كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. يَحظر الإسلام وجود رجال الدين على رأسه. فالمؤمنون جميعاً سواسية أمام الله. ولا مجال للتراتبية في المساجد، حيث يمكن، من الناحية التقنية، لأي مسلم أن يخطب في الناس. ترى كيف كان سيتطور الإسلام لو أجبر على قضاء السنوات المائة الأولى في البراري؟ إنه سؤال مهم، ولكن الإسلام لم يواجه هذا الاختيار أبداً. في المقابل، وجد قادة الإسلام أنفسهم بسرعة على رأس إمبراطوريات ضخمة، مما كان يؤدي إلى حدوث كثير من الارتجال في تدبير الأمور. النسخة المعتمَدة من القرآن، والتي كفل الخليفة الثالث عثمان بن عفان صحتها، نُشرت بعد وفاة النبي محمد بسنين عديدة. وقد اعتبرها المسلمون النسخة الأصلية، ولو أن بعض الباحثين «الكفار» العصريين مثل باتريشا كْرونْ لم يجدوا «أي دليل قاطع على وجود القرآن في أيّ شكل من الأشكال قبل العقد الأخير من القرن الميلادي السابع...». وبغض النظر عن التاريخ، فإن التعاليم القرآنية، التي تشرح بعض المواضيع بتفصيل، لم تكن كافية لتوفير مدونة شاملة تقنن المعاملات الاجتماعية والسياسية والتي كانت ضرورية لتأكيد الحكم الإسلامي للبلدان التي فتحها المسلمون. لذا ظهر الحديث النبوي إلى الوجود، والذي يتمثل في ما قاله النبي أو صحابته أو زوجته في زمن وتاريخ معينين لعمرو أو زيد، الذي رواه لفلان أو عَلان، الذي أخبر بدوره المؤلف، الذي قام بتدوين «الحديث». وقد عرفت المسيحية من ذي قبل تجربة مماثلة، إلا أنها حصرتها في أربعة أناجيل، بعد التحقق من أن كل الروايات المتناقضة حول المعجزات الحاصلة أو فصول أخرى إمّا حُذفت أو تمّ تقليصها إلى أدنى حدّ ممكن. هاته اللعبة العجيبة من الهمسات العربية التي بدأت في شبه الجزيرة العربية ورحلت إلى دمشق لم يكن في الإمكان حصرها في أربعة أو حتى خمسة مجلدات نحيفة. ولكن الرحمة ستنزل لأن النبي، في قرار كله نكران للذات وإثارة للإعجاب، تبرَّأ من أية قدرة على إنجاز المعجزات. إنه مجرّد رسول يحمل الوحي إلى جمهور أوسع. وهو ما أعفى الديانة الجديدة من إنتاج قصص عن المعجزات، غير أن بعض الرواة لم يتمادوا في منافسة المسيحية، ولو أن منتوجاتهم كانت أقل إقناعاً. يا للأسف! لأن الخيال القوي عند العرب كان سيخلق نصوصاً متميزة في هذا الحقل، متجاوزة ما قام به موسى وعيسى والبقية الباقية. لقد ربط كُتاب سيرته الأوائل بالفعل محمّداً بالمعجزات، ولكن هذه الأخيرة ليست في حجم معجزات موسى وعيسى. لقد أدت الحاجة إلى خلق الأحاديث إلى ظهور حرفة جديدة سوف تشغل مئات العلماء والنقلة طوال القرنين السابع والثامن للميلاد، رغم أن أغلبهم كانوا غير مؤهلين معرفياً لهذا الغرض. وقد أدى هذا إلى حدوث جدالات طاحنة حول صحة بعض الأحاديث، ثم بالمذاهب المتخاصمة ضمن الإسلام إلى التعاقد مع العلماء لدعم قضيتها. وفي وقت لاحق، سينشر المتصوفة أحاديث خاصة بهم يؤكدون فيها على ما يريدون سماعه. القول إن «لا رهبانية في الإسلام» بدا أصيلا، ولكن هل قال النبي حقاً: «صلوا خمس مرات في اليوم، لكن إربطوا إبلكم أوّلاً»؟ وإذا كان قد فعل، فما المقصود منه؟ هل كان النبي يلمح إلى أن بعض المؤمنين قد يستغلون وقت الصلاة ليسرقوا جمل مؤمن آخر؟ أم يقصد الحيلولة دون تعرّض الجمل للسرقة على يد أحد الكفار؟ أم أن الأمر يتعلق فقط باحتياط يُتخذ لمنع الجمل من أن يتبع صاحبه إلى المسجد فيدنسه؟ أم ماذا؟ حرب الأحاديث لا تزال قائمة، مثيرة السؤال حول صحة أيّ مِنها. لقد ظل المتخصصون يتجادلون فيما بينهم حول هذا الموضوع لأكثر من ألف سنة ولكنهم لم يتوصلوا إلى أي إجماع، الذي لم يكن ممكناً، رغم أن علماء الإسلام قد قلصوا على مر القرون عدد الأحاديث المقبولة وذكروا بالإسم أكثر رواة الحديث أمانة. مع ذلك، تظل النقطة الأساسية تهمّ ليس صحة الأحاديث بل الدور الذي قامت به في المجتمعات الإسلامية. فالأحاديث السنية تعترض على «بدعة» الشيعة. وأصول المذهب الشيعي تعود إلى خلافة متصارَع عليها. إثر وفاة محمّد عام 632م، قرر صحابته اختيار مَن يخلفه. فوقع اختيارهم على أبي بكر الصدّيق لقيادتهم، ثم على عمر بن الخطاب بعد وفاة هذا الأخير. ومن المرجَّح أن يكون عليّ بن أبي طالب، صهر محمد، قد استاء من ذلك، إلا أنه لم يحتج. وما سيثير غضب عليّ هو اختيار عثمان بن عفان خليفة ثالثاً. كان عثمان ينتمي إلى سلالة بني أمية ويمثل الأرستقراطية القبلية المكية. وقد أزعج فوزه الحرس القديم من الموالين، لأنهم كانوا يفضلون عليّاً على عثمان. لو كان الخليفة الجديد أصغر سناً وأكثر حيوية ربما كان سيتوصل إلى تصالح مع معارضيه. ولكن عثمان كان في السبعين من عمره؛ أيْ رجلا مسناً وفي عجلة من أمره. كما أنه عيّن أقاربه وأفراداً من عشيرته في مناصب مركزية بالمناطق التي تم فتحها حديثاً. وفي سنة 656م، تعرض للاغتيال على يد أنصار عليّ، فنصِّب هذا الأخير خليفة على المسلمين. لقد تسبب هذا الوضع في اندلاع أول حرب أهلية يشهدها الإسلام، حيث دعا اثنان من صحابة محمّد، وهما طلحة والزبير، الجنود الموالين لعثمان إلى العصيان. ثم انضمت إليهما عائشة، أرملة النبي الشابة المندفعة. وسيدخل الطرفان المتنازعان في المعركة قرب البصرة، حيث ستحرض عائشة من على ظهر جمل جنودَها على إلحاق الهزيمة ب «المغتصب». وفي هاته المعركة، التي تعرف ب «موقعة الجمل» (أو «معركة الجمل»)، كان النصر حليف جيش عليّ. وفيها أيضاً سقط طلحة والزبير وتم أسر عائشة وإعادتها إلى المدينة، حيث وُضعت عملياً تحت الإقامة الجبرية. وفيما بعدُ، سيفشل عليّ خلال معركة أخرى في التصدي لمناورات بارعة من خصومه الأمويين. فقد أغضب قراره بقبول التحكيم والهزيمة المتشددين داخل طائفته، فقام أحدهم باغتيال عليّ عند مدخل أحد المساجد بالكوفة عام 660م. تم الاعتراف بخصمه معاوية بن أبي سفيان، القائد العسكري المحنك، خليفة للمسلمين، غير أن ابنيْ عليّ (الحسن والحسين) رفضا الاعتراف بسلطته، مما أدى إلى نشوب «معركة كربلاء» (680م) وتعرضهما للهزيمة والاغتيال على يد يزيد بن معاوية. وسوف تؤدي هاته الهزيمة إلى حدوث شرخ دائم داخل الإسلام. ومنذئذ سيقدم الشيعة على إقامة دول وسلالات حاكمة خاصة بهم، لعل من أبرز نماذجها فارس القروسطية وإيران المعاصرة.