يقول الكاتب الفلسطيني فيصل دراج: «معنى الثقافة قائم في محاربة العادة ومواجهة «سلطة الإجماع»، التي هي سلطة السلطة، التي تقرر معنى الإجماع والخروج عنه. لا يعود الأمر، إذن، إلى الأحزاب أو إلى الموقف السياسي، بشكل أدق، بل يعود إلى هزيمة الثقافة، التي تكون ما يجب أن تكون في تمرُّدها على العادة والغالبية والإجماع، بدلاً من أن تلوذ ب«سلطة الإجماع» أو أن تستنيم إلى وعي حسي يرتاح إلى «وعي الجماهير»، بلغة ليست من هذا الزمان، أو إلى «روح الأمة»، التي فارقت الروح وهي تنتظر الفَرَج. إنه السياق الذي يضع المثقف، طوراً، في مقدمة المرْكب ويجعله يركل المركب الغارق، في طور مختلف، وربما يكون حريصاً على حذائه، فيكتفي بالمشاهدة»... يحيل هذا النص إلى العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة، وتعريف الثقافة انطلاقا من وظيفتها، ومن كونها محدودة بحدَّيْن، موقع الإذعان وموقع التمرد، وما بينهما الاكتفاء بالتفرج. ويتحدد ذلك حسب السياق والظرف العام للمثقف، فرفاعة الطهطاوي والشيخ حسن المرصفي وأمثالهما من الأعلام الأوائل لحركة التنوير في العالم العربي، ظلت ليبراليتهم محدودة بسقف حيادية الحاكم وترضيته، انطلاقا من وظيفتهم الحكومية المرتبطة بالراتب الشهري. لذا لا يلبث رفاعة أن يراجع نفسه، متراجعا نحو كتابات يسودها تملق الحاكم، وهي ظاهرة ظلت ملازمة لجيل بعد جيل: توفيق الحكيم، زكي نجيب محمود، محمد أحمد خلف الله. ومن نماذج هذه المواقف اللولبية تطويع الطهطاوي لليبراليته الأزهرية، فحين كان ابن رشد يقول في كتابه «فصل المقال»: «نحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل»، فإن رفاعة يتراجع ل«جعل الظاهر غير قابل للتأويل»، فيحتاج لكي يقول -مجرد قول- بدوران الأرض وكرويتها إلى دورة كاملة من الحكايات (ربما مصنوعة). بين شجاعة سلامة موسى وشبلي الشميل وفرح أنطوان ونيقولا حداد وولي الدين يكن، هناك ثلة تخلَّت عن معنى الثقافة، ما دام أن هذه الأخيرة قد تُبعدهم عن السلطة، فقيدت الفعل والعقل. ومن العلامات الفارقة في تاريخنا العربي، التي أطلقت سراح العقل ابن رشد، الذي أمر المنصور باغتيال كتبه، ونفيه إلى «اليسانة». في هذا الوقت، قرر فريد ريك الثاني، خلال معركته مع تشدد رجال الدين المسيحي، ترجمة ونشر كتبه.. يشكل ابن رشد عينة من نماذج كانت علاقتها متوترة مع السلطة، لأنها تصدر عن موقف نقدي، فتنتهي نهاية مأساوية قد تصل حد الاغتيال: (فرج فودة، حسين مروة، مهدي عامل)، أو تتعرض لمحن قاسية جراء حساسية السلطة الفائقة أو المجتمع إزاء العقل: (طه حسين، علي عبد الرزاق، محمد أحمد خلف الله، نصر حامد أبو زيد...). حين نتحدث هنا عن السلطة، فهي ليست بالضرورة سياسية، وكما حددها ميشيل فوكو، «ماكرو سلطة» و«ميكرو سلطة»، وتعني هذه الأخيرة السلط الصغيرة، المتمثلة في العلاقات العامة، الشارع، العائلة، المقهى... إلخ. إذ لا يمكن أن نُلغي، مثلا، دور الخرافة في تقليل أو إلغاء هامش الحريات، التي يقف العقل خائفا أمام فحصها فحصا انتقاديا، أو قد يجعل المفكر يتعامل مع قضاياه تعاملا انتقائيا، وقد لا يذهب بعيدا في معالجته النقدية، ونسوق هنا الراحل محمد أركون الذي، بالرغم من أبحاثه الكثيرة والعميقة، صرح بأنه لم يكن قادرا على الذهاب أبعدَ في بعض القضايا... لم تعد تنفع المقولة الفقهية المستنيرة «حيث تتحقق مصلحة الناس فثمة شرع الله» في زماننا هذا، الذي تروج فيه كتب يطالعها الناس ويتناقلونها في ما بينهم، ما فيه «أن نوحا عليه السلام بنى سفينته من عظام حيوان، يبلغ طوله مسافة ما بين السماء والأرض، ويبلغ عرضه مسيرة عام كامل». أو حديثا منسوبا لحذيفة، مرفوعا إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، يقول إن ياجوج وماجوج أمة، وكل أمة أربعمائة أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح، وهم من ولد آدم يسيرون في خراب الأرض، وهم ثلاثة أصناف، صنف مثل شجر الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء لا تقوم لهم الجبال ولا الحديد، وصنف يفترش إحدى أدنيه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه..إلخ. (الخرافة). الخرافة ما هي إلا جزء من العديد من التصورات السائدة، سياسية، ثقافية اجتماعية، راسخة في السلوكات والذهنيات، تعيق نمو الفكر وتحرره، وقد تكبله، فتنهزم الثقافة، كما جاء على لسان فيصل دراج. وقد يسقط في طلب المسوغات والمبررات، وهنا نستحضر تجربة إدريس الشرايبي مع روايته «الماضي البسيط»، التي جلبت له انتقادات الحركة الوطنية، لكونها لم تكن ترغب إبان الفترة الاستعمارية في تعرية البيت الداخلي للمجتمع المغربي، في سياق مواجهتها مع سلطة الاحتلال الفرنسية، لأن الرواية سعت إلى قتل الأب، منتقدا سلطته على العائلة ووضعية المرأة في المجتمع البطريكي. بعدها، تراجع الشرايبي عن روايته، بتقديم مبررات ومسوغات لما ذهب إليه في هذا العمل الإبداعي، وما تعرض له الشرايبي عاشه، وبشكل أقسى وأعنف، محمد شكري في «خبزه الحافي»، لا لشيء إلا لكون كتابته جاءت فاضحة في عريها، فأثارت حفيظة السلطة المجتمعية الأخلاقية الدينية. إنها إكراهات وعوائق المثقف، الذي بقدر ما يتوجب عليه الإخلاص في البحث عن الحقيقة خارج المحددات التي ترهنها، عليه أن يواجهها في نفس الآن، بمعنى أن حاجته الدائمة إلى الحرية تستدعي منه الدفاع عن قيمها، فيعكس بالتالي سلطة مضادة، ونستحضر هنا جون بول سارتر، الذي كان له تأثير يفوق تأثير السياسي. يتحدد رهان استقلالية المثقف في وضعه المسافة بينه وبين السلطة الرسمية أو الحزبية، وهذا لا يعني ألا يهتم بالشأن السياسي، بقدر ما يحترس من أن تبلعه السياسة، في انشغالها واشتغالها وتدبيرها اليومي، لأنه يفكر على المدى البعيد، يرصد هفوات الممارسة السياسية وتقديراتها وتصوراتها بعقل ناقد، يُنبِّه السياسي إلى هفواته وإلى تبريراته غير المقنعة، إنه صمام أمان للسياسي، يحميه من الإنزلاقات التي يمكن أن تفرضها عليه إكراهات الآنيّ. وإذا ما ابتلعته السياسة يمكن أن يضيع في لُجَّتها ويهدر طاقاته الإبداعية والفكرية، ونسوق هنا نموذجين: النموذج الأول هو إدمون عمران المالح، الذي ارتبط باليومي السياسي، فافتقدنا فيه كاتبا كبيرا، لم نكتشف طاقته إلا بعد أن بلغ به العمر عتيا، ومن حسن حظنا أننا استفدنا منه واستفادت منه الثقافة المغربية في هذه المرحلة من حياته. النموذج الثاني، هو محمد الأشعري، الذي حين تقرأ رواياته، ك«ريح الجنوب» و«القوس والفراشة»، تحس بأنك أمام مبدع خلاق، «ابتلعته» السياسة وضيّعت فعله الإبداعي. المثال المضاد محمود درويش، فالراحل عرف كيف يحافظ على المسافة مع السلطة وضدها، ولم ينخرط في جوقة المبررين لممارساتها ومواقفها السياسية في جميع محطاتها، رغم محاولات ياسر عرفات استقطابه إلى السلطة، لأنه كان يدرك أن ارتباطه بالسلطة سيجعله يخون ذاته واختيارَه الشعري والجمالي، ولهذا كان مُصرّاً على الابتعاد. ماريو فارغاس، نموذج آخر، خسر الانتخابات الرئاسية في البيرو في العام الجاري، وحصل علي جائزة نوبل في نفس السنة، ونظن أنه لو ربح السياسة، لكنا فقدناه بقوة، وهو المتميز بتصويره المفصَّل للصراعات علي السلطة، وبصوره محددة المعالم للمقاومة والتمرد، من خلال روايته الفريدة «حفلة التيس» (أو وليمة التيس)، التي تتناول فترة حكم بورخيو في دولة الدومينيكان، الرجل الذي ظل لمدة ثلاثين عاما يزرع الرعب والحذر والتوجس في نفوس شعبه، حتى إنه، بعد اغتياله، عجز الناس عن تصريف أمورهم بسرعة، عهد مظلم حجب الدومينيكان عن العالم الخارجي وفرض المجتمع الدولي عليه العقوبات... وُصِف يوسا من طرف مانحي جائزة نوبل ببراعة الراوي الخنوع الخائف الثائر والمستسلم، السياسي الذي بداخله حلل اللعبة القذرة، التي تتبدل فيها الولاءات والآراء في غمضة عين، رصد أحوال المحكومين مع الخطر، من خلال طرح مجموعة من القصص الإنسانية الحزينة والشجية... «حفلة التيس» هي رواية عن الاستبداد في العالم الثالث كله تصور كيف يعيش شعب فقير مغلوب على أمره وكيف تعيش نخبة حاكمة متغطرسة ببذخ، كأنها لا تنتمي إلى ذلك الشعب... يقودنا هذا النموذج، أيضا، إلى، رهانات المثقف، التي يمكن أن تكون نبيلة، كما هو الشأن بالنسبة إلى يوسا، أو انتهازية مجنونة بالحكم، حسب تجاذبات المواقع وحسابات السياسة، والإشعاع الذي يمكن أن تحققه، باعتمادها على الحزب وإعلام الحزب. وعليه، وكما نعتبر المثقف ضميرا للأمة وباحثا يُخْلص في البحث عن الحقيقة، التي هي نسبية، يمكن اعتباره، على ضوء هذه المنطلقات، منتجا للمعرفة، خادما للسلطة، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض البحوث الاستشراقية الأنثروبولوجية، التي أمَّنتْ للاستعمار معرفة عقلية الأهالي ومعيشهم، كي يتحكم فيهم، وقد تكون في خدمة تصورات محافِظة أو تقدمية. وبشكل عام، المثقف ليس بنبي، بقدر ما هو مدافع عن القيم، ليس بالمعنى التقليدي، بل قيم النقد والإبداع والمغامرة في إخلاص البحث عن الحقيقة، لمساعدة المجتمع على تجاوز تعثراته وإخراجه من التخلف. إنه بشر وما هو برجل صالح أو رسول!... نستعير من فيصل دراج تعريفا للمثقف، على لسان الفيلسوف الفرنسي اليوناني الأصل كورنيليوس كوستريادس، وهو كالتالي: «إنه الذي يأتي إلى الناس ويستعير منهم الأسئلة، ثم يجيب عن أسئلتهم وحيداً»... فالمثقف هو الذي يقترب من الناس ويبتعد عنهم، تُؤنسه أسئلتهم ويأنس إلى إجاباته المفردة. لكنه، في الحالين، لا يعطيهم أجنحة ولا يصدر من فراغ. قال بعض العارفين: «لو كانت الغالبية أرواحاً من ذهب، لبحث المثقف عن منفى من تراب»...