لا يجد فيها القادم من مدينة كبيرة مبتغاه وضالته ويتمنى العودة منها، سالما، في أقرب الآجال، وحتى الذي يتبضع من سلعها وخضرها، فإنه سيختار لا محالة عنوانا لواقعها «ضعف الجودة وارتفاع الثمن». يغريك هدوؤها لأول مرة بتمني قضاء وقت يريحك من تعب الضجيج والضوضاء، غير أن الهدوء الظاهر للعيان يُخفي احتجاجات شبه يومية لهيآتها المختلفة، التي وإن تعددت، فإن مطلبها واحد: «توفير مناصب الشغل ومحاربة غلاء الأسعار».. إنها مدينة بوعرفة، التابعة إداريا لإقليم فجيج. اختار بعض سكان المدينة نهج أسلوب «العصيان المدني»، منذ سنة 2006، بقيادة التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية في بوعرفة، فامتنعوا عن أداء فواتير الماء، ردا على تخفيض الحكومة للشطر الاجتماعي من 24 مترا مكعب إلى 18 مترا مكعبا، وهو ما انعكس وقتها على سعر الماء، بعد مسيرات احتجاجية شهدتها المدينة وبعد الإصرار على عدم الأداء لجأ المركز المحلي في بوعرفة، التابع للمكتب الوطني للماء الصالح للشرب، إلى نزع العدادات، كإجراء قانوني بعد الامتناع عن الأداء، فانطلقت شرارة الغضب والاحتجاجات، فجاء أمر للمركز يقضي بضرورة إعادتها إلى مكانها، فظل الحال منذ تلك الفترة كما هو عليه «استهلاك الماء دون أداء». ولا يقتصر الأمر على السكان البسطاء أو الذين ينضوون تحت لواء التنسيقية، بل تجاوزهم إلى موظفي الدولة والمستثمرين. يقول موظف في العمالة: «لا أؤدي فاتورة استهلاك الماء، لأنه كان هناك وقتَها من يرابط أمام مكتب استخلاص الماء، من أجل تهديد المواطنين وترهيبهم وإجبارهم على عدم الأداء». «عصيان مدني» لم يستسغ العديد من المواطنين أن يظل هذا الوضع على ما هو عليه، خاصة أن العديد من قرى ومداشر المغرب تعاني، بدورها، من الهشاشة ويطالب سكانها بتمكينهم من الماء الصالح للشرب، وهي على أتم الاستعداد لأداء فواتير الاستهلاك، في حين هناك مدينة يصل عدد سكانها إلى حوالي 40 ألف نسمة لا يؤدون ما بذمتهم من ديون بلغت، إلى حدود نهاية 2009، مليارا و500 ألف سنتيم. تقول «فاطمة»، ربة بيت: «إن عدم الأداء يجعل المواطنين لا يحافظون على الماء لأنهم لا يؤدون ثمن استهلاكه، فتجد عددا منهم يُسرفون في استعماله ويُفْرطون في تبذيره، دون مسؤولية». اتُّخذ خلال فترة تسيير عامل الإقليم السابق قرار يقضي بأن يؤدي المجلس البلدي وشركاؤه متأخرات ديون السكان، على أن يشرع المكتب الوطني للماء في استخلاص مبالغ استهلاك المواطنين ابتداء من سنة 2010. اعتبر البعض هذا القرار غير سليم، لأنه يمس بمصداقية الدولة، لأنه ليس من العدل أن تتحمل الدولة نفقات خدمة موجهة للسكان الذين تجمعهم مع المكتب الوطني للماء عقود محدَّدة وموقَّعة وتتطلب الالتزام من الطرفين، لذلك فإن كل أداء من قِبَل من ميزانية الدولة يناقض مبدأ تكافؤ الفرص بين المدن، فليست مدينة بوعرفة وحدها التي تعاني الفقر والهشاشة، بل هناك مناطق في المغرب تعيش الأوضاع نفسها، على حد تعبير أحد المواطنين. مع نهاية الشطر الأول من سنة 2010، أعد المركز الفواتير ليوزعها على السكان ويستخلص ثمنها، ونُظِّمت حملات تواصلية يشرح فيها الطريقة التي تمكن أي مواطن من معرفة حجم استهلاكه وتم إعدادهم لذلك، وفوجئ الجميع باتخاذ السلطات المحلية قرارا يقضي بأن يؤدي الناس ما بذمتهم، بالموازاة مع الفواتير الجديدة، وهو ما رفضته التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار، بمبرر أن «هناك قرارات اتُّخذت بشكل رسمي وينبغي أن تُنفَّذ». وفي هذا الصدد، يقول الصديق الكبوري «إن عامل الإقليم الجديد هو من اتخذ قرارا آخر يهم ضرورة أن يؤدي السكان ما بذمتهم، وهذا غير ممكن، فالمجلس البلدي قدم وعدا بأن يؤدي جزءا من مخلفات الديون، وهو ما زال عند وعده، غير أن شركاءه لم يلتزموا بوعودهم». حل توافقي لا يعتبر بعض المسؤولين أن ملف الماء بوعرفة له شق اجتماعي محض، بل له بعد سياسي ووظف في الانتخابات السابقة، وهناك من يسعى إلى توظيفه من جديد، لكنْ يظل السؤال المطروح: إلى متى يبقى هذا الموضوع معلَّقا والديون متراكمة والمكتب الوطني للماء يواصل تقديم خدماته مجانا؟ يقول أحد المواطنين: «أعتقد أنه ليس من العدل ولا من المنطق أن تؤدي الدولة ثمن عصيان مدني، بل يتطلب الأمر أن تعقد لقاء للسلطات مع التنسيقية الوطنية لمناهضة غلاء الأسعار وأن يفتح باب استخلاص الديون للمواطنين، الذين لهم القدرة المادية من موظفين ومستثمرين وتجار وغيرهم يؤدون ما بذمتهم. أما الفقراء، والذين استعصى عليهم أداء المبلغ المتراكم، فتكون الطريقة الأمثل هي أن تنسق جمعيات المجتمع المدني في المدينة مع جمعيات خيرية أو محسنين من أجل الأداء». وحسب معطيات رسمية، فإن السكان الذين ينتمون إلى الفئة المعوزة لا يتعدى المبلغ المتراكم عليهم 200 درهم، إذ إن 24 في المائة من المشتركين عليهم دين أقل من 200 درهم، إلى حدود نهاية 2009، وما تبقى من المشتركين ما بين 200 درهم و1600 درهم، وتشمل هذه الفئة أصحاب الاستثمارات من حمامات ومقاه وغيرها. وعبَّر بعض السكان ل«المساء» عن استيائهم من أن يظل هذا الملف معلقا، خاصة انعكاسه على مجال الاستثمار، حيث إنه يمنح طابعا سيئا حول المدينة، وأكدوا، في تصريحاتهم ل»المساء»، أنهم على أتم استعداد لأداء ما تراكم عليهم من فواتير الماء، غير أنهم ما دام الوضع كما هو عليه، فإنه لا يسعهم سوى الانتظار مع المنتظرين. المسنون والشغل والمثير في العمل الجمعوي في مدينة بوعرفة هو وجود جمعية تعنى بشؤون المسنين تحمل اسم «جمعية محاربة الفقر والدفاع عن الحق في الشغل»،. ويتبادر للذهن، منذ الوهلة الأولى، أن هذا الصنف من الجمعيات كثير في المغرب، لكنْ إذا ما علمنا أن هذه الهيأة ليس من أهدافها التفكير في مأوى أو جلب مساعدات للمسنين أو تنظيم أنشطة لهم، بل هدفها هو «النضال» من أجل حقهم في الشغل. يقول الطيب المختاري: «إن جمعيتنا التي ينخرط فيها المسنون والذين تجاوزوا سن الستين، سطرت ملفا مطلبيا ترمي إلى المطالبة بحق الشغل لأننا فقراء». وتطالب الجمعية، بإلحاح، بالاعتراف بها وتسليمها وصل الإيداع القانوني وبالزيادة في حصتها من الإنعاش الدائم وتخصيص مناصب من الميزانية الإقليمية والجماعات المحلية والتعويض عن البطالة، بالنسبة إلى كبار السن في الجمعية، ومنح رخص النقل وتوفير مناصب الشغل في شركات الحراسة ومطار بوعرفة، وفق ما هو مسطر في ملفها المطلبي، والذي يضم 14 مطلبا تتعلق بالسكن والعمل وطلب التعويض. وما زالت الجمعية غير معترف بها، لأن القانون لا يبيح تشغيل من تجاوز الستين وأن أهدافها الموضوعة غير منطقية، حسب أحد المسؤولين، فالأَولى أن تقوم بتغيير أهدافها وتقوم بالتنسيق مع جمعيات أخرى، وطنية أو أجنبية، للبحث عن مساعدات مالية من أجل صرفها للمعوزين أو القيام بحملات تحسيسية في صفوف أبناء المسنين، من أجل مساعدتهم على تكاليف العيش. باب الحوار تتناسل القصص والروايات حول عامل إقليم فجيج، خاصة في كل ما هو مرتبط بحياته اليومية، وقرارات التوقيف المتخذة في حق بعض العاملين، فالجميع يتحدث عن اختياره الإقامة في الفندق في بوعرفة، رغم وجود إقامة مخصصة له... أحاديث يعتبرها البعض ليست من الأخلاق في شيء، فهو حر في أن يختار الإقامة في أي مكان يروقه، وهناك من يتحدث عن أن هناك أشغالا تهمّ بعض الإصلاحات في إقامته لم تكتمل بعد. يقول أحد الموظفين في العمالة: «إن الناس في هذه المدينة، كما هو حال المدن الصغرى، لا شغل لهم سوى تتبع الحياة الخاصة للمواطنين والمسؤولين، فينبغي محاسبة الناس على عملهم وليس على حياتهم الخاصة، فالعامل الجديد يعمل، بجد، لتنمية المدينة وأنه جاء لتطبيق القانون وإعادة الأمور إلى نصابها، وهناك من يتحدث عن أنه ليس رجل حوار. بالعكس، فليس بالضرورة أن يعقد لقاءات مع جمعيات في وجود الكاتب العام الذي ينوب عنه». هناك من يعارض هذا الرأي ويعتبر أن العامل الجديد جاء من أجل القضاء على الاحتجاج، خاصة أن مدينة بوعرفة تتصدر قائمة المدن الأكثر احتجاجا، حسب تقارير وزارة الداخلية، وفق قول الصديق كبوري، ممثل التنسيقية المحلية لمناهضة غلاء الأسعار، الذي يقول إن دليله في ذلك أن محيط العمالة محاط بكل أشكال القوة العمومية. واعتبر الكبوري أن السياسة المتّبَعة هي سياسة «العصا الغليظة» وتهميش كل الفاعلين في المدينة وإغلاق باب الحوار. غياب الاستثمار لمعرفة الرأي الرسمي في الموضوع، لم نتمكن من لقاء عامل الإقليم، من أجل معرفة رأيه في عدة مواضيع، لعدم وجوده في مقر عمله، فطلب منا طرق باب الكاتب العام للعمالة، فطلبت منا كاتبته الانتظار ليكون الجواب أنه سيعقد اجتماعا، وقالت إنه كلف قائد الشؤون العامة بالأمر، الذي استقبلنا، لكنه اعتذر، بلطف، عن تقديم أي توضيحات، فكان لنا لقاء مع مصطفى زروال، رئيس قسم الجماعات المحلية في العمالة، والذي أكد ل»المساء» أن المدينة تعرف غيابا للاستثمار، رغم وجود تشجيعات في المساطير وتوفير الوعاء العقاري، وهو ما يؤدي إلى غياب القطاع الخاص. وأوضح زروال أن معطلي المدينة، من حملة الشواهد، يعتمدون على الإنعاش الوطني، فيعملون لمدة 15 يوما وينتظرون دورهم لمدة طويلة. ومن الإمكانيات المتاحة للتشغيل، المناصب الشاغرة في الجماعات المحلية، والتي تتم عبر المباراة، حسب ما قاله رئيس قسم الجماعات المحلية في العمالة، وتوفر هذه المناصب ما بين 15 و20 منصبا سنويا لأبناء الإقليم. وأوضح زروال أن العامل الجديد طلب جردا للمجازين وتم إرسال ملفاتهم إلى وزارة الداخلية وخصص للإقليم 29 منصبا، غير أن قرار اختيارهم أصبح مركزيا وليس محليا. وبخصوص ملف «الماء»، أكد زروال أنه ينبغي البحث عن صيغة لحل هذا الملف وأن المتضرر بدرجة أولى، والذي عليه أن يسعى إلى لم هذا الملف، هو المكتب الوطني للماء الصالح للشرب. وفي انتظار أن تجد هذه الملفات الشائكة في المدينة حلها، خاصة «ملف الماء»، يبقى على كل زائر للمدينة أن ينتبه إلى جودة «الطعام»، حتى لا يلقى نفس مصيرنا و»تنبت» في جسده -لا قدّر الله- بتور حمراء تسبب فيها أكل غير مناسب، وأن يعلم الوافد على هذه المدينة أن ثمن سيارة الأجرة محدد في عشرة دراهم، وإن كانت المسافة قصيرة، إضافة إلى ثمن مكالمة هاتفية ليحضر عندك سائق سيارة الأجرة، الذي لا يتردد في منحك رقم هاتفه مطبوعا، بعناية، على ورقة صغيرة تتضمن اسمه ورقم سيارته. «القرقوبي» يقلق راحة السكان من بين الظواهر الاجتماعية التي تقلق راحة الساكنة انتشار استهلاك الأقراص المهلوسة «القرقوبي» بين صفوف الشباب، الذين يرزحون تحت نار البطالة والتهميش، بسبب غياب شركات في المنطقة واعتماد السكان على تربية الماشية كمورد للعيش. ولعل هذا ما يجعل من انشغالات السكان التطرق إلى هذا الموضوع، من خلال الشعارات التي يتم ترديدها خلال الوقفات الاحتجاجية التي تنظمها جمعيات المجتمع المدني، من قبيل «القرقوبي بالقنطارْ والبوليس ما جايب لْخبارْ»، أو «يا حسرة يا حسرة، القرقوبي بكثرة»... كان جواب إحدى النساء من النساء اللواتي طلبنا رأيهن في مشكل الماء: «أختي، الله يرحم الوالدين كْتبو لينا على مشكل القرقوبي والجرائم اللي بداتْ ترتفع في بوعرفة اللِّي ما كانتشْ هكذا».. وتشاطرها الرأي سيدة مسنة عادت لتوها من تقديم العزاء في وفاة الشاب الذي طعنه جانح يتعاطى الأقراص المهلوسة «القرقوبي» فأرداه قتيلا، قائلة «إن بوعرفة لم تكن هكذا، بينما صارت تعرف عددا من الجرائم، فنرجو من رجال الأمن أن يتصدوا لها بكل حزم». وفي هذا الصدد، يقول شاب من المدينة: «ينبغي أن تتم مراقبة مروجي القرقوبي الذي أصبح ينتشر كثيرا في صفوف الشباب. كما أنه في غياب فرص شغل، أصبح ترويج المخدرات وسيلة لجني المال»، مطالبا بضرورة تفكير المسؤولين في البحث عن استثمارات وفرص عمل تنقذ الشباب من البطالة. ومرد تخوف الساكنة من ارتفاع الجرائم أن آخر جريمة ارتكبت يوم 15 أكتوبر الجاري المدينة كانت بالقرب من مقر مركز مديرية مراقبة التراب الوطني في المدينة ال«دي إس تي»، في حي «الشميط»، بعدما قام شاب في العشرينات في عمره بطعن شاب آخر يعمل جنديا في صدره، فلفظ أنفاسه في المستشفى الإقليمي لبوعرفة. كما أصيب صديق له إصابات بليغة، إثر تلقيه طعنات بدوره، وهناك حديث عن أن الشباب الثلاثة كانوا يعاقرون الخمر. وقد عرف الحي نفسه جريمة قتل يوم 12 يوليوز ذهب ضحيتَها شاب يعمل في المهجر، بينما الجاني من ذوي السوابق، إذ سبق أن قضى عقوبة حبسية، بعد ارتكابه جريمة الاعتداء على فتاتين بواسطة السلاح الأبيض، وكان مبحوثا عنه، على خلفية عدة جرائم، من بينها الاعتداء على سائق طاكسي صغير، ليلا، بواسطة السلاح الأبيض، من أجل سرقة ما بحوزته من نقود، وكان القاتل مخدرا بالأقراص المهلوسة.