يبدو أن العام الميلادي الجديد، الذي أوشك على البدء، لن يحمل أخبارا طيبة بالنسبة إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما وإدارته، فتطورات الأوضاع في أفغانستان تسير من سيئ إلى أسوأ، ولا يوجد أي بصيص ضوء في نفق الحرب الذي بات أكثر إظلاما. فبالأمس (يقصد السبت)، استقبل مقاتلو حركة طالبان السيدة أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، التي تزور البلاد لتفقد قواتها هناك، بقتل أحد الجنود الألمان، والاستيلاء على قاعدة للجيش الأفغاني، وقتل 15 جنديا من أفراده. الرئيس أوباما قال في خطابه -الذي ألقاه يوم الجمعة الماضي بمناسبة نشر تقرير حول مراجعة استراتيجية الحرب في أفغانستان، أعده خبراء عسكريون- إن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، حيث جرى تحقيق تقدم في عدة اتجاهات على صعيد «تحجيم» أنشطة تنظيم القاعدة، وقتل عدد كبير من قياداته في المنطقة الحدودية التي لم تعد تشكل ملاذا آمنا، وإضعاف حركة طالبان عسكريا. مثل هذه الأقوال صحيحة جزئيا، فقد نجحت القوات الأمريكية في اغتيال أبو اليزيد، أحد قادة تنظيم القاعدة، أو الرجل الثالث فيه، كما تمكنت من قتل بيعة الله محسود، زعيم تنظيم طالبان باكستان، علاوة على بعض القادة الميدانيين الآخرين، ولكنها تظل إنجازات محدودة جدا بالمقارنة مع الثمن الباهظ الذي تدفعه القوات الأمريكية والمتحالفة معها في هذه الحرب الاستنزافية على الصعيدين البشري والمادي. فأرقام القتلى في العام الحالي، وبعد تسع سنوات من العمليات العسكرية، هي الأعلى، وتفيد التقارير بأنها قد تتضاعف في العام القادم بسبب تطور قدرات طالبان الهجومية. وربما لهذا السبب اعترف الرئيس أوباما بأنه لم يخسر الحرب، ولكن الفوز فيها ما زال بعيدا، وأكد أن بعض الإنجازات والمكاسب التي تحققت ما زالت هشة والتحدي الأساسي يكمن في الحفاظ على استمراريتها. وهناك تحد آخر يواجه الرئيس الأمريكي، يتمثل في أنه يخوض حربا لا يمكن شرحها أو تبريرها للرأي العام الأمريكي الذي يسوده الإحباط التام، خاصة أن تكاليف هذه الحرب المادية، التي تصل إلى 113 مليار دولار سنويا، تأتي في وقت يواجه فيه الاقتصاد الأمريكي انهيارات ضخمة، وتتفاقم فيه أرقام عجز الموازنة والديون الحكومية في آن. المواطن الأمريكي يسأل عن أسباب وجود مائة ألف جندي أمريكي في بلد يبعد عنه أكثر من عشرة آلاف ميل، ويعتبر مقبرة الإمبراطوريات في التاريخ، فلم تتورط قوى أجنبية في هذه البلاد الوعرة إلا وخرجت منها مهزومة ذليلة. فبعد تسع سنوات من إعلان الرئيس جورج دبليو بوش الانتصار في أفغانستان والسيطرة على كابول، وبث العديد من الأشرطة المتلفزة حول «تدافع» الشباب لحلق ذقونهم للتعبير عن سعادتهم بوصول قوات «التحرير» الأمريكية، تفيد التقارير الأمريكية بأن حركة طالبان تسيطر على ثلثي الأراضي الأفغانية، بينما تظل سيطرة حكومة حامد كرزاي على الثلث المتبقي هشة للغاية. القوات الأمريكية من المفترض أن تبدأ الانسحاب في يوليوز المقبل مثلما وعد الرئيس أوباما، وتسليم البلاد إلى القوات الأفغانية. فقد جرى تجنيد حوالي 171 ألف جندي في الجيش، و134 ألف عنصر في الأجهزة الأمنية، وبلغت تكاليف تدريب هذه القوات مجتمعة حوالي ستة مليارات دولار. الدراسات الغربية أثبتت أن 95 في المائة من هؤلاء أميون، وحوالي تسعين في المائة منهم من مدمني المخدرات، والأهم من ذلك أن ستين ألفا هربوا من معسكراتهم وانضموا إلى حركة طالبان ومعهم أسلحتهم على مدى السنوات التسع الماضية. كيف سيتولى جيش من الأميين والمساطيل إدارة شؤون البلاد وقوات حلف الناتو التي يزيد تعدادها على 150 ألفا والمدربة والمسلحة وفق أحدث المناهج العسكرية الغربية، فشلت في هذه المهمة؟ المشروع الأمريكي في أفغانستان سيواجه الهزيمة حتما لعدة أسباب، نوجزها في النقاط التالية: أولا: غياب حكومة أفغانية وطنية تتمتع بالشرعية والقبول في أوساط السكان، فالأمريكان أنفسهم اعترفوا بفشل حامد كرزاي وتزويره الانتخابات، واستعانته بأمراء الحرب الفاسدين، وتورط أشقائه في تهريب المخدرات. ثانيا: الفشل المطلق في وقف الدعم الخارجي، المالي والعسكري، لحركة طالبان، فأفغانستان تجسد «صرة» آسيا، ولها حدود برية مع أكثر من سبع دول، بما في ذلك الصين وباكستان وطاجيكستان وأذربيجان وإيران، وهي حدود لدول إسلامية تصعب السيطرة عليها، وبعضها له مصلحة في عدم نجاح الغزو الأمريكي. ثالثا: صلابة المقاومة الطالبانية والمكونة في معظمها من قبيلة البشتون التي تمثل نصف الشعب الأفغاني تقريبا، وهؤلاء محاربون أشداء، ويتبعون المذهب الحنفي المعروف بتشدده في أمور العقيدة والشريعة والرغبة في الشهادة. رابعا: تلكؤ باكستان في التجاوب مع الطلبات الأمريكية بزيادة عمليات جيشها وأجهزتها الأمنية ضد طالبان. وقد قال لي مسؤول باكستاني قبل بضعة أيام إن التجاوب مع هذا الطلب هو بمثابة انتحار. فهل يعقل أن يقتل الجيش الأفغاني مواطنيه في المناطق الحدودية إرضاء لأمريكا، وهو ما زال يواجه أزمة كشمير مع الهند، ويتوقع حربا أمريكية إسرائيلية ضد إيران قد تؤدي إلى حدوث فوضى في المنطقة؟ الرئيس أوباما قال في خطابه إنه أضعف تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، وجعل قدرته على الحركة والتجنيد «محدودة»، وهذا أمر ينطوي على بعض الصحة، ولكن ما غاب عن الرئيس الأمريكي هو أن أفغانستان لم تعد على تلك الدرجة من الأهمية لتنظيم «القاعدة» الذي توسع بشكل كبير أفقيا على مدى السنوات التسع الماضية، واستطاع فتح فروع في الجزيرة العربية (اليمن) والمغرب الإسلامي (شمال إفريقيا) والصومال، والصحراء الإفريقية الكبرى والعراق الذي عاد إليه بصورة أقوى من السابق. من الواضح أن الرئيس أوباما يريد تمديد موعد الانسحاب الكامل من أفغانستان إلى منتصف العقد الحالي، أي مع نهاية عام 2014، وهو قرار خاطئ ربما ينطوي على نتائج خطيرة للغاية، أبرزها مضاعفة الخسائر المادية والبشرية معا. الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر خسر رئاسته والانتخابات الأمريكية لفترة ثانية بسبب محاولاته الفاشلة لتحرير رهائن سفارة بلاده في طهران، ويبدو أن ملالي أفغانستان سيلحقون الهزيمة نفسها بالرئيس الديمقراطي الآخر باراك أوباما. ما يحتاجه الرئيس الأمريكي هو البحث عن استراتيجية خروج (Exit Strategy) في أسرع وقت ممكن، وتسليم الحكم لطالبان تقليصا للخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، فالهزيمة محققة والنصر شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلا فعلا. ريتشارد هولبروك، مبعوثه إلى المنطقة، الذي فارق الحياة قبل أيام ربما يأسا وإحباطا، توصل إلى هذه القناعة مبكرا، وكذلك فعل جنرالات الحرب الأمريكان، ولكن الرئيس أوباما لم يأخذ بهذه النصيحة في حينها، ولكنه قد يأخذ بها في نهاية المطاف.. نرجو ذلك.