ابتهج كثيرون بنشر آلاف الوثائق الأمريكية عن حرب العراق. البعض استدل بهذه المبادرة على رقي نفتقر إليه نحن العرب، والبعض الآخر ذهب في الاتجاه الذي أراده مسربو الوثائق. ومن حسن الحظ أن قلة محدودة من المعلقين ارتابت، جزئيا أو كليا، وقرأت هذه المبادرة بالطريقة التي تستحقها. لا يعول كثيرا على كتابات، درجت على حشرنا في مقارنة سلوكية مع الغربيين، للوصول إلى استنتاج قاطع بأنهم متحضرون وبأننا على تخلف مقيم. لقد بات هذا النوع من المقارنات مثيرا للضجر، وهو ينتمي إلى مدرسة شاخت وانفضت عنها النخب إلا بعض من شاخوا على أفكار «التحضير والتحديث» بواسطة الغرب أو على الطريقة الغربية. والراجح أن هؤلاء لا يجدون اليوم أو قد لا يجدون قريبا من يخاطبونه. أما الأغلبية المعتبرة من الناس فهي التي فرّجت هذه المبادرة عن كربها وصبت الماء في طاحونتها، وهذه الغالبية تنظر إلى الوثائق المنشورة بوصفها أدلة على طائفية نوري المالكي وجماعته وعلى تدخل إيران السافر في الشؤون الداخلية العراقية، ناهيك عن كونها (الوثائق) بالنسبة إلى هذه الغالبية هي مدعاة إلى الشماتة ب«الذين جاؤوا مع المحتل الأمريكي» فإذا به يفضح ممارساتهم الطائفية ويلقي الضوء على جرائمهم البشعة، الممتدة من التعذيب وحتى القتل العمد بدم بارد مرورا بالخطف والإخفاء والتصفية.. إلخ. ولو أريد، بالفعل، ذات يوم مقاضاة هؤلاء فستشكل الوثائق المنشورة أدلة أكثر من كافية على ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية. وإذ تركت الوثائق كل هذا الأثر في نفوس الأكثرية الساحقة من الناس فهي قد وصلت إلى الغرض الأول من نشرها، أما الأغراض الأخرى فهي في أصل ارتياب قلة من العراقيين والعرب المتابعين عن كثب للشأن العراقي، ومن بينهم كاتب هذه السطور. دواعي الشك في هذه المبادرة كثيرة، أبرزها صعوبة تسريب آلاف الوثائق من أرشيف الدولة الأعظم دون تواطؤ منها، وهي لو لم ترغب في ذلك لما تسربت وثيقة واحدة. والسبب الثاني، وربما الأهم، يكمن في تنظيم الحرب الأهلية العراقية عبر قواعد البيانات والوثائق، فالنظام السابق نشرت وثائقه واستخرجت منها أعمال التعذيب والمقابر الجماعية المزعومة، والنظام الحالي صار لديه ما يكفي من المقابر الجماعية ووسائل التعذيب. وإن انتقم هذا الفريق من مؤيدي النظام السابق فسينتقم هؤلاء من هذا الفريق ساعة تتوفر لهم الفرصة المناسبة، وفي هذه الحالة يدخل العراقيون، وقد دخلوا مع الأسف، في حروب انتقامية وطائفية مآلها الفناء، وبذلك يرتاح المحتل بل ينتصر هو ومن يشد على يده من حكامنا «المعظمين». وإذ كان النظام العراقي السابق يتهم معارضيه بالعمالة لإيران، فها هي الوثائق تشير إلى ما يرغب فيه أنصاره وها هو قسم معتبر من العراقيين قد دخل في قطيعة مع الجمهورية الإسلامية لا يعرف أحد إلى متى تدوم وكيف تدار، وفي هذا الوقت يكون المحتل قد غسل يديه بواسطة الوثائق الجزئية من الجريمة العراقية الكبرى وأدخل في روع العراقيين والسذج من العرب أن ما أتاه هو مجموعة من التجاوزات التي تستحق المحاكمة والإدانة وليس جريمة قتل بلد بكامله في وضح النهار وتنظيم مقاتل أبنائه إلى أجل غير مسمى. ثمة من يقول إن خير العراقيين منهم وشرهم منهم، وبالتالي فهم يتحملون المسؤولية عما أصابهم وليس المحتل، وهذا القول صحيح جزئيا قبل احتلال بغداد عام 2003، فمنذ ذلك التاريخ لم يفعل المحتل الأمريكي غير تهديم الروابط بين العراقيين وتنظيم الحرب الأهلية في صفوفهم، مستندا إلى ثقافتهم السياسية الضعيفة وغير الوقائية. وإذ نجح بوش في تهديم العراق وقتل عشرة في المائة من أبنائه فها هو أوباما ينسحب من بلاد الرافدين وسط غيوم من الوثائق التي تقول لمن يرغب في الانتقام من العراقيين الذين ظلمهم المحتل «مشكلتكم مع المالكي ومع إيران» وليس مع من جاء بالمالكي وتعاون مع إيران على تقاسم النفوذ في بلد محتل. ولعل قمة المأساة هي في أن الغالبية تمتدح الوثائق وتسبح بحمدها.. يا للفاجعة.