«عمدة طنجة استقال».. هذا خبر لم يكن يتوقعه أحد، لكنه حدث، وأجمل الأخبار هي أخبار الاستقالات، لأنها تعطي الانطباع بأنه لا يزال هناك أمل. قبل أن يستقيل عمدة طنجة، كان هناك خبر جميل آخر، خبر من عالم الكرة، حين نزع حارس مرمى فريق الجيش الملكي قميصه وغادر الملعب بعد أن أحس بأن أخطاءه أصبحت تتكرر، فبعد خطئه الأول عندما بادر إلى تحية الجمهور بينما الكرة تتهادى نحو مرماه مثل عروس في ليلة الدّخلة، وبعد ارتكابه لخطإ ثان في مباراة أخرى، قال إنه سيعتزل. ورغم أنه لم يعتزل فعلا، فإن قراره من حيث المبدأ درس كبير للسياسيين ومختلف المسؤولين في مختلف القطاعات. المسؤولون المغاربة يعانون من صعوبة كبيرة في التعامل مع كلمة اسمها الاستقالة. وفي تاريخ المغرب، يندر العثور على أمثلة لسياسيين أو مسؤولين حزبيين أو صانعي القرار أو رؤساء قطاعات اقتصادية عمومية أو خاصة بادروا إلى تقديم استقالاتهم ومغادرة مناصبهم عن طواعية واقتناع لأنهم لم ينجحوا في مهامهم. وإذا تم العثور على بعض النماذج فهي تتم إما تحت الضغط والإكراه أو لأن صاحبها جمع كل ما يمكن جمعه وخاف أن يفتضح أمره فقرر المغادرة سالما. في البلدان الديمقراطية تعتبر أخبار الاستقالات وجبة يومية يقرؤها الناس في الصحف ويطالعونها في نشرات الأخبار. لذلك من الطبيعي أن يتعامل الناس هناك مع الاستقالة كحالة طبيعية جدا ولا تقود نحو مصالح المستعجلات أو تتسبب في عقد نفسية أو أزمات قلبية. في المغرب، يصل مسؤولون سياسيون فاسدون إلى سن التقاعد ثم يبحثون عمن يتوسط لهم لكي يستمروا في مناصبهم سنوات طويلة أخرى، وعوض أن يستمتعوا ببعض الذي نهبوه في ما تبقى لهم من حياة، فإنهم يستمرون في ممارسة هواية النهب حتى يجدوا أنفسهم بين أسئلة منكر ونكير.. ويا له من مصير. الاستقالة هي أيضا من صميم الديمقراطية، والبلد الذي لا توجد فيه استقالات كثيرة لا يعتبر بلدا ديمقراطيا. ففي إسبانيا المجاورة لنا، يندر أن يمر يوم من دون أن يقرأ الناس أخبار استقالات هنا وهناك، من أصغر المسؤولين حتى كبار دهاقنة السياسة والأحزاب والنقابات والجيش والمؤسسات الخاصة والعامة. الرعب من الاستقالة يتفشى أيضا حتى داخل الأحزاب السياسية المغربية، ونادرون هم قادة الأحزاب الذين قرروا الانسحاب من مناصبهم، أما الديمقراطية التي ينادون بها والحديث الكثير عن التداول على السلطة فينطبق على الآخرين فقط، فكل زعيم حزب هو ملك في حزبه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. في البلدان الديمقراطية يعتزل السياسيون في زمن مبكر حتى يتركوا مناصبهم لشباب أكثر موهبة ونشاطا. ففي إسبانيا، مثلا، وصل خوسي لويس ثباتيرو إلى رئاسة الحزب الاشتراكي العمالي وهو في الخامسة والثلاثين، وعندما صار في الأربعين كان على رأس الحكومة، وهو يعد لتقاعده في الخمسين، أما عندنا فإن السياسي الذي وصل إلى الخمسين يكون قد خرج للتو من شبيبة الحزب، أو يعتبر نفسه في بداية العمل السياسي، وهو شيء طبيعي لأن التقاليد السياسية في المغرب تبرز دائما أن السياسي المحنك هو الذي ترهلت أوداجه وصار منحني الظهر وينتظر عزرائيل في أي وقت. المغرب كان يوصف دائما بكونه بلدا شابا، ومع ذلك يتشبث المسؤولون بمناصبهم كما يتشبث البرغوث الظمآن بعرق دم. وفي الوقت الذي يعاني فيه مئات الآلاف من الشباب من البطالة والإحباط، فإن مسؤولين كثيرين يجلسون على كراسي المسؤولية ولا يجدون من يزحزحهم منها. والأكثر خطورة هو أن المغرب لن يبقى بلدا شابا لسنوات طويلة، بل سيتحول في وقت قريب إلى بلد به عدد كبير من الشيوخ والعجزة، وسنكون وقتها في حاجة إلى كثير من العقول والسواعد الشابة، لكننا لن نجد سوى الكثير من الشيوخ ينظرون إلى بعضهم البعض ويتحسرون على زمن مضى، وسنجد قطار الحياة فاتنا كشعب وليس كأفراد، وعند ذاك سنصرخ كما صرخ الشاعر يوما: ألا ليت الشباب يعود يوما..