في أحد مؤتمرات الاتحاد الدستوري، اعتلى عبد الرحمن أمالو المنصة، وشرع في الحديث عن مفهوم الجهوية وعلاقته بتدبير الشؤون المحلية والوطنية. وبين فقرة وأخرى، كان يستشهد بتجارب دولية، وبدا أن عرضه لا يختلف عن أي درس أكاديمي في إحدى الجامعات، فيما كان المتتبعون معنيين بالبعد السياسي لذلك الاختيار. عندما خرج الاتحاد الدستوري إلى الوجود ليكون حسب برنامجه السياسي «صوتا لجيل ما بعد الاستقلال»، ركز على مسألتين، هما المبادرة الحرة والجهوية. وبينما كان زعيمه الراحل المعطي بوعبيد يردد أن الدولة لا يمكن أن تكون فلاحا أو تاجرا أو صانعا، بل يجب أن تفوت اختصاصاتها في مجالات عدة، ليست بينها القطاعات الاستراتيجية، إلى القطاع الخاص، كان عبد الرحمن أمالو منظر الحزب، الذي وصفته المعارضة بطبخة «كوكوت مينوت»، يغوص في أعماق التجارب الجهوية التي عرفها العالم، غير أنه بين كل استحقاق انتخابي وآخر كان يزداد حيرة وانعزالا. لم يفهم الأستاذ الجامعي، مثل غيره من بعض قياديي الحزب، كيف أنه في كل مرة يخوض فيها غمار منافسات انتخابية يكون نصيبه الفشل، إما نتيجة سوء تقدير في اختيار دائرته الانتخابية في الدارالبيضاء الكبرى، مع أنه قادم من مراكش، أو بسبب عجز يطال إدارة حملاته الانتخابية. فلعله الوحيد من بين مرشحين كثر لم يرجع فشله إلى حدوث تزوير، علما أن أحزاب المعارضة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي كانت تتهم الإدارة بأنها مارست تزييف الاستشارة الشعبية لفائدة الحزب الوليد، الاتحاد الدستوري. كان الدكتور عبد الرحمن أمالو يتغلب على فشله برواية نكتة أو الحديث عن آخر كتاب كان بصدد قراءته. وعندما كان يشتد به الغضب، كان يسارع إلى التهديد بالانعزال عن السياسة، لكن رفاقه كانوا يثنونه عن ذلك، بدعوى أن أبواب الأمل تبقى مفتوحة. ولم يكن مثل غيره من أعضاء المكتب السياسي يقبلون أن يجمع الحزب أعدادا كبيرة من النواب، وحين يبحث بينهم عن كفاءات لتولي مهام اللجان البرلمانية يصاب بالإحباط، إلا في ما ندر من الحالات. فيلسوف الاتحاد الدستوري، الدكتور عبد الرحمن أمالو، لم يكن رجل ميدان، بل كان رجل فكر وتنظير. ولم يكن مناورا في ضوء الكثير من الصراعات حول المواقع الأمامية، وإنما كان يختار صفه على طريقته منظرا لرهان الجهوية ومقارنا بين تجارب الدول التي نهجت ذلك الخيار، فكان يدبج مقالاته في الموضوع ويحاضر بصفته الجامعية والسياسية في الخيار ذاته، وحين يتعب بعض الشيء، يسارع إلى اقتفاء خطوات الرئيس المعطي بوعبيد، عله يستقي منه شيئا حول التوجهات المستقبلية، فيما كان بوعبيد يتهرب من الإجابة عن كثير من الأسئلة باستحضار ذكريات قديمة، قبل أن ينشد مقاطع من إبداعات مطربه المفضل فريد الأطرش. لم يكن يدور في ذهن الدكتور أمالو أنه سيخلف المعطي بوعبيد في المنصب الذي شغله وزيرا للعدل قبل أن يجمع بين الوزارة الأولى والقضاء في نهاية سبعينيات القرن الماضي. كان يطمح، بحكم تكوينه القانوني، إلى أن يصبح عضوا في المجلس الدستوري أو وزيرا في قطاع آخر أو سفيرا في عاصمة أوربية. وبالرغم من ثقته الكبيرة في نفسه، فإن أمالو في قرارة عمقه كان متواضعا، وكان يرغب في الجمع بين الأستاذ الجامعي والوزير أو السفير. مرات كثيرة اقترح المعطي بوعبيد اسمه لتولي مناصب وزارية، لكن الحظ كان يخونه، فثمة رجال آخرون كانوا يلقون الدعم من خارج الحزب، على الرغم من أن بعضهم كانت علاقاته محدودة جدا مع الاتحاد الدستوري، ولم يحل ذلك دون استمرار التزامات داخل الحزب، فقد كان يغضب بعض الوقت، ثم يعود إلى مواصلة عمله حين تكون هناك مواعيد واستحقاقات هامة. لم يكن أمالو واحدا من بين أصوات ارتفعت بعد انتخابات 1984 تدعو إلى أن يشكل الاتحاد الدستوري الحكومة، نتيجة نيله الرتبة الأولى بأزيد من 80 برلمانيا. فقد كان يعتبر الصلاحيات الدستورية مفصل كل اختيار أو تعيين. وبالرغم من أن المعطي بوعبيد دفع ثمن ذلك الصراخ، حين أبعد عن رئاسة البرلمان بعد ترشح أحمد عصمان باسم تجمع الأحرار، فإنه لم يكن يجاري بعض أعضاء حزبه في «تمنياتهم». وكان يجد في الدكتور أمالو خير من يفهم تلك الأوضاع، بل إنه اهتم إلى جانب آخرين بالدفع في اتجاه إقامة تكتل مواز للكتلة الديمقراطية التي جمعت أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي، قبل حدوث انشقاقات داخلية. جاء تأسيس كتلة الوفاق الوطني بين الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والحزب الوطني الديمقراطي في فترة هيمن فيها الكلام عن نظام قطبية حزبية ثنائية، تكون مقدمة لتكريس التداول على السلطة، من خلال استمالة تيار أحزاب الوسط لدعم هذا الفريق أو ذاك. غير أنه بعد انتكاس مشاورات حكومة التناوب، لم يجد الوزير الأول، الدكتور عبد اللطيف الفيلالي، بدا من إشراك أحزاب الوفاق في حكومة ما بعد فشل الجولة الأولى من مفاوضات التناوب. لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني يرغب في أي فترة أن توصف بلاده بأنها تجتاز أزمة حكومية، إذ كان يعتبر أن المعارضة موجهة في أساسها إلى الجهاز التنفيذي، وليس النظام، وبالتالي فإن الصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها ملك البلاد، باعتباره أميرا للمؤمنين، تحول دون وقوع أزمة حكومية، لذلك فقد تعزز اتجاه تشكيل حكومة تضم أحزاب الوفاق ووزراء تقنوقراطيين. اختير الدكتور عبد الرحمن أمالو وزيرا للعدل في حكومة عبد اللطيف الفيلالي في مطلع 1995، واحتفظ هذا الأخير بوزارة الخارجية كذلك، واستمر مولاي أحمد العلوي في منصبه وزير دولة، بالرغم من وضعه الصحي، وأسندت المالية والاستثمارات الخارجية إلى محمد القباج، الذي كان قد أصبح عضوا في الاتحاد الدستوري، بينما تولى عبد العزيز مزيان بلفقيه وزارة الأشغال العمومية، وإدريس جطو وزارة التجارة والصناعة، وعين المحامي محمد زيان وزيرا مكلفا بحقوق الإنسان. أبرز حدث خلال هذه الفترة، سيتمثل في بدء الحكومة تنفيذ خطة لمحاربة التهريب. كانت تقارير دولية قد عرضت لمخاطر التهريب على الاقتصاد الوطني، وشن وزير الداخلية إدريس البصري حملة في هذا النطاق، سيلعب فيها الوزير عبد الرحمن أمالو دورا كبيرا، فقد نقل عنه القول إن اقتصاديات البلاد تضررت كثيرا نتيجة التهريب، إضافة إلى مخاطره الصحية، فيما بدا أن الانتقال من حملة التهريب إلى مواجهة أباطرة المخدرات يضفي على المنظور الحكومي بعدا كبيرا. من ناحية، سيتم الرد على التقارير الدولية التي صنفت المغرب في مراتب متقدمة في تهريب المخدرات والمتاجرة بها، ومن ناحية ثانية، ستمكن المداخيل المتأتية من الغرامات المفروضة على أباطرة المخدرات من إغناء موارد الخزينة. وانضاف إلى هذه الاعتبارات بعد آخر يتمثل في الاتجاه نحو التشطيب على الأسماء التي تحوم حولها الشبهات من قوائم المترشحين للانتخابات. فقد بدأت مخاوف من تحويل البلاد، في ظل سطوة المال الحرام، إلى مجال خصب لتركات نفوذ الخارجين عن القانون. كانت الفكرة في حد ذاتها مقبولة ولا تخلو من وجاهة، لولا أن ردود فعل صدرت من جهات عدة حول انتقاد الانتقائية التي طبعت حملات التطهير، فقد انبرى وزراء من داخل الحكومة لتسجيل مؤاخذات في هذا الاتجاه، لكن البصري إلى جانب أمالو اعتبر الموقف ينم عن ميل ل«حماية بعض أصحاب النفوذ». سيغتنم محمد زيان الفرصة لتوجيه انتقادات لاذعة إلى الحكومة، مما حذا إلى دفعه لتقديم استقالته. ومن المفارقات أن الدكتور أمالو، الذي ينتمي وزيان إلى نفس الحزب، هو من خلفه في منصبه في وزارة حقوق الإنسان التي أصبحت تابعة لنفوذ وزير العدل، وكانت تلك بداية القطيعة بين محامي الحكومة والاتحاد الدستوري. كان الوزير أمالو أكثر قناعة بأن ما يفعله هو عين الصواب. وقد أسر في إحدى المرات بأنه لا يتلقى الأوامر من أي كان، وأنه حين اختاره الملك الحسن الثاني ووضع فيه الثقة، كان ذلك بمثابة ضوء أخضر، ولم يكن في غضون ذلك يقيم وزنا لكثير من المؤاخذات، التي سجلت ضده، خصوصا من طرف رجال الأعمال وبعض نواب البرلمان، إلى درجة أن أحدهم توبع قضائيا، بالرغم من أنه كان ينتمي إلى حزب وزير العدل. على الطرف الآخر، كان إدريس البصري يلوح بعصاه في كل الاتجاهات. كان مهتما بأن يقدم رسائل واضحة وأخرى مشفرة للأحزاب والنقابات، ودافع داخل الحكومة عن موقفه، متهما بعض الوزراء بأنهم «يريدون التغطية على الفاسدين»، وكانت تلك من بين الأسباب التي جعلت علاقة الوزير القوي تعرف اهتزازا كبيرا، خصوصا في مواجهة الوزراء المحسوبين على رجال الأعمال. حين أنهى الدكتور أمالو مهمته، بما لها وما عليها، وجد نفسه يعود إلى الدارالبيضاء وإلى رحاب الجامعة. وشاءت ظروف أن تتحدث عنه الألسن في قضية سوق تجاري، لكنه ظل يدافع عن مواقفه، مؤكدا أنه لم يفعل أكثر مما كان يمليه عليه ضميره، بيد أن الظروف لم تلعب لصالحه دائما، ففي فاتح نونبر 1996، غيب الموت المعطي بوعبيد رئيس الاتحاد الدستوري، وكان ذلك بمثابة نزع غطاء سياسي كان يحتمي به. وحين انتقلت قيادة الاتحاد الدستوري إلى طابع جماعي، لم يكن الدكتور عبد الرحمان أمالو واحدا ممن رست عليهم تلك الإجراءات. كان قد جاء إلى وزارة العدل بعد فترة تولى إدارتها أستاذ جامعي آخر، هو محمد العلمي مشيشي، الذي أغنى المرجعيات الأكاديمية بأبحاث ودراسات همت ميدان الإعلام والاجتهادات القانونية، وقبلها طبع مولاي مصطفى بلعربي العلوي مروره برزانة لم يكن فيها جرس الهاتف يدق في مكتبه. غير أن الدكتور أمالو حافظ في غضون مروره بذلك القطاع الحيوي، الذي يشكل والإعلام وجهين لعملة التقدم أو التخلف، على وضع الأستاذ الجامعي الذي يقيس الأشياء بمنظور فكري. هل كان حالما أو واقعيا؟ على أي حال، فإن اسمه اقترن بأشد الحالات التي أثارت ولا تزال لغطا شديدا بين مناصريها ومناهضيها.