عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. كان علي أن أتوجه إلى مركز البريد لكي أتسلم الحوالة المالية التي بعثها إلي عمي من فرنسا، أطال الله بقاءه. اعتقدت في البداية أن ذلك سهل، وقلت مع نفسي سأقف في الطابور لخمس دقائق، ثم أعود ومعي الألف درهم. لكنني كنت غبيا حين اعتقدت ذلك، لأنني عندما وصلت إلى مركز البريد وجدت طابورا طويلا يخرج من الباب ويمتد حتى الشارع قبالة محطة سيارات الأجرة. كان الناس الذين ينتظرون الطاكسي في الشارع يختلطون بالناس الذين ينتظرون الوصول إلى موظف البريد لكي يتسلموا بضعة دريهمات. أصبت بالصدمة، وقلت مع نفسي ما كنت أقوله دائما، إن الذين يحكمون هذه البلاد ما كان لهم ليفعلوا كل هذه الفظائع التي يرتكبونها يوميا في حق الناس لو أن الشعب كان يجد الوقت الكافي للتفكير في همومه والغضب على من أفقروه. المغاربة يضيعون نصف عمرهم وهم يقفون في الطوابير، والناس يحسون بسعادة غامرة حين يصل دورهم بعد ساعات طويلة من الانتظار، وهذه السعادة أصبحت تعوض السعادة التي يحس بها الإنسان حين يحقق هدفا ساميا في حياته، أو يطيح بالذين يستغلونه ويعاملونه مثل حمار. المغاربة يحسون بالسعادة حين يصل دورهم ويصعدون إلى الحافلة والطاكسي بعد معاناة طويلة، ويحسون بالفرح حين يصل دورهم في البريد والإدارات، ويفرحون حين يصل دورهم من أجل أداء فواتير الماء والكهرباء. إن النضال في المغرب لم يعد من أجل حياة كريمة، بل فقط من أجل تأسيس حياة ذليلة في حدودها المعقولة، أي أن يكون الإنسان ذليلا في إطار معقول، وهذا ما يجعل الناس يقفون لساعتين في طابور لكي يؤدوا مبلغا كبيرا عن استهلاك الماء والكهرباء، حيث إن المواطن لا يغضب لأن المبلغ مرتفع والشركة تسرقه في وضح النهار، بل إنه يفرح كثيرا عندما يصل دوره ويؤدي المبلغ كاملا، ويخرج من الوكالة وهو يكاد يطير من الفرح وهو يقول مع نفسه: أخيرا وصل دوري، وأنا الآن حر.. حر... يا لها من حياة غبية. أعرف أن الله سيحاسبنا عن كل دقيقة أمضيناها بلا فائدة. ربما بسبب هذا نستحق جهنم جميعا لأننا عوض أن نفعل شيئا مفيدا في حياتنا، أمضينا عمرنا واقفين في الطابور. من الأفضل لو أننا لم نولد. عندما سيسألنا الله تعالى عن عمرنا في ما أفنيناه، هل سنقول واقفين في الطابور؟ ماذا يفيد أن نولد ونعيش ونقف في الطوابير. أنا لم أر في حياتي رجلا غنيا أو مسؤولا يقف في الطابور. الطوابير صنعت من أجل الفقراء فقط لكي لا يفكروا في شيء آخر، وعندما ستنتهي الطوابير، سيجدون أنفسهم وقد أصبحوا شيوخا على حافة القبر. اليوم وأنا أنتظر دوري في مركز البريد، رأيت الكثير من الشيوخ الذين يقفون مثل أشجار هرمة ينتظرون دورهم. يا له من بلد هذا الذي يترك شيوخه يقفون أمام أبواب الإدارات من أجل حفنة من دراهم التقاعد. وهذه حكاية الغد.