لا شك اليوم في أن جنوب السودان سيعلن انفصاله انتخابيا مطالع العام القادم، بعد أن أعلنه عمليا وفعليا منذ سنوات، تحت ضغط وتخطيط وموافقة وممانعة و.. و.. و.. إلخ. حكومة الرئيس عمر البشير، الذي لم يضيع فقط جميع الفرص التي أتيحت له وللسودان، كي يرسي حياة شعبه على أسس من شأنها صهر مكوناته بعضها مع بعض على أرضية تتسع للجميع وتلبي مطالب الجميع وتحفظ كرامة الجميع، هي أرضية المواطنة والحريات والاحترام المتبادل والحقوق المحترمة، لكنه بدل أن يفعل ذلك كي يحفظ السودان موحدا متآلفا متضامنا، فعل عكسه، واستل سيف القسر والغدر على مواطنيه في كل مكان، وأعمله فيهم قتلا وتمزيقا وتفريقا، وحكمهم لا كمواطنين بل كنزلاء مصحة أمراض عقلية أو مستشفى مجانين. وها هي تبلغ نهاياتها الحتمية، وما وحده الاستعمار تفرقه وتمزقه «ثورة الإنقاذ»، وما بقي متماسكا طيلة نيف ونصف قرن يوشك على الانهيار بإرادة أبنائه الذين أخذهم حكم البشير إلى حافة هاوية، ثبّتهم عندها ليسهل عليه التحكم فيهم، وإلا فمن أجل إلقائهم إلى قاعها السحيق، ومن يدري كم ألقى منهم إلى أغوارها، عندما حصر سياساته في القتل والبطش والتدمير والتخريب، حتى إن شعب السودان المشهور بدماثة الخلق وهدوء الطبع، والذي كثيرا ما فرقته السياسة لكنها لم تفسد أبدا الود بين أبنائه، لم يعش يوما واحدا هادئا أو سلميا في ظل حكم الإنقاذ، بعد أن انقلب على الرجل الذي أوصله إلى السلطة، والحزب الذي أمن له الجماهير اللازمة لدعم نظامه، وانقلب أخيرا على وحدة السودان وتضامن شعبه ووداعته، فشرع يعامله بقسوة مفرطة تفوق تلك التي يأخذ بقية إخوته من حكام العرب شعوبهم بواسطتها، حتى أذاقه أشد الويل وفرقه أيدي سبأ، وها هو الجنوب، الذي يضم بين قادته شماليين فروا من بطش البشير ومخابراته، يحتفل بالانفصال باعتباره تحررا من الطغيان، رغم أن انفصاله لن يكون أمرا سهلا أو ميسورا، ورغم ما سيسببه من مآس كثيرة، فليس من السهل فصل أو انفصال شعب تعايش أفراده، بعضهم مع بعض، وناضلوا في سبيل حرية وطن اعتبروه واحدا وتصرفوا فيه باعتباره وطنهم الذي ليس لديهم سواه، ثم جاء من يخيرهم بين العبودية في ظل نظامه وبين الحرية بعيدا عنه، فاختار أبناء الجنوب الثانية، مع أنهم لا يعرفون بعد إن كانت حرية حقيقية بالفعل، وما إذا كان عائدها يناسب تطلعاتهم وطموحاتهم. المهم أنهم يريدون الخلاص، وأن طغيان البشير نجح في دفعهم إلى التصرف تحت تأثير اليأس من وجود حل أفضل، بل وأجبرهم على الانفصال، لاعتقاده خطأ أنه سيتمكن من إحكام قبضته بيسر أكبر على بقية السودان، مع أن الأحداث اليومية تكذبه وتلقنه الدرس تلو الآخر، وهو ما ستكون له نتائج وخيمة على السودان كله. ولعل إعلان أبناء دارفور عزمهم على استمرار مقاومة نظام البشير من أرض الجنوب يكون نذيرا يبين له ما يضمره المستقبل بين جوانحه، وحجم الخطر الذي يحيق بالسودان إن استمر نظامه على نهجه الراهن، ويقنعه بأن الجنوب لن يكون آخر منطقة ستنفصل، بينما هروبه المحتمل إلى الأمام، إلى الحرب، لن يكون حلا ولن ينجح، ما دام السودان بأسره يقاومه وانفكاكه عن نظامه يتعمق يوما عن يوم، لكونه زعيم مافيا وليس حاكما شرعيا، وما يفعله ويقوله ليس غير مسوغات لبقاء سلطة تدمر وطنها من أجل شخص وزمرة صغيرة من أتباعه، وليس مكرسا لحل مشكلات استشرت وتمادت في بلاد كان يقال بحق إنها خزان طعام العرب وإفريقيا، وها هي تعجز عن إطعام شعبها بفضل البشير، الذي فضل تعقيد معضلات مجتمعه ودولته بالبندقية على حلها بالعقل، وحكم بالقوة لا التفاهم، وبالاستئثار لا الشراكة، وبالجوع لا الشبع، وبالاستبداد لا الديمقراطية، حتى صار هو نفسه مطاردا من العالم كجزار قتل ثلاثمائة ألف مواطنة ومواطن في دارفود وحدها، وفر الجنوبيون منه إلى السلاح أول الأمر، وها هم يفرون إلى الانفصال، بينما هو عاجز عن استخدام القوة ضدهم، بعد أن جربها سنين طويلة وفشل، فلم يخطر له أسلوب لمعالجة تفكك السودان الوشيك غير تحريض العرب ضد الجنوبيين بحجة أنهم سيقيمون علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، كأن إسرائيل ليست موجودة في السودان منذ زمن طويل، بفضل انقساماته وتناقضاته وحروبه الداخلية واستبداد حكامه الذين وطدوا هذه الانقسامات والتناقضات، ومكنوا إسرائيل من أن تفتح الأبواب التي تريد الدخول منها، ومن أن تتدخل ما طاب لها التدخل، بينما العرب نائمون وغائبون كعادتهم، فهل يستيقظون هذه المرة لمواجهة عدوهم المزعوم الذي يشاركهم قسم كبير من أبنائه اللغة والدين والحضارة والمشاعر والأفكار، أم يبادرون إلى فتح حوار مع قادة الجنوب يدخلهم إليه ويوطنهم فيه، ويذكرهم بأن انفصاله عن الطغيان لا يعني بالضرورة أنه صار معاديا لهم، وأنه سيبقى مفتوحا أمامهم أفرادا وجماعات ومشاريع وتجارة وصناعة وزراعة ومصارف، فليس عليهم غير استغلال الفرصة لاحتضانه بعد أن خسره نظام البشير الذي لا يمثل العرب وليس حريصا عليهم، ولا يجوز أن يتضامنوا معه ضد قسم كبير من شعبه، كان إلى البارحة جزءا تكوينيا من عالمهم، ويمكنهم كسبه دون صعوبة إنْ هم انتهجوا سياسات صحيحة حياله، هي التي ستقطع الطريق على إسرائيل، وليس ما يدعوهم البشير إليه من عداء تجاه خصومه. ليس بكاء البشير على وحدة السودان صادقا. إنه يبكي فشله في إبقاء مكون رئيسي من مكونات شعبه تحت حكمه، ويبكي لخوفه من العواقب التي ستنجم عن ذلك بالنسبة إلى نظامه، فهو إذن ليس بكاء الصدق بل تباكي الكذب، ولا يصح أن يقال له في حالة كهذه غير ما قالته أم أبي عبد لله الصغير له وهو يغادر غرناطة باكيا، بعد أن سلمها إلى الفرنجة دون أن يدافع عنها: إبك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال وقديما قال شاعر عربي بمناسبة كهذه: إذا اشتبكت دموع في خدود سيظهر من بكى ممن تباكى إن دموع البشير لن ترد وحدة السودان، التي يريد كل مخلص ومحب للسودان استردادها، ولكن في ظل ظروف وشروط ديمقراطية وإنسانية، وببعد غيابه. هل هذا احتمال ممكن؟ أظن أنه ممكن جدا، وآمل ألا يكون انفصال السودان نهائيا، وأن ينجح شعبه في الحفاظ على أكبر قدر من الوحدة بين بناته وأبنائه في الشمال والجنوب، تمهيدا لاستعادة وضعه الطبيعي، في نظام حريات ومساواة وعدالة، هو نظام قادم لا محالة، في السودان كما في كل قُطر ومَصر من أرض العرب!