عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. لا أخفيكم أني أحسست بشعور غريب عندما لم أعد أرتدي ربطة العنق. صحيح أني لم أتعمد ذلك، لأنها تمزقت في ذلك الصباح الشهير بقاعة السينما، لكني من دون ربطة عنق أصبحت أحس وكأني أكثر تعقلا من ذي قبل. أصبحت اليوم أضحك على نفسي وأقول كيف أقارن نفسي مع لصوص، عفوا، مع مسؤولين كبار لا تفارق عنقهم تلك الربطة الغبية. أنا إنسان عاطل أدارت له الأيام ظهر المجن، ومع ذلك أحاول أن أبدو أنيقا وبربطة عنق لا تفارقني وكأني ولدت بها. من الآن فصاعدا لن ألبس ربطة العنق إلا في مناسبات خاصة جدا، بما في ذلك يوم زواجي، إذا كان مقدرا لي أن أتزوج يوما بعد أن أحصل على عمل. في كل الأحوال فأنا اليوم سعيد جدا لأن عمي حمّو، الذي هاجر إلى فرنسا قبل خمسين عاما واشتغل هناك مثل بغل، تذكرني مرة أخرى وبعث إلي حوالة مالية بألف درهم. صحيح أنه مبلغ تافه، لكنه في كل الأحوال سيجعلني أعيش مثل بورجوازي حقير لمدة أسبوع أو يزيد. عمي هاجر إلى فرنسا بعد الاستقلال بقليل. إنه اليوم مشرف على عامه الثمانين، ومع ذلك يتذكر ابن أخيه، الذي هو أنا، بين الفينة والأخرى. من المحزن لعمي المسكين أنه لم يترك أبناء، رغم أنه تزوج عدة مرات. في المرة الأولى طلق أول زوجة له بعد شهرين فقط من الزواج لأنه اعتقد أنها عاقر. رجل أحمق بالفعل، كيف يطلق بعد شهرين من الزواج؟ كانت زوجته الأولى من منطقة قريبة من المنطقة التي هاجر منها من المغرب. كانت أمية مثله وتظل طوال الليل والنهار تجلس في ذلك الكوخ الموجود في ضواحي باريس مثل غيرها من مئات آلاف المهاجرين الذين تحولوا إلى عبيد فرنسا بعد استقلال المغرب. دائما أتذكر أولئك المهاجرين البؤساء الذين تركوا المغرب بعد سنوات قليلة من الاستقلال.. استقلال؟ أي استقلال؟؟.. أنا لا أفهم كيف يترك الناس بلادهم مباشرة بعد الاستقلال الذي انتظروه طويلا. الغريب أني دائما كنت أحاول فك ذلك اللغز الذي يجعل كلمتي «استقلال» و«استغلال» متقاربتين إلى حد بعيد. هل هي الصدفة وحدها أم إنه مكر اللغة والواقع؟ كان عمي من بين عشرات الآلاف من السواعد القوية الذين طلبتهم فرنسا لكي تعيد بناء اقتصادها بعد الحرب العالمية الثانية. نحن شعب غريب، مجرد حطب وقود وسواعد للعمل. خلال الحروب نتحول إلى مقاتلين في صفوف القوات الأجنبية، وفي أيام السلام نتحول إلى عبيد في مصانع مناجم البلدان الأجنبية. ألا نصلح لشيء سوى للتضحية من أجل الآخرين؟ والغريب أن أنهارا من دماء المغاربة سالت من أجل البلدان التي كانت تستعمر المغرب، يعني عوض أن يقاتل المغاربة ضد البلدان التي تستعمرهم، فإنهم قاتلوا لصالحها، هذا شيء لا يصدق. لقد قاتل آلاف المغاربة من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية وفي الهند الصينية، وقاتل عشرات الآلاف من المغاربة في الحرب الأهلية الإسبانية، ومات الكثيرون منهم ودفنوا في كل مكان. لقد تفرقت دماء المغاربة بين البلدان والقارات من أجل لا شيء، وقبورهم أصبحت تتعرض للتدنيس من طرف أبناء وأحفاد أولئك الأوروبيين الأنذال الذين استعبدوا آباءنا وأجدادنا. لماذا كانت دماء المغاربة رخيصة جدا.. داخل بلادهم وخارجها؟ هذا السؤال يكاد يصيبني بالجنون.