عصر النهضة الأوروبية، ولكن حتى هذا لا يمثل سوى النزر اليسير من مجموع مؤلفاته. وقد أدت «شروح» ابن رشد وظيفتين اثنتين: كانت محاولة لوضع مختصر جامع لأعمال أرسطو الكثيرة، ولتقديم الفكر العقلاني والفكر المضاد للتصوف إلى جمهور جديد، ولكن كذلك لتجاوزه والدعوة إلى التفكير العقلاني بوصفه فضيلة بذاته. وقبل ذلك بقرنين، كان ابن سينا (980-1037م)، العالِم الفارسي المزداد قرب مدينة بخارى، قد أرسى القواعد لدراسة المنطق والعلوم والفلسفة والسياسة والطب. انتقد ابن سينا «منطق» أرسطو، معتبراً إياه بعيداً كل البعد عن الحياة اليومية، وبذلك غير قابل للتطبيق. وقد أدت مهاراته بصفته طبيباً إلى أن يطلب منه مشغلوه، وهم الحكام الأصليون لخراسان وأصفهان، النصح والمشورة في أمور السياسة. وهنا، مثله مثل نيكولو ماكيافيلي (1469-1527م) من بعده، قدم ابن سينا نصحاً أزعج بعض أسياده. وهذا يعني أنه كثيراً ما كان يغادر المدينة التي يشتغل بها في عجالة. توارى في هذه الفترات عن الحياة العامة وكان يكسب رزقه من ممارسة الطب. ومؤلفه «قانون الطب» هو عبارة عن ملخص للمعرفة الطبية الموجودة آنئذ إضافة إلى نظرياته الخاصة وطرق العلاج التي طوَّرها طوال ساعات كثيرة من الممارسة التطبيقية المنتظمة. وسوف يصبح مرجعاً أساساً في دراسة الطب عبر مدارس الطب في العالم الإسلامي. بل إن أجزاء منه لا زالت تستعمل في إيران المعاصرة. أما «كتاب الإنصاف»، الذي يتطرق لثمانية وعشرين ألف مسألة فلسفية، فإنه ضاع عندما تعرضت أصفهان للنهب وهو على قيد الحياة، حيث كان قد أودع نسخته الوحيدة من هذا المؤلف بالمكتبة المحلية. إن أفكار ابن سينا الفلسفية المتضمَنة في مؤلفات أخرى، والمنقولة على شكل شذرات، هي التي قاربت مسائل ميتافيزيقية تهم المادة والكينونة، والوجود والجوهر. وفي القرون الموالية، سوف تصل هذه الأفكار إلى أوروبا الغربية، حيث سيثير ابن سينا نقاشات ساخنة. شكك ابن سينا في بعث الجسد دون الروح (ولعله بهذا تنازل للحنيفية الإسلامية). وكان هذا أحد الأسباب وراء صدور مرسومين في 1210م و1215م لمنع تدريس أعماله في جامعة السّوربون الفرنسية. وبعد خمس عشرة سنة من ذلك، سيقوم بابا أرحم، وهو غريغور التاسع، برفع تلك القيود. يمثل ابن حزم وابن سينا وابن رشد نماذج من توجهات الفكر شبه الرسمي خلال القرون الخمسة الأولى من الإسلام. لقد غضب ابن سينا وابن رشد تخصيصاً من قيود الحنيفية الدينية، إلا أنهما، كما سيفعل غاليليو غاليلي من بعدهما، فضلا الحياة ومواصلة أبحاثهما على الموت شهيدين. لكن كان ثمة آخرون، أقل تحفظاً منهما، ممن رفعوا التحدي ضد الصرح الإسلامي برُمّته. لقد كتب الزنديق البغدادي ابن الراوندي (القرن الميلادي التاسع) عدة كتب يشكك فيها في المبادئ الأساسة التي تقوم عليها «الثلاث الكبريات»، أي الديانات التوحيدية الثلاث والرب-الذي-في-السماء الموهوب لديهن. وقد ذهب ابن الراوندي في هذا الباب أبعد مما فعلت فرقة «المعتزلة» التي كان ينتمي إليها فيما سبق. كان «المعتزلة» يؤمنون بأنه من الممكن التوفيق بين العقلانية والإيمان بإله واحد. أنكر البعض منهم الوحي مؤكدين على أن القرآن هو كتاب مخلوق وليس مُنزلا (موحى به)، فيما انتقد آخرون بشدة رداءة تحريره وفقره البلاغي ووجود الشوائب في لغته. وقد أصروا على أن «العقل» وحده هو الذي يملي إجلال الله. أما أتباع «المعتزلة» الأكثر تطرفاً فقد أدانوا النبي محمداً لعدم تقواه ولتزوجه بعدد كبير من النساء. استعمل هؤلاء «المعتزلة» حججاً عقلية لتفسير العالم، موفقين في ذلك بين فقرات من الفلسفة اليونانية والاستنتاجات التأملية المبنية على دراساتهم وملاحظاتهم الخاصة. وكان القرآن في نظرهم غريباً على هذا المشروع. لقد طور المفكرون «المعتزلة» بعض النظريات لتفسير العالم المادي: اعتبار الأجسام كتلا من الذرات، والفصل بين ما هو مادي وما هو عرَضي، وأن كل الظواهر يمكن شرحها من خلال التضمن الصلبي للذرات التي شكلت الأجسام. وتأمّل المعتزلة باستمرار في محاولة منهم لفهم الموقع والحركة في الكون. هل الأرض غير متحركة؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا؟ وما هي طبيعة النار؟ وهل ثمة فراغ في قلب الكون؟