يقفون أمام واجهات تلك المحلات التي تعرض المجوهرات و الحلي المصنوعة من الذهب بعناية فائقة، بعضهم دفعه الفضول فقط والرغبة في جس نبض السوق ، وآخرون يسعون إليه من أجل الفوز بخاتم أو دملج كي يقوموا بواجب لا مفر منه. المشاهد ذاتها تتكرر في قيسارية الفتح بالحفاري وقيسارية الحي المحمدي بالعاصمة الاقتصادية، التي تشير التقديرات إلى أنها تضم حوالي 60 في المائة من الصناع و التجار.ويؤكد أحد التجار أن شراء المجوهرات والحلي المصنوعة من الذهب لم يعد هاجسا لدى الأسر المغربية، كي تستعمل للزينة وتلجأ إلى بيعها عندما تقتضي الضرورة ذلك، فمقولة «الذهب زينة وخزينة» فقدت الكثير من معناها اليوم. وهو يلاحظ أن من يقصدون، في غالب الأحيان، سوق الذهب، هم أولئك الذين عقدوا العزم على الزواج. ويؤكد سعد كمار، التاجر بقيسارية الحي المحمدي والعضو بغرفة التجارة و الصناعة والخدمات بالدارالبيضاء، أن ارتفاع سعر الذهب لا يعني أن ثمة طلبا كبيرا عليه، فقانون العرض والطلب لا يشتغل بكامل طاقته هنا، وهو يميل إلى اعتبار أن حمى اشتعال أسعار الذهب في العالم طالت عدواها أسعار المجوهرات المصنوعة من المعدن الأصفر بالمغرب. ويبدو أن لا شيء سيوقف انفجار أسعار الذهب في القريب العاجل، فقبل ثلاث سنوات فوجئ متتبعو أحوال أسواق الذهب في المغرب بالقفزة الكبيرة التي عرفها سعر الذهب الذي تراوح بين 170 درهما و210 درهما للغرام الواحد، بعدما كان يتراوح بين 105 دراهم و135 درهما للغرام أربع سنوات قبل ذلك. حمى الارتفاع ألمت بسعر الذهب و لم تنخفض، ليصل سعر الغرام الواحد في الفترة الأخيرة إلى 280 درهما للغرام الواحد. أسعار يفترض أن تسعد التجار، لكن يبدو أنها كانت سببا في ركود، كما يوضح ذلك كرومي المختار، أمين سوق الفتح بالحفاري، ما فتئوا يشتكون منه، ويحلمون باليوم الذي تعود فيها الأسعار إلى رشدها.
حمى الأسعار
ارتفاع أسعار الذهب ليس دليلا على وجود رواج تجاري كبير، فالآراء التي استقيناها من سوقي الحي المحمدي والفتح بقيسارية الحفاري بالدارالبيضاء تشير إلى أن ثمة ركودا تجاريا كبيرا، انعكس على رقم المعاملات، الذي يعتبره كمار تراجع بحوالي 75 في المائة، فهو يؤكد أن القفزات المتتالية للذهب لا يبررها قانون العرض والطلب. غير أن الدفع بتراجع حجم المبيعات قول لا يقنع الإدارة العامة للضريبة، التي يبدو أنها تعتبر أن تجارة الذهب تدر على مزاوليها الكثير من المال في السنوات الأخيرة، لذلك لا تقنع بما يؤدونه من ضريبة على الدخل على أساس جزافي، فتلجأ إلى محاولة رفعها عبر المراجعات الضريبية، لكن تجار الذهب يدفعون بأن ارتفاع سعر الذهب لا يعني أنهم يجنون أرباحا كبيرة عن نشاطهم ذاك، فهم يعتبرون أن الأسر المغربية كفت عن الادخار في الذهب، على اعتبار أنها في السنوات الأخيرة أصبحت توجه مجهودها من أجل الوفاء بما في ذمتها تجاه الأبناك، خاصة في ظل غلاء مستوى المعيشة، و حصولها على قروض من أجل تمويل السكن، و انفتاحها الكبير على قروض الاستهلاك، بل إن فصل الصيف الذي كان يعول عليه التجار من أجل رفع حرارة الرفع ما عادوا يراهنون عليه كثيرا، خاصة أنه أصبح يتزامن مع العديد من المناسبات التي تأتي على مدخرات الأسر المغربية. لكن ما الذي يرفع أسعار الذهب في المغرب؟ يميل بعض التجار إلى أن ذلك الارتفاع له علاقة بالأسعار الدولية، وإن كان ذلك التأثير نفسيا، لكن ما يرفع سعر الذهب، في المغرب، حسب بعض التجار، هو لجوء الأسر في السنوات الأخيرة إلى الاستفادة مما ادخرته من ذهب، إذ يمكنها القيام بعمليات بيع بأضعاف السعر الذي اقتنته به. تلك فرصة للربح بالنسبة للأسر التي ادخرت الذهب، علما أن بعض التجار يؤكدون أن الأسر أضحت تشتري المجوهرات و الحلي للزينة فقط، بعدما كف عن أن يصبح خزينة لدى العديد من الأسر المغربية، لكن ثمة من يذهب إلى أن التجار يحاولون الحفاظ على أسعار الذهب في مستوى قريب من الأسعار الدولية، يحركهم في مسعاهم ذاك هاجس محاربة تهريب الذهب إلى الخارج في حال لم تكن الأسعار مجزية. أسعار الذهب في السوق الدولية دفعت إلى شيوع أخبار عن اكتشاف البعض مزايا التصدير، غير أن العديد من التجار يؤكدون أن تلك إشاعة و لا شيء يؤكدها. وبعض التجار يميلون، في ظل حالة الركود التي تميز نشاطهم، إلى بيع الذهب بالتقسيط، حيث يتوصلون بدفعات على مدى شهور. ذلك تقليد معروف في المغرب ترسخه الثقة بين التاجر والزبون، لكن يبدو أن العديد من التجار يقبلون بالتقسيط على مضض في الظروف الحالية، فهم قد يبيعون بسعر اليوم، لكن بعد أيام يرتفع السعر بقوة، فيكونون ملزمين بالسعر السابق و لا يستطيعون إعادة النظر فيه.
المادة الخام
يوفر الحرفيون التقليديون أغلب حاجيات السوق المغربية، فالذهب الخام، الذي يستخدم في صناعة المجوهرات و الحلي بالمغرب مصدره المجوهرات و الحلي المستعملة أو القديمة التي شابها عيب من العيوب، حيث تساهم بحوالي 80 في المائة من صناعة المجوهرات، وهذا يدفع بعض التجار إلى التأكيد على أن ثمة فرقا بين السعر العالمي و السعر المحلي، يصل في الفترة الحالية إلى 45 درهما. وكي تتعرف على سعر الذهب في المغرب يمكن التوجه إلى قيسارية الحفاري في قلب درب السلطان بالدارالبيضاء، التي يتحدث عنها أصحاب المحلات بالكثير من الفخر، حيث يعدونها «البورصة» التي يوجه إليها جميع التجار والحرفيين أعينهم كي يعرفوا السعر اليومي للذهب في المغرب. ففي تلك القيسارية، كما في قيساريات أخرى عبر المغرب، يقتني التجار الذهب المستعمل أو الذي شابه عيب من العيوب بسعر يقل عن سعر ، حيث يراكمونه إلى أن تتوفر كمية كافية لعرضها للبيع، لتنطلق عملية «الدلالة» على ما يعرف في ب «الشظايا» أو la casse التي يتولاها في قيسارية الفتح بالحفاري عشرة أشخاص. إذ بعد شراء تلك المجوهرات يعاد بيعها إذا كانت سليمة وذات قيمة فنية، مما يمكن أن يمنحها سعرا كبيرا، أو تحال على الصناع إذا شاب المجوهرات والحلي عيب، فيتم تذويبها وصهرها، لتتخذ شكل سبائك، تعرض قبل أن تستعمل في صناعة المجوهرات، وتوجه إلى «الذواق»، الذي يتولى فحصها و التأكد من مدى مطابقتها لمعايير العيار المعمول به في المغرب، حيث يحرص على التيقن من توفر نسبة 75 في المائة من الذهب الخالص في كل سبيكة، فهو قد يجيزها إذا ما طابقت ذلك الشرط أو يوصي بإعادة تذويبها وإدخال تعديل على تركيبتها حتى توافق العيار المعمول به في المغرب، الذي اختار عيار 18، الذي يقتضي أن يتوفر الذهب في المغرب على 75 في المائة من الذهب الخالص و 25 في المائة من الفضة و المزيج الأبيض أو الأحمر أو الأصفر.
سوق سوداء
لكن لا يسلم الذهب من جشع الذين ينشطون سوقه السوداء. سوق ينشط فيها أولئك الذين يحاولون الالتفاف على المعايير الجاري بها العمل في المغرب، و هذا ما يجعل من الصعب الإحاطة بشكل دقيق بحجم الذهب الرائج في البلد، إذ ذهبت بعض التقديرات إلى أن حجم الذهب، الذي يتداول سنويا في السوق المغربية، يكون في حدود 18 طنا، غير أن هذا الرقم يبقى بعيدا عن الحقيقة في نظر العديدين، لأن أي رقم يمكن الدفع به لن يشمل المعدن النفيس الذي يتم تهريبه عبر الحدود دون التصريح به لدى مصالح الجمارك المعنية، والتي تقوم بمصادرة الذهب المهرب وبيعه، و ما حدث قبل ثمان سنوات، حين قامت مصالح الجمارك بميناء الناظور بعمليات مصادرة همت خلال أسابيع قليلة أكثر من طن من سبائك الذهب بقيمة مائة مليون، مازال ماثلا في الأذهان. تلك العمليات فضحت شيوع تهريب الذهب من أوروبا و بعض بلدان الخليج. لكن الذهب لا يتعرض للتهريب فقط، بل يكون موضوعا للغش، ففي قطاع المجوهرات يحاول البعض تفادي التقيد بالإجراء الذي يقتضي الحصول على دمغة إدارة الجمارك، و يشير العديدون إلى سيادة تزوير ختم الإدارة الجمركية Poinçon من قبل بعض المشتغلين في القطاع، فذلك الختم الذي يعرف لدى الحرفيين ب «المسمار»، و الذي تحصل عليه إدارة الجمارك من إدارة النقد و الميداليات بفرنسا، أصبح هدفا للتقليد من قبل بعض الحرفيين، الذين يسعون إلى تفادي اللجوء لإدارة الجمارك، التي تحصل على مقابل في حدود درهم واحد لقاء إنجازها عملية فحص الذهب و التأكد من مدى مطابقته للعيار المعمول به في المغرب، حيث يترتب عن ذلك وضع الدمغة أو منعها عن طالبها، بل إن إدارة الجمارك تتولى اقتطاع أربعة دراهم برسم الضريبة على القيمة المضافة عن كل غرام من الذهب، لكن في بعض الأحيان لا يقتصر الأمر على تقليد ختم إدارة الجمارك، بل يتعداه إلى صنع قالب مطابق لمنتوج أصلي عليه الدمعة القانونية، و العمل على صنع مجوهرات أخرى لا تحترم المعيار المعمول به في المغرب.
إفلاس حمى ارتفاع أسعار الذهب لم تنعكس إيجابا على الصناع، فبعض التجار ينبهون إلى إفلاس العديد من الصناع التقليديين، خاصة أولئك الذين تمسكوا بقواعد «الصنعة» الصارم، حيث لا يمكنهم الصمود أمام التحولات التي تعرفها و سلوك سبيل الغش الذي انتشر مع بروز بعض الحرفيين المعروفين ب«موالين الشكارة»، الذين يبحثون عن توسيع هوامش الربح. الكثير من هؤلاء الحرفيين اضطروا إلى التحول إلى مهن أخرى، بعضهم فتح محلات للبقالة وبعضهم التجأ إلى سياقة الطاكسي بعد أن لم يعودوا قادرين على تأمين قوتهم من تصنيع الذهب. لكن في ظل عدم تفكير من يهمهم الأمر في تأهيل القطاع والرقي بالوضعية الاجتماعية للحرفيين التقليديين، الذين يؤبدون حرفة يتميز بها المغرب، خاصة عبر النقوش والأشكال التي تتخذها المجوهرات و الحلي، التي ينفرد بها الصناع المغاربة، يحذر بعض التجار من التداعيات السلبية للتخلي عن التقاليد الحرفية التي رسختها أجيال من الصناع التقليديين، خاصة إذا ما توسع مجال الصناعة العصرية للمجوهرات، حيث يمكن أن يؤذن ذلك بزوال معقل صناعة الذهب في المغرب لفائدة نوع من الصناعة العصرية، التي قد تتحكم في سوق الحلي و المجوهرات بشكل مخيف، لكن هذا لا يمنع بعض التجار في أسواق الدارالبيضاء من التذكير بأن العديد من الذين صادفوا نجاحا كبيرا بعد أن اختاروا التجديد في صناعة الذهب مروا بتلك الأسواق القديمة التي تؤثث مراكز أغلب المدن المغربية.
سوق الذهب يعتبر البعض أن وجود مقصورة للذهب سوف يساعد بورصة الدارالبيضاء على تنفس الصعداء. وهذا الرأي يعتبر أن وجود مقصورة للذهب قد يفتح المجال أمام الاستفادة من الأموال النائمة في المغرب، على اعتبار أن الناس سوف يستثمرون في منتوج يتوفر على هوامش كبيرة للنمو.يلاحظ هذا الرأي أنه لا يوجد سوق للذهب في البلد، ولا يمكن شراء سهم للذهب في البورصة، باستثناء مناجم التي لا تعتبر سهما ذهبيا خالصا. وهذا ما يبرر الرأي القائل بأن عدم وجود منتوج للذهب، يعني انعدام الأمان في ذلك، و هذا ما يتنافي مع الاتجاه في أغلب الأسواق المالية العالمية، التي تتوفر على سوق للذهب، لأنه مصدر أمن بالنسبة للمستثمرين. والحال أن المستثمرين المؤسساتيين والخواص لا يمكنهم الاستثمار في الذهب في المغرب، علما أن المستثمرين يجب أن يتوفروا، حسب هذا الرأي، على بدائل للاستثمار تشكل ملاذا آمنا بالنسبة لهم ضد تقلبات الظرفية التي تذكيها الأزمات.ويعتبر هذا الرأي أن لجوء الفرد إلى شراء الذهب يمكن أن يخفف من الإفراط في الاستثمار في العقار، خاصة أن الصناعة فقدت الكثير من تنافسيتها مقارنة بما حققته بلدان صاعدة أخرى، و بالتالي كي يتمكن المغاربة من الاستثمار هم في حاجة إلى بديل صلب وذي مصداقية، يوفر لهم مردودية كبيرة. لكن في مقابل هذا الرأي الداعم لإحداث بورصة بالدارالبيضاء مخصصة للذهب، يشير أحد المحللين الماليين بالدارالبيضاء إلى أنه لا يمكن خلق تلك السوق إذا لم تنضج الشروط لذلك، خاصة في ظل سيادة القطاع غير المهيكل في المغرب، حيث يفضل العديدون أن يكون تعاملهم بعيدا عن مقتضيات الشفافية، التي يفرضها سوق للذهب، وهذا المحلل يذكر أنه كان ثمة سوق للذهب ببورصة الدارالبيضاء، لكن تم التخلي عنه منذ أكثر من عشر سنوات.