عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. صديقي رئيس جمعية تنشيط حفلات الأطفال، والتي أطلق عليها اسم «هوب هوب.. هيا يا أطفال»، يريد أن ينظم سلسلة من العروض السينمائية لأطفال المدينة، ومن أجل ذلك يريد مساعدا له. قال لي إن المركز السينمائي أعطاه مجموعة من الأفلام الخاصة بالأطفال، بينها أفلام طوم وجيري وأفلام المغامرات من سلسلة والت ديزني. كان سعيدا لأنه باع التذاكر كلها وسيأتي أكثر من 500 طفل إلى السينما يوم غد. يعني أن مدخوله في ذلك اليوم فقط لن يقل عن نصف مليون سنتيم. هذا هو العمل الجمعوي وإلا فلا. قال لي صديقي، أقصد صديقي القديم، إنه سيعطيني 200 درهم لكي أنظم معه دخول الأطفال وجلوسهم على المقاعد. وافقت للتو لأن ذلك لن يتطلب أكثر من ساعة عمل. في صباح اليوم الموالي كنت قبل العاشرة بنصف ساعة أقف أمام باب السينما. كان هنالك الكثير من الأطفال المصحوبين بآبائهم ينتظرون الدخول. حتى الآباء والأمهات أدوا ثمن التذكرة. حتى واحد ما يفلت. كان الأطفال متحمسين ويتحدثون عن نوع الفيلم بسعادة. جاء صديقي القديم رئيس الجمعية وبدأنا عملية إدخال الأطفال. كلهم كانوا يحملون الدعوات في أيديهم. كان هناك الكثير من الأمهات الوقورات المستعدات لشراء تذكرة بأي ثمن من أجل سعادة أطفالهن. توجه صديقي نحو التقني الخاص بعرض الأفلام، المعروف بأنه «يتبوقل» باستمرار وينام منذ الدقيقة الأولى للفيلم ولا أحد يستطيع إيقاظه. نصحه ألا ينام لكي يكون مستعدا لإصلاح الأعطاب التقنية التي عادة ما تحدث في مثل هذه المناسبات. جلس الجميع على الكراسي وكانت مهمتي سهلة. الأطفال مطيعون ووديعون وسعداء. «يا له من عمل ممتع.. ليته يستمر طوال العام»، هذا ما قلته لنفسي وأنا أعمل بجد وأنظم عملية الدخول والجلوس. انتظرنا بضع دقائق واقتربت اللحظة الحاسمة، تلك اللحظة السحرية التي تنطفئ فيها الأضواء وتدق قلوب الأطفال ويبدأ الفيلم. يا لها من لحظات طفولية جميلة لم أستطع عيشها لأنني كبرت في قرية نائية بلا سينما ولا ضوء ولا ماء ولا طرق. انطفأت الأضواء وعلا تصفيق الأطفال وهتافهم. إنهم سعداء فعلا. جمعت ربطة عنقي وجلست بدوري في مكان قصي حتى أتابع الفيلم وأتحرك في وقت الضرورة. كانت الشاشة عبارة عن ظلام دامس وتسمع صوت آهات غريبة. كان ممثل يشتم ممثلة بكلمات نابية ثم يضحكان. الناس أصيبوا بالذهول واعتقدوا أن الأصوات تأتي من الشارع المجاور للسينما من طرف سكيرين معربدين. بعد ذلك ظهرت على الشاشة أضواء حمراء ورجل وامرأة على فراش في مشاهد جنسية شنيعة وآهات وصراخ. كانت المفاجأة فظيعة ورأيت أمهات يضعن أيديهن على عيون أطفالهن حتى لا يروا شيئا، بينما وقف الآباء يشتمون المنظمين. كاد أحد الآباء يصفعني وأمسك بي رجل آخر من ربطة عنقي لكي يخنقني. وعندما حاولت الهرب بقيت ربطة العنق في يده. يا له من موقف مخز. صديقي رئيس الجمعية وقف قبالة الشاشة يحاول التشويش على اللقطات وهو يصرخ من أجل أن يستيقظ التقني ويغير الفيلم. لكن التقني ينام مثل فيل ولا يصحو حتى لو حدث زلزال. هجم الناس على صديقي وأشبعوه ركلا, أما أنا فهربت من السينما وأنا ألعن اليوم الذي قررت فيه قبول هذا العمل. في اليوم التالي عرفت أن آباء الأطفال تقدموا بشكاية ضد رئيس الجمعية، وأن السلطات سحبت منه الترخيص، بينما تقدم رئيس الجمعية بشكاية ضد المركز السينمائي، واتهم القيمين عليه بأنهم أعطوه عمدا فيلما جنسيا حتى يتخلصوا من صداعه لأنه يزعجهم باستمرار بطلب أفلام كثيرة بدون مقابل، بينما يربح منها الكثير. يا له من يوم منحوس لم أقبض فيه المائتي درهم الموعودة، وفقدت فيه ربطة عنقي العزيزة التي تعايشت معي لمدة 10 سنوات.