أذكروا موتاكم بخير. لكن، والله غالب، من الموتى من يستحق أن يقتل مرة ثانية! خامرنا هذا الشعور لما سقط خبر وفاة جورج فريش، الذي وافته المنية يوم الأحد الماضي على إثر سكتة قلبية وهو في ال72 من عمره، بينما كان يوقع، واقفا، إحدى الوثائق. فالرجل، الذي سير لمدة 30 سنة مدينة مونبولييه بجنوب فرنسا قبل أن يتفرغ لرئاسة المجلس الإقليمي لجهة اللونغدوك روسيون المكونة من ثماني مقاطعات، كان بمثابة جان-ماري لوبان الحزب الاشتراكي الفرنسي: متخصص في المفرقعات العنصرية البغيضة، الشيء الذي تسبب في طرده من صفوف الحزب بعد تصريحاته المعادية للوزير الأول الأسبق في عهد فرانسوا ميتران، لوران فابيوس، مستهزئا به بسبب «خشمه» اليهودي! لكن هذه القديحة الموجهة ضد شخصية سياسية من أصول يهودية تندرج ضمن»الإنجازات» العنصرية للرجل في حق العرب، الفلسطينيين والمهاجرين، الذين جعل منهم أكباش فداء، يصلبهم على هواه في التجمعات الانتخابية والتصريحات الإعلامية، بل وفي كل المناسبات، من دون رادع ولا وازع. «رجل المتناقضات»، «وحش سياسي»، «مفارقة حية»، «رجل الاستفزازات»،... جاءت هذه العناوين، التي تصدرت مانشيتات الصحافة الفرنسية، غداة وفاته، لمحاولة الإمساك بكنه رجل مرتج ومتخصص في «قليب الفيستة»: ناضل في شبابه ضد «المنظمة المسلحة السرية» (التي كانت تدافع بالسلاح عن الجزائر الفرنسية). وهو طالب بكلية الحقوق، تحمس لاستقلال الجزائر. انخرط عام 1964 في فيدرالية الدوائر الماركسية اللينينية، وهي منظمة ماوية. بعد أن عمل أستاذا بكلية الحقوق بمونبولييه، تقدم عام 1973، باسم الحزب الاشتراكي، للانتخابات التشريعية التي فاز فيها بمساندة أصوات اليمين المتطرف المقرب آنذاك من أنصار الجزائر الفرنسية! جاء تقربه من هذا الفصيل المتطرف محاباة ل»الأقدام السوداء»، وهي الجالية الفرنسية العائدة من الجزائر بعد تحرير البلد، حيث وفر لها جميع الامتيازات من شغل وسكن ومساعدات اجتماعية لاندماجها. عام 1982، نكس الأعلام بالمدينة احتجاجا على انحناءة كلود شيسون، وكان وزيرا للخارجية في عهد ميتران، أمام القبر الجماعي لمجاهدي جبهة التحرير الجزائرية. وبقدر ما غازل وحابى «الأقدام السوداء» لاعتبارات انتخابية، انهال سبا وقذفا على الحاركيين، العرب والفلسطينيين. وصف الحاركيين ب»كائنات حضيضية وهجينة». كما تهجم على من أسماهم ب«القردة» (يقصد السود)، الذين يتحكمون في الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم. صرح عام 2007 بأنه حول مدينة مونبولييه إلى «إيريتز إسرائيل»، وعبر في نفس الكلمة عن صداقته لإسرائيل وغبطته لانتخاب رئيس للجمهورية من أصول يهودية (ساركوزي). كما اعترف بالقدس «عاصمة موحدة لدولة إسرائيل»، ودافع عن «حائط شارون»، ورفض عودة الفلسطينيين إلى بلدهم. والكل يتذكر الهجوم الذي شنه على أحد المستشارين المنتمين إلى حزب الخضر، بسبب المظاهرة التي نظمها هذا الأخير ضد تدشين فرع للشركة الإسرائيلية «أغريسكو» بمدينة سيت، القريبة من مونبولييه. وتستغل الشركة منتوجات الأراضي المحتلة. حصل هذه السنة على جائزة التحكيم الخاصة في السخرية السياسية على تصريحه بأنه أجرى «حملة انتخابية للجهويات وسط الحمير لأن نسبة الأذكياء الذين صادفهم لم تتعد 5 أو 6 في المائة»! ولم تسلم الجالية الإسلامية من تصريحاته النابية، حيث عبر، في أكثر من مناسبة، عن هوس «الكثرة» الديمغرافية للمسلمين الذين يعتبرهم «وباء» كاسحا على جهة اللونغدوك روسيون، وفي خبايا لاوعيه تاريخ المعارك التي شهدتها المنطقة بين جيوش المسلمين والإفرنج أيام عبد الرحمان الغافقي وشارل مارتيل. وفيما تهجم على النساء المحجبات وخطر المد الأصولي الذي يمثله المسلمون، لم يجد عميد مسجد باريس، دليل بوبكر، من كلمة مواساة سوى رسالة التعزية التي بعثها إلى العائلة، مشيدا بخصال الرجل وتفانيه في خدمة مدينة مونبولييه، مضيفا: «كان المرحوم دائم الإنصات للمسلمين في المنطقة!». من له ألفة بتخريفات إمام المسجد الكبير لباريس، لا يستغرب هذا النوع من الهراء. الحاصول، لا يسعنا، في حق جورج فريش بعد أن وافته المنية، إلا القول: «الماء والشطابة»!