تبدو العولمة إلى حد ما كلعبة تفاعلية ضمن تلك التي يدمنها الشباب، يتساوق داخلها العلم والتقنية والصناعة والرأسمالية وتتضمن مجموعة من القيم الثابتة والموحدة، لكن اللعبة التفاعلية هذه ترتبط ارتباطا وثيقا في المقام الأول بالحضارة الغربية، وتسمح، عبر هذه القيم والمعايير الموحدة عالميا، بتلاقح ثقافات متعددة ضمن نوع من المزيج العالمي المكون من ثقافات متعددة. يكفي هنا التذكير بالدور الذي لعبته موسيقى الروك مثلا في توحيد أذواق شباب العالم، الذي لونها بألوان ثقافته الموسيقية المحلية المتنوعة، كما نجد مثلا في الروك فوزيون الذي تمتزج فيه إيقاعات كناوية وشعبية وأخرى عابرة للثقافات والموسيقات وقادمة من أوربا أو أمريكا. تترك هذه العولمة الاقتصادية المنتشرة، إذن، مجالا لبروز عولمة ثقافية غير متجانسة كليا بحكم التأثيرات الثقافية المختلفة فيها، التأثيرات الهجينة، الأصلية، والمتميزة. هكذا يغتني الثقافي المعولم من خلال الثقافي الخاص. إنها بشكل ما بدائل جنينية للعولمة، كما نلمس ذلك في عولمة الأذواق والمعايير الجمالية للمراهقين عبر العالم، وعولمة العمل النسائي النضالي وأنشطة حقوق الإنسان، والدعوات المتناسلة إلى نوع من المواطنة العالمية، وعولمة الاهتمام بقضايا الهجرة... إلخ. لكن حركة العولمة قادت على مستوى آخر إلى عولمة المافيات والسلوكات الإجرامية الدولية، مثل الحركات الإرهابية والقرصنة البحرية، وتهريب المخدرات وشبكات الدعارة. لقد ولدت عولمة التسعينيات من القرن الماضي معاقة سياسيا، ويتيمة من حيث المؤسسات السياسية، الكفيلة بمراقبتها، ومن حيث التأثير السلبي للسيادات الوطنية التي تشكل عوائق حقيقية مرتبطة بالسلطة الرمزية والفعلية المطلقة لمفهوم الدولة الأمة، التي تلعب في هذا السياق دورا مزدوجا متعارضا لأنها شكلت عاملا تحرريا وعامل قمع في الوقت نفسه أعاق توحيد المصالح المشتركة لدول عديدة على الصعيد القاري، وحال دون بروز وحدة كونية فعالة.
تنطرح العولمة الحديثة باعتبارها مآلية لا مناص منها. إنها صيرورة حتمية، متنوعة، متناقضة ومتعددة الأشكال، لا يمكن اختزالها في مجرد ثنائيات جاهزة، لم تعرف، عكس ما هو شائع، أي عملية رفض شمولي لها. إنها صيرورة العالم مجتمعا موحدا، خصوصا على المستوى الاقتصادي والمالي، وهو الأكثر بروزا من ضمن المستويات كلها. تتبلور في اتساق مع هذا المستوى مستويات دينامية أخرى توازيه أو تتجاوزه، ديناميات اجتماعية وثقافية متعلقة بمشكلة الهجرة والاستهلاك المعمم. إن العولمة ليست مجرد مستوى اقتصادي ومالي، ولكنها تمثل للعالم، لعلاقة الأفراد به ووظائفهم داخله، وطبيعة الهويات والاختلافات الثقافية التي تؤسسه. إنها متخيل مكون من وقائع وأحداث ملموسة ومن تمثلات، وهو ما يشكل في حد ذاته القوة الاجتماعية والسياسية للعولمة. الصراع باسم القيم انفتحت الفترة الراهنة للعولمة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي إلى الآن، لكنها بشكل ما تَؤول إلى القرن السادس عشر، الذي عرف غزو القارة الأمريكية والانتشار المتنامي للقوى الأوربية على صعيد العالم. إنه قرن الاحتلال والاستعباد ونهب الثروات الوطنية. العصر الحديث للعولمة الذي بدأ مع التسعينيات عرف تطورا آخر، لأنها تنتج في ذاتها الترياق ضد العنف والهمجية، إذ باسم القيم الغربية نفسها وأفكارها التحريرية، خيض الصراع ضد الإمبريالية الغربية. تنخرط العولمة الحديثة في سيرورة مزدوجة للهيمنة والتحرر، إذ انهار النظام الشمولي في الاتحاد السوفياتي، وسقط جدار برلين وأفلست اقتصاديات الدول البيروقراطية وانتشرت فكرة الديمقراطية كحل تاريخي ومستقبلي واعد، وتناسل السوق تحت ظل الليبرالية الاقتصادية. ساهم انتشار شبكة المعلوميات أيضا في إضفاء زخم قوي على الرأسمالية واجتاح اقتصاد السوق قطاعات الحياة، والمجتمع الإنساني والبيئة. تتميز الحركة الحديثة للعولمة بازدواجية طابعها، إذ بالرغم من سمتها التقنية والاقتصادية، سمحت ببروز عولمة أخرى ما زالت هشة وغير مكتملة، ذات طابع إنسانوي وديمقراطي نظرا إلى إرث الاستعمال وهيمنة انعدام المساواة والتفاوتات الطبقية على الصعيد العالمي. إن غياب الرفض الكلي والشمولي للعولمة، لا يعني بالضرورة عدم وجود نوع من القلق الفعلي العالمي إزاءها، لأن هناك مجتمعات ودولا عديدة لا تجد لها مكانا داخل خريطة العولمة، بل تلفي نفسها مقصية من دورة الإنتاج العالمية ومرتبة أسفل نظام اقتسام العمل دوليا، وهو ما يقود بالضرورة إلى بروز أشكال عديدة من انعدام الثقة والمقاومة، مما يعوق سيرورة تملك العولمة من طرف فئات اجتماعية ودول عديدة مقصية من الاستفادة من خيرات النمو واقتصاد السوق. هناك أولا التماهي بين ذاكرة الهيمنة والاستعمار في العديد من دول الجنوب، وثانيا ضعف الدينامية الاجتماعية داخل الدول، التي عثرت مؤخرا على موطئ قدم لها داخل العولمة، وتفاقم التفاوتات واللامساواة الاجتماعية، وأخيرا المقاومة الاجتماعية والثقافية لانفتاح الأسواق. هناك عولمة إذن بسرعتين مختلفتين. إن العولمة علاقة اجتماعية غير محايدة مع الزمن، لأن الثورة الزمنية منحت الحاضر قيمة أكبر على حساب الماضي، ومنحت السرعة الأولية بالمقارنة مع البطء، وهو ما خلق نوعا من التمييز بين الثقافي والاقتصادي، بين مناطق اجتماعية وسياسية سريعة وأخرى بطيئة، أي بين مجتمعات منخرطة جذريا في سرعة الزمن العولمي وتاريخها وأخرى مقذوفة خارج هذا التاريخ أو تعمل بدأب من أجل الانتحار على هوامشه وضواحيه البعيدة والغامضة. إن السمة الأساس هو أن السرعة صارت رأسمالا اجتماعيا وتربويا وثقافيا ترتبط بها أغلب التحديات التقنية، ويكفي هنا الإشارة إلى شبكة الأنترنت، التي تساهم في إيجاد نوع من التزامن الكوني، لكن توزيعها والاستفادة منها يظل مشوبا بالحيف والظلم. يعتقد الكثيرون بأن العولمة تنبجس وتتعاظم رغما عنا باعتبارها سيرورة بلا ذاكرة لأنها شيدت أساسا على نسيان إرادوي للعلاقة التاريخية التي ربطت المجتمعات الإنسانية بها. ليست العولمة حدثا تاريخيا جديدا، كما أشرنا أعلاه، أو أنها متضمنة لمرجعيات لا ترتبط بثقافات معينة. يتم عوض ذلك التركيز على التغيير والانعتاق من الماضي ومن المناهج والسلوكات القديمة. إن العولمة تسهم في إضفاء طابع الحدة والتوتر على علاقتنا بالحداثة. تلح العولمة الحديثة التي انبجست مع عقد التسعينيات في القرن الماضي على أن الأمر يتعلق فقط بضرورة حرق المراحل واللحاق بالركب المتقدم وردم المهاوي، مثل الحديث عن «ردم الهوة الرقمية» بين الشمال والجنوب. إنها إيديولوجية حرق المراحل من أجل اللحاق بالركب ضمن التطبيق الحرفي لخطاطة مراحل النمو المرتبطة بفكرة التقدم. إنها فكرة تاريخية historiciste غايتها استيعاب المراحل وفهمها من أجل تجاوزها. تموقفت الكثير من الحركات المناهضة للعولمة ضد فكرة التقدم اللامتكافئ هذه، وضد الأضرار والعواقب الوخيمة التي قد تنتج عنها، خصوصا أنها ستزيل الامتيازات المكتسبة كالحماية والضمان الاجتماعي وضمان الشغل وفرص العمل، أي كل امتيازات الدولة الحامية l' état- providence التي أضعفت إيديولوجيا التبادل الحر. الأمر في العمق، وخصوصا في دول الشمال، لا يتعلق بأي معاناة تاريخية لأن الغرب، ومنذ الثورة الصناعية، كان يعمل على إعادة امتلاك اجتماعية للتحولات الاقتصادية والتقنية أو العلمية، لذا فإن الحركات المناهضة للعولمة تسهم بشكل آخر في تكريس منطق إعادة امتلاك التحولات الاقتصادية على الصعيد الاجتماعي، أكثر مما تشكل معارضة جذرية للعولمة. هناك دوما بصدد الحركات الاحتجاجية، سواء كانت اجتماعية أو نقابية، الانتقال من رفض التغيير والاحتجاج ضده إلى التفاوض المستمر من أجل الاستفادة من خيراته. يكفي أن نرى مثلا كيف انتقل العمال ضمن الحركة النقابية في القرن الماضي من رفض شروط عملهم ووضعياتهم إلى تقييم هذه الأخيرة، عبر مرحلة الاحتجاج العمالي، الأمر ذاته يوجد الآن، لكن على صعيد عالمي. يلزم القول هنا بأن الحركات المضادة للعولمة نفسها متشعبة النزوعات ومتناقضة، إذ نجد داخلها تيارات تدافع عن السيادة الوطنية، تشكل الأغلبية تقريبا، وتيارات أخرى تمنح الثقافات والهويات المحلية الأولوية القصوى بالمقارنة مع العولمة الاقتصادية الموحدة للهويات كلها في بوتقة واحدة. لكن الدفاع عن الانتماءات الأكثر إغراقا في المحلية والجهوية صار هو نفسه مرتبطا بالدفاع الجماعي والتحرك الشمولي، كما كان الأمر في قضية الدفاع عن هنود الأزتيك في إقليم شياباس chiapas جنوبالمكسيك، أو هنود غابة الأمازون، أو أقليات إثنية أخرى عبر العالم. المرحلة القصوى للكونية إن العولمة التقنية والاقتصادية الراهنة هي المرحلة القصوى للكوننة. لقد صارت الأرض كلها بمثابة منطقة تخترقها الكثير من شبكات التواصل الافتراضية والمادية. صار الاقتصاد دوليا، لكن ما ينقصه هو إكراهات المجتمع المنظم كالقوانين والحقوق والمراقبة، علما أن المؤسسات الدولية الراهنة كصندوق النقد الدولية وغيرها من المؤسسات الاقتصادية ذات الطابع السياسي غير المعلن عاجزة عن إخضاع الاقتصاد المعولم لأدنى درجات النظام والمراقبة. تبدو العولمة إلى حد ما كلعبة تفاعلية ضمن تلك التي يدمنها الشباب، يتساوق داخلها العلم والتقنية والصناعة والرأسمالية وتتضمن مجموعة من القيم الثابتة والموحدة، لكن اللعبة التفاعلية هذه ترتبط ارتباطا وثيقا في المقام الأول بالحضارة الغربية، وتسمح، عبر هذه القيم والمعايير الموحدة عالميا، بتلاقح ثقافات متعددة ضمن نوع من المزيج العالمي المكون من ثقافات متعددة. يكفي هنا التذكير بالدور الذي لعبته موسيقى الروك rock مثلا في توحيد أذواق شباب العالم، الذي لونها بألوان ثقافته الموسيقية المحلية المتنوعة، كما نجد مثلا في الروك فوزيون الذي تمتزج فيه إيقاعات كناوية وشعبية وأخرى عابرة للثقافات والموسيقات وقادمة من أوربا أو أمريكا. تترك هذه العولمة الاقتصادية المنتشرة، إذن، مجالا لبروز عولمة ثقافية غير متجانسة كليا بحكم التأثيرات الثقافية المختلفة فيها، التأثيرات الهجينة، الأصلية، والمتميزة. هكذا يغتني الثقافي المعولم من خلال الثقافي الخاص. إنها بشكل ما بدائل جنينية للعولمة، كما نلمس ذلك في عولمة الأذواق والمعايير الجمالية للمراهقين عبر العالم، وعولمة العمل النسائي النضالي وأنشطة حقوق الإنسان، والدعوات المتناسلة إلى نوع من المواطنة العالمية، وعولمة الاهتمام بقضايا الهجرة... إلخ. لكن حركة العولمة قادت على مستوى آخر إلى عولمة المافيات والسلوكات الإجرامية الدولية، مثل الحركات الإرهابية والقرصنة البحرية، وتهريب المخدرات وشبكات الدعارة. لقد ولدت عولمة التسعينيات من القرن الماضي معاقة سياسيا، ويتيمة من حيث المؤسسات السياسية، الكفيلة بمراقبتها، ومن حيث التأثير السلبي للسيادات الوطنية التي تشكل عوائق حقيقية مرتبطة بالسلطة الرمزية والفعلية المطلقة لمفهوم الدولة الأمة، التي تلعب في هذا السياق دورا مزدوجا متعارضا لأنها شكلت عاملا تحرريا وعامل قمع في الوقت نفسه أعاق توحيد المصالح المشتركة لدول عديدة على الصعيد القاري، وحال دون بروز وحدة كونية فعالة. عودة «الاستعمار» أن توجيه النصائح إلى دول الجنوب لحثها على الاستفادة من مزايا العولمة نظرا لعدم وجود بدائل لها، يرتبط ارتباطا قويا بذاكرة العولمة التارخية، التي يتماهى فيها جنوبا الانفتاح بالهيمنة، والعولمة بعودة الاستعمار. إن المؤسسات الكبرى متعددة الأقطاب مثل صندق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومنتدى دافوس مثلا تطرح قضية العولمة بصيغة لا زمنية ولا تاريخية، مما يثير شكوك دول الجنوب ويقويها. تتطلب العولمة اشتغالا بيداغوجيا مقارنا على مزاياها، وتأويل هذه الأخيرة سياسيا تظل سماته باستمرار في دول الجنوب سلبية. تطرح العولمة من وجهة نظر الجنوب باعتبارها تحديا يهدد المكاسب الاقتصادية والاجتماعية. وأيا كانت مزاياها المفترضة بالنسبة له (الجنوب)، فإنها تظل محدودة بالنظر إلى سلبياتها الفعلية وتأثيراتها في السيادة الوطنية لدوله. نعود هنا بالذات إلى مسألة العلاقة بين العولمة والسرعة لأن السياقات التاريخية متباينة والتجارب مختلفة. إن الزمن الدولي غير متجانس، إذ كيف نطالب دولا حديثة الولادة لم تمارس السيادة الوطنية إلا لأربعة أو خمسة عقود أن تتخلى عنها بدعوى عدم صلاحيتها راهنا، في الوقت الذي قطع فيه الغرب أشواطا طويلة امتدت لعقود قبل أن يستبطن فكرة السيادة الوطنية ويطرحها كجزء من ثوابته الوطنية. إن السيادة الوطنية لدول الجنوب مازالت حديثة وهشة. إن المصالح تختلف باختلاف السرعات بين الشمال والجنوب. إن المشكلة التي تطرح هنا هي كيف يمكن الربط بين الأزمنة المحلية والجهوية والزمن الكوني، وما الوسائل الكفيلة بتحقيق ذاك؟ إن العمل على إنجاز التطور والتنمية من جهة، والأشغال على التاريخ من جهة أخرى، يجب أن يكونا متوازيين وأن ينفتحا ضرورة على الاشتغال على الذاكرة. إن الكثير من دول الجنوب لم تنه بعد «اشتغال حدادها» le travail du deuil على الاستعمار وفترات الحماية، التي كانت طويلة نسبيا بالنسبة لبعضها. كل ولوج للعولمة بالنسبة للجنوب لا بد أن يصاحب بالاشتغال على الذاكرة بشكل فعال، متأن ومنتج. لقد أتت أحداث 11 ستنبر والهجوم على البرجين التوأم لتعقد المشكلة، ولتفرز على المستوى الدولي، مع انهار البرجين، الإحساس العام بالخطر الكوني القادم من الجنوب على شكل شبكة سرية سياسية ودينية منتشرة وفق نمط انتشار شبكة الأنترنت في مناطق عديدة، وذات قدرة تدميرية قوية، وعوض أن تضرب «القاعدة» قلب العولمة أسهمت بشكل وافر في تشكيل بوليس دولي وتزايد الشكوك. هناك ضعف في الدينامية الاجتماعية للعديد من أمم وشعوب بالجنوب إزاء العولمة. ينبغي ألا ننسى بأن إيديولوجيا العولمة امتاحت الجزء الأكبر من مصداقيتها من الصرامة في التعامل مع الشق المالي والاقتصادي الأساس منها، كسياسات التقشف المالي التي أدت إلى اقتطاعات هائلة من التمويلات العمومية (سياسة مارغريت تاتشر النيوليبرالية) وإعادة التقويم الهيكلي، وإعادة تأهيل الاقتصادات الوطنية لولوج مجال المنافسة الدولية. تساوق ظهور العولمة أيضا مع موجات الدمقرطة التي طالت أنظمة سياسية عديدة، وهو ما أدى بالقادة السياسيين المنخرطين في لعبة العولمة إلى ضرورة تعويض شعوبهم بالكثير من الامتيازات مقابل سياسة التقشف المالية. إن الطلب المتزايد على الديمقراطية ضيق هامش الفعل لدى النخب السياسية واضطرها إلى المزيد من التعويضات لتفادي خطر السقوط، خصوصا في المجتمعات التي تكون فيها سيرورة الدمقرطة مجرد واجهة سياسية براقة، تخفي سياسة الحيف الاجتماعي والاقتصادي، واقتصاد الريع، وعدم اقتسام الثروة الوطنية واستحواذ أوليغارشيا سياسية واقتصادية وحدها على خيرات النمو. إن سمات العولمة في القرن الواحد والعشرين تبين بأنها ستكون عولمة اجتماعية لا يمكن اختزالها في مجرد اختيار بسيط بين الدولة والسوق. ليست هناك داخل الكثير من دول الجنوب نتائج خارجة عن المألوف تفسر وتبرر في آن المنافع المفترضة للعولمة، بالنسبة لفئات وطبقات اجتماعية عديدة مقصية من دورة الإنتاج الرأسمالية، وهو ما يضعف العولمة ويجد من قوتها الإقناعية المغرية. لقد أصبحت العولمة وحدها المهيمنة في الساحة الاقتصادية والسياسية الدولية ولم يعد هناك بديل مطروح له، مما أفقدها الكثير من سمات شرعيتها. إن منطق الخيار الوحيد وغياب البديل السياسي والإيديولوجية يحدان حتما من غواية نموج العولمة وشرعنتها. إن استمرار الاحتجاجات المضادة للعولمة لا يشير بالضرورة إلى وجود بديل سياسي، فبعض هذه الحركات تناضل من أجل تسهيل ولوج دول الجنوب ومنتجاتها لأسواق دول الشمال من جهة، لكن التناقص يتجلى من جهة أخرى في إحجام منظمات وحركات أخرى عن المطالبة بفتح الأسواق لأن من شأن ذلك الاعتراف بمزايا التبادل الحر وهو تتجنب الخوض فيه مبدئيا.
إهمال الإنسان هل بالإمكان الاستمرار في مديح التنمية وإبراز فضائلها وإهمال السمات الإنسانية المرتبطة بها إهمالا تاما، أيا كانت الصفات التي تلصق بهذه التنمية مستدامة أو خلاف ذلك؟. إن فكرة التنمية المرتبطة بعقلانية كونية تشكل مجرد أسطورة نموذجية دالة على المركزية الاجتماعية الأوربية، فكرة تنهض على أساس تحويل الدينامية الإنسانية إلى مجرد ظواهر قابلة للقياس والحساب، أي إخضاع الحياة، المعاناة، الفرح، الحب، البؤس، وغيرها لمنطق النمو الذي يقاس بالناتج الداخلي الخام وبالإنتاجية والمردودية المالية. إن فكرة التنمية لا تعني التنمية كواقع ملموس، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، القول بأن التنمية التقنية والاقتصادية ستقود ضرورة إلى تحقيق»التنمية البشرية» كتحصيل حاصل. يقول سيرج لاتوش serge latouche في جريدة «لوموند ديبلوماتيك» ماي 1002 إن القيم الغربية للتنمية هي تحديدا التي يجب وضعها موضع تساؤل للعثور على حلول لمشكلات العالم المعاصر. هل بإمكان التنمية التقنية والاقتصادية وحدها أن تحقق لملايين المقصيين المهمشين، التابعين، المقموعين والبؤساء في دول الجنوب عناصر ضرورية لتكون الحياة كريمة كحقوق الإنسان والمسؤولية الفردية، والثقافية الإنسانية والديمقراطية؟ إن التنمية ضرورة تاريخية، ولكن إذا، وفقط إذا، صوحبت بهذه الجوانب الإنسانية الإيجابية.