منذ عدة عقود ونحن نسمع عن دعوات رسمية ومجتمعية إلى ضرورة تقريب المذاهب الإسلامية في ما بين بعضها البعض. ولا يمرّ عقد إلا ويكتشف أحدهم أن الخلافات المذهبية الإسلامية قد تطورت لتكون فجيعة طائفية مبتذلة ولتصبح من أهم الأدوات التي يستعملها بعض ساسة الحكم والمجتمع وتستعملها بعض الجهات الخارجية، من مثل قوى الاستعمار الغربي أو القوى الصهيونية العالمية، لتمزيق المجتمع العربي وتأجيل نهضته. ولا يحتاج الإنسان إلى الإتيان بأمثلة تاريخية، إذ يمثل أمامنا اليوم مرض الهوس الطائفي السّياسي البحت وهو ينتشر باسم مذهبي السنّة والشيعة ويهدّد العلاقات بين الدول والمجتمعات والأفراد. لكن أصحاب النوايا الطيّبة من الذين يطرحون موضوع التقريب بين المذاهب الإسلامية يحتاجون إلى أن يواجهوا علامات استفهام يطرحها الكثيرون، وتجمل في الآتي: أولا: هل يمكن تقريب المذاهب دون أن تسبق ذلك تنقية وتصحيح وإعادة تنظيم حقلي الأحاديث النبوية والاجتهادات الفقهية؟ فالمكتبة العربية كانت ولا تزال، خصوصا في أيامنا الحالية، تزخر بأبحاث وكتابات نقدية رصينة لتاريخ مسيرة الحقلين المذكورين، وللأسس النظرية المعرفية التي قاما عليها، وللأدوات والصّيغ التنظيمية التي استعملت لوضعهما في إطارين متماسكين. كما أن هناك ملاحظات على مدى صدقيّة وموضوعية وعلم بعض الأشخاص الذين تعاملوا مع هذين الحقلين عبر شتّى العصور. ثمّ إن هناك ملاحظات على الجوانب والإحالات التاريخية التي اعتمد عليها حقلا جمع وتوثيق الأحاديث، من جهة، واستنباطات واستنتاجات الفقه، من جهة ثانية. ثانيا: وماذا عن الإشكالية المتعلقة بطبيعة ونوع وتنظيم العلاقة بين ما جاء في القرآن الكريم، من جهة، وما جاء في الأحاديث النبوية وإملاءات وكتابات الفقهاء، من جهة ثانية ؟ فمثلا، كيف ستواجه إشكالية إصرار البعض على المساواة بين الأحاديث النبوية، مع ما فيها من مشاكل الإسناد والمتن المعقدّة الكثيرة، وبين القرآن الكريم على أساس أن كليهما من وحي الله سبحانه؟ ولا ننسى أن دعاة المساواة لم يقبلوا فقط بنسخ القرآن لنفسه فقط وإنمّا قد قبلوا بنسخ بعض ما جاء في القرآن الكريم من قبل بعض ما حدّث به المحدِّثون، وهذا موضوع يحتاج إلى حلّ أو تفسير مقبول. ثالثا: فإذا أضيفت إلى ذلك مواضيع، من مثل الأحاديث الأحادية وتداخل الأحاديث مع الصّراعات السياسية الدنيويّة البحتة والحاجة إلى إعادة كتابة بعض فصول التاريخ العربي والإسلامي وكثرة الجهات المتنافسة والمتصارعة المسؤولة عن ضبط الشّطط في الحقلين المذكورين، فإنه يتبيّن مقدار حجم وتعقّد موضوع التقريب بين المذاهب. ومع ذلك، فالتقريب ممكن وضروري، ولكنه سيحتاج إلى الاقتراب منه بصورة مدروسة وصحيحة وتراكمية بدلا من الصورة العشوائية التي سارت عليها المحاولات حتى الآن. رابعا: إذا كان التقريب سيعتمد فقط على رجالات وعلماء الفقه، فإنه يمكن أن يتعثّر. إنه سيحتاج أيضا إلى حضور علماء التاريخ والدّيانات المقارنة واللّغة وعلوم الآثار والأنثروبولوجيا والاجتماع والفلسفة. إن هؤلاء سيساعدون على تسليط الأضواء على كثير من الجوانب الإشكالية أثناء النقاش والتمحيص. خامسا: إن هذا المجهود سيحتاج إلى أن يكون عبارة عن سيرورة نقاشية بحثية عبر زمن مفتوح. إنها ستحتاج أن تتّصف بالاستقلالية عن السلطات السياسية والدينية، وبفضاء واسع من الحرية الأكاديمية والفكرية، وبشفافية منفتحة على المجتمع كلّه، وأن تقوم على مؤسّسية ديمقراطية مستمرة وغير موسمية. وستحتاج، من الناحية المادية، إلى وقفيّة مجتمعية ورسمية غير مشروطة بأيّ شروط. وكالعادة، لا بدّ أن تنطلق في بدايتها بجهود مجموعة مهتمة ومتحمّسة ومضحيّة وغير منحازة ومنفتحة على المجتمع كلّه. إن تاريخ مسيرة الدين الإسلامي الحنيف ووضعه الحالي مبتليان بانتهازية وبلادات وجهالات بعض المنتمين إلى هذا الدين. وبسبب غياب مرجعية كبرى تصحّح ما شاب ولا يزال يشوب تلك المسيرة، تنتشر الفوضى الفقهية ويكثر المتنطّعون الطفيليون وتزداد هجمات الأعداء ويغوص المسلمون في وحل التخلّف والهوان وتغلّب الهوامش وشلل الإرادة. إن إلقاء نظرة واحدة على مخازي بعض المحطات الهوائية الدينية يري سوء الحال الذي وصلنا إليه ويشرح بالصورة والصوت ما شرحناه باختصار شديد. والجواب عن كل ذلك ليس صدور كتاب إصلاحي معقول بين الحين والآخر، وليس وجود محطة تلفزيونية متوازنة من بين مئات مجنونة، وليس انعقاد مؤتمر ثقافي إسلامي رسمي بين الحين والآخر. إن الجواب سيحتاج إلى أن يقوم على خطوة تاريخية كبرى ليخرج العباد من التّيه والدّوران العبثي الذي طال عليه الأمد.