الآن، بعد أن نجح المغرب في إقناع مجلس الأمن والاتحاد الأوربي بحقيقة ما حدث في العيون، واستطاع إجبار وكالة الأنباء الإسبانية على الاعتذار بسبب الصور الملفقة التي وزعتها على وسائل الإعلام، ونشرت يومية «إلباييس» مقالا تعترف فيه بأن منظمة «هيومن ووتش رايتس» أكدت الرواية المغربية حول عدد القتلى الذين سقطوا بين رجال الأمن.. الآن، بعد أن هدأت العاصفة ووضعت الحرب الإعلامية أوزارها ولم تستطع الصحف الإسبانية تقديم اسم قتيل واحد من القتلى الخمسة والثلاثين الذين تقول جبهة البوليساريو إنهم يوجدون في مشرحة الأموات في مستشفى العيون.. الآن، بعدما لم نسمع أية عائلة صحراوية تطالب في العيون بجثة قريب لها، واتضح أن كل ما روجته البوليساريو وأعادت نشره الصحافة الإسبانية لم يكن سوى محاولة لذر الرماد في عيون الرأي العام الدولي.. يمكن أن نقول إن المغرب خرج منتصرا من هذه المعركة. لكن السؤال الكبير الذي ينتظر الإجابةَ عنه ليس هو من ربح المعركة وإنما من سيربح الحرب. والحرب في الصحراء كانت دائما حربا إعلامية جعل فيها العدو رؤوس الأموال في خدمة رؤوس الأقلام، ولذلك تفوق دائما في الظهور بمظهر الضحية في المحافل الدولية. لكن ما وقع في العيون من تذبيح وتقتيل وتدمير حطم تلك الصورة الوديعة التي ظل البوليساريو يرسمها حول نفسه طيلة عقود، واتضح للعالم بأسره أن ميليشيات البوليساريو تجيد الذبح بقدر ما تجيد ذرف دموع التماسيح. لكن، بما أنه من السهل أن يتحدث الإنسان عن أسباب تحقيق النصر في معركة، فإنه، ولكي نربح الحرب، علينا أن نتحلى بالجرأة الضرورية لكي نعترف بالأخطاء التي تم ارتكابها في «واقعة» العيون. ولعل أكبر خطأ أمني وقع هو سقوط أحد عشر شهيدا من أفراد الأمن في يوم واحد. لقد شكل هذا الرقم المهول ضربة موجعة لهيبة المؤسسات الأمنية، وأعطى صورة خاطئة عن نجاعتها وقوتها. فما الذي حدث حتى تساقط كل رجال الأمن هؤلاء دفعة واحدة بين أيدي سفاحين مدربين على أعمال القتل والتخريب. إن السؤال المحير الذي يطرحه كثيرون هو لماذا قرر الجنرال حسني بنسليمان، قائد الدرك، والجنرال العنيكري، قائد القوات المساعدة بمنطقة الجنوب، إرسال فرق إلى العيون لازال أفرادها لم يكملوا فترة تدريبهم بعد؟ أين هي تلك الفرق الخاصة المدربة على تفريق التجمعات والتي يُخرجون أفرادها خلال الاحتفالات بتخرج الضباط لكي يقدموا عروضهم الباهرة أمام الجنرالات؟ لماذا لم يأتوا بهم لفك مخيم العيون عوض الاقتصار على تلاميذ لازالوا لم يتخرجوا بعد؟ إن تفكيك مخيم على هذا القدر من التنظيم والدقة، يقطنه الآلاف من الأفراد المدربين والذين يشكل «العائدون» النسبة الغالبة فيهم، كان يفترض الاعتماد على فرق خاصة ومدربة على التدخل السريع والفعال. لكن الذي وقع هو أن الجنرال العنيكري والجنرال بنسليمان ألقيا بتلاميذ في سنتهم الثانية داخل فم الوحش، بدون أن يكونوا مزودين بأسلحة أخرى للدفاع الذاتي غير عصي بلاستيكية لا تنفع أمام الحجارة والسيوف والخناجر والقنينات الغازية التي استعملها خصومهم. والنتيجة هي أن أحد عشر فردا من قوات الأمن استشهدوا، بينما أصيب العشرات منهم إصابات بليغة بالأسلحة البيضاء والقنينات الحارقة والحجارة. لقد كانت الأوامر التي صدرت لهؤلاء الرجال الذين شاركوا في تفكيك مخيم العيون هي تجنب إسقاط قتلى بين المدنيين. لكن إلى أي حد كان هؤلاء السفاحون، الذين ذبحوا قوات الأمن، مدنيين؟ إن استعادة لمشاهد الشريط الذي سجلته مصالح الأمن تعطينا فكرة واضحة عن كون هؤلاء القتلة مدربين بشكل ميداني على حرب العصابات، وأغلبهم تم تدريبه في أدغال كوبا انسجاما مع برنامج البعثات الذي تقوم به البوليساريو مع نظام فيديل كاسترو منذ السبعينيات إلى اليوم. النظام الديكتاتوري والدموي الذي يدافع عن شرعيته الممثل «خابيير بارديم» وكل «النجوم» الإسبان «التقدميين» الذين يساندون البوليساريو ويصفون المغرب بالديكتاتورية والاستبداد. يعني أن المغرب، الذي توجد فيه انتخابات وأحزاب وجرائد ومحطات إذاعية وقنوات تلفزيونية، ديكتاتوري حسب هؤلاء الإسبان، أما كوبا، التي لا يوجد فيها شيء اسمه الانتخابات ويوجد فيها الحزب الوحيد والجريدة الواحدة والمحطة الإذاعية الواحدة والرئيس الواحد الذي أقسم على البقاء في السلطة إلى أن يموت، هي نموذج للدولة الديمقراطية. إذا كانت هذه هي الديمقراطية التي يتمناها «خابيير بارديم» وزملاؤه للمغرب ف«بالناقص منها ديمقراطية». إن أفراد هذه الميليشيات المدربة في أدغال كوبا، والذين عادوا ملثمين واندسوا بين صفوف مئات «العائدين» الذين استقبلهم المغرب بالأحضان، هم الذين بادروا إلى نصب الخيام الأولى في المخيم، وهم الذين بادروا إلى الاصطدام بقوات الأمن بعدما رفضوا فك المخيم وقرروا إضرام نيران المواجهة لكي ينتهي المخيم بمجزرة في صفوف المدنيين. هذه كانت خطتهم التي اتفقوا على تفاصيلها قبل تنفيذ مخطط التسلل مع قوافل «العائدين»، الذين، ويا للعجب، تركتهم قوات البوليساريو يغادرون تندوف نحو المغرب بكل تلك السهولة، مع أنها تعودت على قتل كل من يضع رجليه خارج سياج المخيم رميا بالرصاص. الخطأ الجسيم الذي وقع هو أن من أعطوا الأوامر باقتلاع المخيم حشدوا جميع قواتهم لهذه المهمة في أطراف العيون، وتركوا المدينة وسكانها ومؤسساتها العمومية بدون حماية أمنية. ولكم أن تتخيلوا أي خطأ قاتل هو أن تترك السلطات الأمنية قناة تلفزيونية كقناة العيون، لديها إمكانيات البث المباشر، بدون حراس مدججين بالسلاح. فقد كان من الممكن عوض إحراق القناة، كما حدث، أن يسطو الانفصاليون على أجهزة البث المباشر ويخاطبوا المشاهدين عبر القناة ويروجوا إشاعة إحكام سيطرتهم على العيون، داعين خلاياهم النائمة في كل الأقاليم الصحراوية إلى إعلان العصيان. ألم يحدث الشيء نفسه في السبعينيات عندما استطاع الانقلابيون العسكريون احتلال مقر الإذاعة والتلفزيون بالرباط وأجبروا الملحن عبد السلام عامر على قراءة بيانهم العسكري الذي أعلنوا فيه سقوط الملكية، بعدما رفض عبد الحليم حافظ القيام بذلك. لذلك، ففي كل بلدان العالم، هناك حراسة مشددة على وسائل البث المباشر، لأنه في حالة سقوطها بين أيدي الانقلابيين أو الفوضويين تتحول إلى وسيلة لإثارة الفتنة وإشعال فتيل الحرب الأهلية. إن المحاكم ومقرات الإدارات الحكومية ومقرات الإذاعات والقنوات التلفزيونية كلها أماكن يجب أن تكون محروسة بشكل صارم في جميع مناطق المملكة، وخصوصا في الأقاليم الصحراوية حيث يوجد دعاة الفتنة الذين يسعون إلى بث الفرقة والكراهية بين مغاربة الصحراء ومغاربة الداخل، عبر مهاجمة مقار المؤسسات الحكومية والسيادية. أما الخطأ الشكلي، والكبير، الذي ارتكبته الحكومة فهو إعلان الناطق الرسمي باسمها أن الشيء الوحيد الذي يستطيع تأكيده هو أنه لا يوجد مواطنون بين قتلى العيون، وأن القتلى الذين سقطوا ينتمون إلى قوات الأمن. وكأن الناطق الرسمي باسم الحكومة يحمد الله على سقوط القتلى في صفوف قوات الأمن، وليس في صفوف المواطنين، وكأن أفراد قوات الأمن ليسوا مواطنين، وأن سقوط أرواح من جانبهم أهون من سقوط أرواح من جانب المواطنين. إن عملية إعادة الاعتبار إلى أفراد القوات المساعدة وأفراد الوقاية المدنية والدرك أصبحت ضرورية بعد الذي تعرض له أفراد هذه الأجهزة في العيون. لقد رأى المجتمع الدولي الروح العالية التي أبداها أفراد هذه الأجهزة وهم يطبقون الأوامر التي توصلوا بها من رؤسائهم بالحرف، مفضلين إيقاف محركات سياراتهم وشاحناتهم والوقوع أسرى بين أيدي هؤلاء السفاحين عوض الضغط على دواسة السرعة وطحن كل من يقف في طريقهم. والآن، يجب أن يرى المنتظم الدولي كيف تعترف الدولة بالجميل لهؤلاء الشبان الشجعان، وذلك عبر الانكباب جديا على دراسة وضعيتهم الاجتماعية، وتمكينهم من وسائل العمل اللائقة ببلد لديه نزاع إقليمي على حدوده. إن الترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن وحدة الوطن، والمطالبة بتحسين وضعية زملائهم الذين يحرسون أمن المغاربة، لا يجب أن ينسيانا محاسبة كل الذين خططوا لفك مخيم العيون بكل هذا التهور الأقرب إلى الهواية منه إلى الاحترافية. وهؤلاء الذين يتحملون مسؤولية سقوط كل هذا العدد الضخم من الشهداء والجرحى لا يوجدون فقط في الدرك والقوات المساعدة والوقاية المدنية، بل يوجدون في قلب وزارة الداخلية الذي يضخ الدماء في سائر شرايين أجهزة الدولة. غدا نتحدث عن أسباب تكلس شرايين الداخلية وسبب تعثر الدورة الدموية داخل هذا الجهاز الحساس.