عندما تكبر مدينة ما، فإن الانتحار يصبح إحدى سماتها الأساسية. ففي كل مدن العالم الكبرى يصبح الانتحار معلمة من معالمها الأساسية، تماما مثل الساحات الكبرى والقصور الشهيرة والميادين التاريخية والأسوار العتيقة. طنجة، التي تكبر مثل وحش، لن تكون استثناء في هذا المجال. ويبدو أن حالات الانتحار في طنجة ترتفع كلما ارتفعت فيها العمارات الشاهقة وحجب الأسمنت السماء عن عيون الناس ودمرت الغابات والمناطق الخضراء. صحيح أن كل منتحر يفعل ما يفعله لأسبابه الخاصة، لكن في عمق كل منتحر توجد أسباب خفية وغير ظاهرة، إنه الشعور العميق بالخوف من الحاضر... والخوف أكثر من المستقبل. إنه الشعور بالعزلة القاتلة وسط حشود كبيرة من الناس. إنها أخطر أنواع العزلة. وخلال السنوات القليلة الماضية، عرفت طنجة عشرات حوادث الانتحار، وفي يوم واحد انتحر في المدينة أربعة أشخاص، وهو رقم غير مسبوق في تاريخها، أما وسائل الانتحار فتراوحت ما بين تعليق الجسد في الحبل أو أكل سم الفئران أو الارتماء من علو شاهق... تعددت الوسائل والانتحار واحد. أغرب حالات الانتحار في طنجة كانت لرجل مسن، ربما يكون تجاوز الثمانين من العمر، وهو رجل انتحر عن طريق الخطأ، لكن مع سبق الإصرار. هذا الرجل تشاجر مع قريب له وضربه بشيء على رأسه، فتم حمل الرجل المضروب إلى مصلحة الإنعاش بالمستشفى، ثم سرت إشاعة تقول إنه مات جراء ضربة الرجل المسن، فقرر هذا الأخير أن يعاقب نفسه بنفسه وانتحر حزنا على قريبه الميت، بينما قريبه «الميت» لا يزال حيا. إلى أين أنت ذاهب؟ هناك حالة انتحار أخرى مفجعة في طنجة وهي لرجل غير عادي، أي أنه أستاذ جامعي ومثقف وشاب وله أبناء وحياته عادية وبدون مشاكل ظاهرة. هذا الرجل تعرض من قبل لحادثة سير جعلته يعاني من عاهة مستديمة في رجله، غير أن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في حياته الطبيعية، ظاهريا على الأقل، لأنه في أحد الأيام، ترك أسرته مجتمعة حول وجبة الغداء، وصعد إلى السطح، فالتقى طفله الذي سأله إلى أين هو ذاهب، فطمأنه وقال له إنه سيعود فورا، لكنه صعد إلى السطح ولم يعد، لأنه علق نفسه في حبل ورمى بجسده إلى الشارع، كأنه يريد أن يرى الجميع مأساته، ورأى الناس جسده مرميا إلى جهة الشارع فظنوه يريد تسلق نافذة منزله، لكنهم اكتشفوا بعد ذلك أن الرجل فارق الحياة. وفي نفس الفترة تقريبا، انتحر شاب، في أوائل الثلاثينات من عمره، بعدما ألقى بنفسه من الطابق الثالث من منزل أسرته بمنطقة البرانص. وجاء انتحار الشاب، وهو ابن شرطي متقاعد، بعد فترة نفسية صعبة عانى خلالها من اكتئاب نفسي بسبب البطالة. وقالت مصادر مقربة من الأسرة، إن المنتحر ودع عائلته، ثم صعد إلى سطح المنزل وارتمى إلى الشارع. وفي صباح عيد الفطر الماضي، استفاق نزلاء فندق «دوليز» على وقع ارتطام شيء قوي بالأرض، ثم اكتشفوا أن موظفا بالفندق سقط من علو شاهق على مقربة من المسبح، وسجلت الحادثة كونها حالة انتحار إضافية في المدينة، في الوقت الذي تقول عائلة الشاب الراحل إنه قتل، والقضية لا تزال في سراديب المحاكم. فتاة وطفل.. ودركي وقبل ذلك ببضعة أيام، أي في الأيام الأواخر من رمضان، قرر رجل أن يحتفي ب«العْواشر» على طريقته الخاصة، فذهب عند «البقال» الذي كان «يتقضّى» من عنده «بالكريدي»، وأدى ما عليه من ديون، وبعد أدائه صلاة الفجر شنق نفسه في سطح المنزل. في تلك الأيام، قررت فتاة أن تضع حدا لحياتها بطريقة خاصة، وربما هي الطريقة التي تبدو سهلة لدى النساء المحبطات، وهي تناول سم الفئران، أو تناول عقاقير كثيرة تؤدي فورا إلى الوفاة. هذه الفتاة المنتحرة، وهي في بداية الثلاثينات، رحلت وتركت وراءها لغزا كبيرا حول أسباب انتحارها. وقبل انتحار هذه الفتاة، عرفت طنجة حالة انتحار غريبة لطفل علق نفسه في حبل بفناء منزله، وكما بقي انتحار هذه الفتاة لغزا، فكذلك ظل انتحار هذا الطفل. ويبدو أن مدينة ينتحر أطفالها لا بد لها من وقفة صارمة مع نفسها لكي تكتشف واقع حالها ولون مستقبلها. وفي مدينة أصيلة الصغيرة، المجاورة لطنجة، قرر عنصر من الدرك أن يضع حدا لحياته بالطريقة التي غالبا ما يستعملها حاملو السلاح، وهي إطلاق رصاصة على الرأس. هذا الدركي المنتحر لم يكن يعاني، ظاهريا على الأقل، من مشاكل مهنية أو أسرية، لكن الأسباب العميقة للانتحار غالبا ما يحملها معه المنتحر إلى قبره. وقبل ذلك عرفت طنجة موجة من الانتحارات، من بينها إطفائي متقاعد شنق نفسه في شرفة منزله، وفتاة رمت بنفسها من منزل أسرتها في الطابق الرابع، وشخص ثالث عثر عليه مشنوقا قرب مركز استقبال المهاجرين في طريق مالاباطا. من المدينة إلى القرية الانتحارات في طنجة ليست مقتصرة على المدينة، حيث الضغط والضجيج والمشاكل الرهيبة، بل أصبحت تمتد حتى القرى المحيطة بالمدينة، وهي قرى نادرا ما كانت تشهد حالات انتحار، لكن الوضع تغير فيها تماما خلال السنوات الأخيرة. آخر حالة انتحار في بوادي طنجة كانت في منطقة «الرمان»، على بعد حوالي 30 كيلومترا من المدينة. والحكاية لرجل كان يعمل في شركة نظافة متعاقدة مع معمل «رونو نيسان»، واشتغل 12 يوما، ثم فصلوه بدون سبب، وعندما ذهب لأخذ مستحقات العمل والطرد التعسفي ناولوه غلافا به شيء ما، وعندما فتحه وجد بداخله 60 درهما، لذلك ظل لبضعة أيام يحاول هضم الصدمة، وبدا وكأن الرجل أطلقت عليه رصاصة غير مرئية، لذلك قرر التوجه نحو أقرب شجرة في منطقة «الدّهاده»، القريبة من ورش المصنع، وهناك علق جسده على غصن شجرة، وانتهت حياة هذا الرجل الذي ترك خلفه زوجة و5 أبناء. بعد موت الرجل، توصلت أسرته بحوالة بريدية مفادها أن الرجل يجب أن يتسلم مبلغا يزيد عن الألف درهم بقليل، لكنه لم يتمكن من ذلك طبعا، لأن الستين درهما التي تسلمها في البداية أدت دورها كما ينبغي، أي أنها كانت كافية لشراء حبل. لا حياة.. ولا قبر قبل ذلك، وفي منطقة فحص أنجرة أيضا، يتذكر الناس أن رجلا وصله قرار بنزع ملكيته، من دون أن يعرف لماذا، لكنهم قالوا له إن ذلك من أجل المصلحة العامة، فأراد أن يعرف ما هي هذه المصلحة العامة بالضبط، يعني هل هي طريق عمومية أم سكة حديدية أم فيلا مسؤول، أم أن أرضه سينهبها «فرعون صغير» لإعادة السمسرة فيها، وعندما لم يجبه أحد علق نفسه في غصن شجرة بفناء منزله. بعد ذلك اجتمع سكان المدشر لدفن الرجل، لكن قرار السلطة جاء سريعا، وهي أن الرجل ممنوع من الدفن، لأن مقبرة القرية مشمولة أيضا برحمة الله، أي أنها تدخل في إطار الأرض التي سيتم نزع ملكيتها، وهكذا فقد الرجل حياته وقبره. الانتحار في طنجة ليس حكرا على سكان المدينة أو الوافدين إليها من المغاربة، بل توسعت بقعة الزيت لتشمل أيضا بعض القادمين إليها من بلدان أخرى. وقبل بضعة أشهر اهتزت المدينة على وقع حالة انتحار غريبة بطلها شاب إفريقي جاء إلى طنجة ترقبا للقفز نحو الضفة الأوروبية، غير أن عملية القفز تمت بشكل مختلف تماما، أي من إحدى طوابق مستشفى محمد الخامس لينهي حلمه بقبر ضيق في المدينة. هذا الشاب الإفريقي ذهب إلى المستشفى للعلاج، غير أن أشياء ما حدثت، ربما إهمال أو إهانة أو احتقار، أو ربما كل هذه الأشياء مجتمعة، فقرر أن ينهي أوجاعه بطريقة خاصة، وانتهى جثة هامدة في ساحة المستشفى. ضغط نفسي كبير في طنجة أصبح الانتحار ظاهرة لأسباب كثيرة. والسكان أصبحت تخيفهم هذه الأعداد المتزايدة من المنتحرين، وهو ما ينذر بمستقبل كئيب للمدينة من الناحية الاجتماعية والنفسية، على الرغم من طبول التنمية التي يدقها المسؤولون صباح مساء ويصورون فيها طنجة كأنها ستصبح جنة، في الوقت الذي يقول السكان إن مدينتهم الحميمية لن تكون سوى وحش كبير وممسوخ. وتعوّد سكان المدينة على أجواء حميمية وهادئة تسود مدينتهم خلال العقود الماضية، غير أنهم كانوا يشتكون من التهميش العام الذي عانت منه منذ الاستقلال، إلا أن المشكلة أن التنمية حين وصلت إلى المدينة فإنها فاجأت الجميع لأن لا أحد كان يعتقد أن طنجة ستعرف كل هذه الفورة العمرانية والاقتصادية والبشرية في وقت قياسي، مع كل ما تحمله معها من ضغط نفسي رهيب. ويقول سكان المدينة إنهم كانوا يريدون تنمية متوازنة تعيد بعض الاعتبار إلى مدينتهم التي عانت التهميش لوقت طويل، خصوصا في مجال التوفر على مدارس وجامعات وملاعب رياضية ومستشفيات ومسارح ودور الشباب وطرق وإنارة وشبكات الماء والكهرباء. أما المتنزهات فإنها تكاد تنقرض بعد أن اكتسحتها العمارات والإقامات السكنية والفيلات الفاخرة. ودور الشباب شبه منعدمة ولا وجود لأي مركز ثقافي أو مسرح في مدينة يزيد عدد سكانها عن المليونين. الملاعب الرياضية بدورها اندثرت تماما وتحولت كل الملاعب القديمة إلى عمارات. والغريب أنه في الوقت الذي كان سكان طنجة لا يتعدون 250 ألف نسمة، فإنه كانت هناك العشرات من الملاعب والمساحات الفارغة التي يزاول فيها الشباب الرياضة وكرة القدم، وعندما تحولت طنجة إلى قبلة لعشرات الآلاف من العمال ومهاجرين من كل مناطق المغرب فإن ملاعبها ومناطقها الخضراء تقلصت بشكل فظيع وتحولت إلى غابة من الأسمنت. كازينو الإحباطات الانتحارات في المدينة ألقت الضوء أيضا على واقع جديد، وهو أن نسبة مهمة من المنتحرين جاؤوا إلى طنجة خلال السنوات الأخيرة، أو منذ فترة قصيرة فقط، ويبدو أنهم لم يستوعبوا فيها إحباطاتهم فقرروا أن يضعوا حدا لحياتهم. وتعرف طنجة وجود طبقة عمالية متنامية تعيد تكرار الحكايات التي حدثت مثلا في الدارالبيضاء قبل أزيد من نصف قرن، أو حكايات مدن صناعية كبيرة في العالم تغيرت صورتها تماما من مدن صغيرة وحالمة إلى مدن غارقة في الضجيج والمشاكل والكوارث الاجتماعية والإحباطات الشخصية والنفسية. فبقدر ما يتزايد الأغنياء الجدد، الفخورون بثرواتهم وأملاكهم الجديدة، يتزايد أيضا الفقراء الجدد والمفلسون والمنتكسون. ويتفق سكان طنجة، الذين حلموا طويلا بتنمية مدينتهم، على أن حلمهم ذاك كان يقتصر فقط على عدم تهميش المدينة وضرورة تحويلها إلى قطب سياحي أو ثقافي يكرس شهرتها الدولية في هذا المجال، وليس إلى قطب صناعي كبير يغير معالمها وخريطتها التاريخية والسكانية والجغرافية رأسا على عقب. إن أغلب السكان يقولون إن تحولات المدينة السريعة تصيبهم بالإحباط. يضاف إلى كل هذا بروز ظواهر جديدة في المدينة، من بينها كازينو القمار الذي أصبح يحتل المرتبة الأولى في مجال حصد الضحايا وتدمير الأسر. إنه كازينو، بقدر ما يرفع نسبة أرباحه الخيالية كل ليلة، فإنه يرفع بشكل رهيب نسبة الإحباط بين مرتاديه الذين يعتبرون المرشحين الأكثر حظا لوضع حبل حول أعناقهم وتوديع هذا العالم.