تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. عند المنعرجات القليلة المؤدية إلى عين عودة، على الطريق بين الرباط وبلدة الرماني، استوى قصر فخم لا تظهر منه إلا بوابته العالية، فيما يغيب النظر في الحد من مساحته الشاسعة المسيجة بالأسلاك والأضواء. في ذلك المكان الذي لا يبعد كثيرا عن بحيرة متدفقة في اتجاه الشرق، كان يقيم وزير أول اسمه الدكتور عز الدين العراقي، الذي عرف بالتدريس في كلية الطب في الرباط أكثر منه وزيرا للتربية الوطنية، غير أن اسمه سيرتبط بصدور مذكرة أثارت لغطا كبيرا حول منع الموظفين العاملين في أسلاك القطاع العام من متابعة الدراسة إلا وفق شروط محددة، اعتبرت مجحفة حينها. تدرجه في مهام رسمية سيبدأ منذ عام 1958 حين اختاره الاستقلالي الحاج عمر بن عبد الجليل مدير ديوانه في وزارة التربية الوطنية في حكومة الحاج أحمد بلافريج، ثم مدير ديوان لوزير الصحة عبد المالك فرج، قبل أن يتولى إدارة مستشفى ابن سينا في الرباط في أواخر ستينيات القرن الماضي وأستاذ كرسي في كلية الطب. على صعيد الانتماء السياسي، ظل عضوا في حزب الاستقلال وأصبح من أبرز قادة اللجنة التنفيذية، مما أهله لتولي وزارة التربية الوطنية في حكومة الوزير الأول أحمد عصمان إلى جانب رفاقه في الحزب، الذين استمروا في مناصبهم في عهد حكومة المعطي بوعبيد. لم يكن عز الدين العراقي وحده استثناء في الانقلاب على حزبه، حين احتفظ بمنصبه في الحكومات التي تلت مغادرة الاستقلاليين الحكومة في عام 1985، نتيجة رفضهم استئثار «الاتحاد الدستوري» بمقدمة الترتيب في انتخابات 1984، فقد سبقته إلى ذلك شخصيات عدة، فقد انشق كل من عبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة عن حزب الشورى والاستقلال، وساندا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن ينتقلا إلى تحمل مسؤوليات في الحكومات المتعاقبة، ثم مستشارين لدى الملك الراحل الحسن الثاني، كما ألغى كل من المعطي بوعبيد وعبد اللطيف السملالي ارتباطات سابقة بالاتحاد الوطني، وأصبحا وزيرين، كذلك فعل عبد القادر الصحراوي وأحمد بلحاج والطيب بن الشيخ والراشدي الغزواني وآخرون، مع اختلاف الانتماءات وتلاقٍ تحت قبة الجهاز التنفيذي. عندما غادر الاستقلاليون الحكومة، اكتفوا بإصدار بيان حول وضعية الدكتور عز الدين العراقي، يشير إلى قطع صلات الحزب معه، لكن بعد مرور حوالي عام على تشكيل حكومة برئاسة محمد كريم العمراني، سيتم تعيينه نائبا للوزير الأول بنفس الصلاحيات التي يملكها الوزير الأول، في حال أعاقته ظروف عن ممارسة اختصاصاته. هل كان استمراره في الحكومة مؤشرا على احتمالات توليه قيادة الجهاز التنفيذي، بالنظر إلى التجربة السابقة التي جاءت بشخصية سابقة في الاتحاد الوطني، كما في تجربة المعطي بوعبيد، أم أن تطورات سياسية حتمت احتفاظه بمنصبه نكاية في قيادة حزب الاستقلال الذي رفض الإذعان لمنطق الأمر الواقع؟ المعروف عن الملك الراحل الحسن الثاني أنه كان يرتاح إلى مثل هذا الاستقطاب الذي يأتي من داخل عالم معارضيه، فقد كان يرى أن المعارضة موجهة أصلا ضد الحكومة وليس ضد النظام، ومن أجل التخفيف من وطأتها، كان يميل إلى إشراك الشخصيات المعارضة في الحكومة، إن لم يكن من أجل المساهمة في تدبير الشأن الحكومي، حين يتعذر ذلك، فمن أجل المشاركة مثلا في الإشراف على نزاهة الانتخابات، كما فعل حين عين زعماء الأحزاب السياسية في مناصب وزراء دولة قبل انتخابات 1984، حين اصطف عبد الرحيم بوعبيد إلى جانب محمد بوستة والمحجوبي احرضان وأحمد عصمان ومحمد أرسلان الجديدي في موقع واحد كوزراء دولة بلا حقائب، واختيرت بناية البرلمان مقرا مؤقتا لوزارات مؤقتة، كما شارك عبد الواحد الراضي من الاتحاد الاشتراكي في حكومة محمد كريم العمراني كوزير مكلف بالتعاون. لم يكن عز الدين العراقي معارضا، لكنه كان عضوا قياديا في حزب الاستقلال، وقد يكون الحسن الثاني أبقاه في منصبه الوزاري لاعتبارات لا تهم بالضرورة تنفيذ برنامج محدد في قطاع التعليم، الذي شهد على عهده مزيدا من التذبذب في الخيارات، ولكن من أجل ترسيخ فكرة أن بالإمكان اختيار وزراء الحكومة، حتى من داخل الأحزاب التي تمارس المعارضة، بل إن عز الدين العراقي لم يشارك في موجة الاحتجاج التي أطلقها بعض قياديي الحزب ضد انتخابات 1984، وثمة من يذهب إلى أنه غاب عن وفد حزبي اجتمع مع الملك الحسن الثاني، على خلفية تلك القضية، وأن هناك من يرجح أن خدماته الطبية أبقت على عطف خاص تجاهه. يوم غادر حزب الاستقلال الحكومة، لم يكن واردا أنه سيلتقي في منتصف الطريق مع حليفه الجديد الاتحاد الاشتراكي، فقد انفجرت تناقضات كبيرة بين الحزبين عندما كان الاستقلاليون في الحكومة وبعض قادة الاتحاد الاشتراكي في السجن، وجرت بين الإخوة الأعداء جولات صراع في البرلمان وعلى صعيد توجيه العمل النقابي، غير أن إشارة ذكية من الملك الراحل الحسن الثاني أطلقها على متن الباخرة التي كانت تقله في طريق العودة من زيارة إلى الجزائر، تلقفها رفاق الأمس وشجعتهم على إعادة عقارب الساعة إلى فترة التنسيق والوفاق. سينفتح باب مشرع أمام المعارضة، خصوصا حين أدركت أن بإمكانها أن تخوض تصعيدا مفتوحا في مواجهة الحكومة، فقد نقل عن الحسن الثاني قوله حين تناهى إلى علمه أن المعارضة بصدد التفكير في وضع ملتمس رقابة لإسقاط حكومة عز الدين العراقي، إن الدستور وجد من أجل تنفيذ كافة بنوده، وإن استخدام الفصل الذي يتيح للبرلمان سحب الثقة من الحكومة عند توفر النصاب القانوني ليس محظورا، بل إنه مستحب لإبراز الطابع الديمقراطي للصراع. بعد أن كان الدكتور عبد اللطيف الفيلالي يشغل مهام وزارتي الخارجية والإعلام منذ أبريل 1985، بعد إقالة الدكتور عبد الواحد بلقزيز من رئاسة الدبلوماسية المغربية، وهو في طريقه من مراكش إلى الرباط، على إثر ارتباك طال ملف الصحراء في علاقته مع إحدى الدول الإفريقية، ستنطبع فترة تولي الدكتور عز الدين العراقي منصب الوزير الأول بانتقال قطاع الإعلام إلى حضن الداخلية على عهد إدريس البصري وزير الدولة آنذاك منذ أبريل 1986. كان الفيلالي قد استلم حقيبة الإعلام بعد فترة تولى فيها المسؤولية الدكتور عبد الواحد بلقزيز حين جمع بين الشبيبة والرياضة والإعلام، لكنه خلف محمد بوستة في الخارجية، ثم ابتعد عن الأضواء قبل أن تعهد إليه مهمة الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهي المهمة التي سيتقلدها لاحقا الدكتور عز الدين العراقي بعد مغادرته الوزارة الأولى، وسيكون حظ وزير إعلام آخر، هو عبد الهادي بوطالب، أن يرأس المنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم (الإيسيسكو). لم تدم فترة عبد اللطيف الجواهري، وزيرا للمالية، طويلا، فقد حدث تغيير في القطاع أسندت بموجبه وزارة المالية إلى محمد برادة، في فترة تم خلالها، للمرة الأولى، سريان مفعول الضريبة على القيمة المضافة، وبدأ نقاش ساخن حول الخوصصة، في ضوء توصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي برسم الهيكلة والبحث عن التوازن، وبذلك يمكن القول إن حكومة العراقي عرفت البدايات الحقيقية لهذا التوجه الذي تخلت فيه الدولة عن كثير من اختصاصاتها، وبدأ الشروع في تصفية معاقل القطاع العمومي وشبه العمومي لفائدة دور آخر محتمل للقطاع الخاص. سيتولى محمد الفيلالي وزارة التربية الوطنية، كما ستسند وزارة التجارة والصناعة إلى وجه آخر من الاتحاد الدستوري في شخص عبد الله أزماني، بعد إقالة الطاهر المصمودي من ذلك المنصب، وسيشغل الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان عبد السلام بركة، قبل أن يعين سفيرا للمغرب في مدريد، وسيظهر لاحقا منصب كاتب دولة مكلف بالشؤون المغاربية عهد إلى إدريس العلوي المدغري، في ضوء إبرام المعاهدة التأسيسية لاتحاد المغرب العربي في مراكش في فبراير 1989، وسيعود حسن أيوب، المسؤول السابق في وزارة التجارة، إلى معقله، وهذه المرة بصفته وزيرا. سيعين الدكتور عبد اللطيف الفيلالي، مرة أخرى، وزيرا للخارجية بصفة وزير دولة، كما سينتقل ادريس العلوي المدغري إلى وزارة الطاقة خلفا للوزير السابق محمد فتاح، وسيصبح رفيق الحداوي وزيرا منتدبا لشؤون الجالية المغربية في الخارج، وهو منصب أحدث للمرة الأولى، غير أن عبد الله القادري، الذي كان قد خلف موسى السعدي في وزارة السياحة لن تطول إقامته هناك، ليعود عبد القادر بن سليمان، السفير السابق للمغرب في ألمانيا، إلى قطاع السياحة، ثم سفيرا للمغرب في الجزائر، على خلفية تطبيع العلاقات على عهد الرئيس الجزائري الشاذلي بنجديد. وكما وقف الحاج أحمد أبا حنيني أمام البرلمان مدافعا عن الحكومة التي طالب الفريق النيابي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بإسقاطها في صيف 1964، سيضطر الوزير الأول عز الدين العراقي لمواجهة الموقف ذاته، وهذه المرة ليس من طرف نواب الاتحاد الاشتراكي فقط، وإنما بمشاركة الفريق النيابي لحزب الاستقلال الذي كان ينتمي إليه. من غريب الصدف أن النواب الاستقلاليين أمثال محمد الخليفة ومحمد الوفا وعبد الرزاق أفيلال وعبد الحق التازي سيواجهون الرجل الذي عاش بين أحضان حزبهم بأقصى درجات النقد، فقد قال الخليفة إن فريقه ضد الحكومة وضد سياستها «وهذا حق لنا وواجب علينا»، متهما حكومة العراقي بأنها «فاقدة للمصداقية»، في حين رأى استقلالي آخر هو عبد الرزاق أفيلال أن الحرية النقابية كانت شكلية، وأعطى مثالا على ذلك حين دعيت قيادات النقابة إلى حوار في يوم جمعة، قبل حلول موعد صلاة الجمعة، لتبرير ضيق الوقت، وانتقد الاستقلالي محمد الوفا مداخلات حكومة عز الدين العراقي كونها كانت خارج السياق، ولا يمكن تبرير استمرارها بمجرد التصويت على ملتمس الرقابة. وبذلك فقد كانت مداخلات الاستقلاليين موجهة أساسا ضد انتقادات المعارضة. ورد الوزير الأول بأن تقديم ملتمس الرقابة كان فرصة أمام الحكومة لإبراز ما حققته من منجزات وما قامت به من أعمال، وتحيز لجهة رفاقه السابقين في حزب الاستقلال قائلا: «لكننا في الأغلبية والمعارضة أبناء مدرسة وطنية واحدة»، التي قال إنها «علمتنا التمسك بالمبادئ والأخلاق الفاضلة». لم تسقط حكومة العراقي، التي ستعرف تصعيد المواجهة عبر الإضراب العام، وحين ذهب الوزير الأول إلى العراق للمشاركة في آخر قمة عربية استضافتها بغداد على عهد الرئيس السابق صدام حسين، جاء من يهمس في أذن الملك الحسن الثاني بذهاب وزير أول استطاعت حكومته بالكاد أن تحافظ على استمراريتها بعد طلب أحزاب المعارضة سحب الثقة منها، رد بالقول: إنها ضريبة الديمقراطية، بيد أنه بعد أقل من عامين سيرحل العراقي عن الوزارة الأولى ويخلفه مرة أخرى ابن فاس أيضا محمد كريم العمراني للمرة الأخيرة، قبل الانزواء بعيدا عن كراسي الحكومة. لم يكن العراقي يحبذ كثيرا الاتصال بالآخرين، فقد كان يفضل العزلة، وقد شوهد مرات عدة وهو يتناول عشاءه وحيدا، حين يكون باقي الوزراء مجتمعين على مائدة واحدة. وكان يملك في غضون ذلك شجاعة أن يخاطب الوزراء بأخطائهم، حتى لو تطلب الأمر فعل ذلك عن طريق الإيحاء بالنكتة التي قلما كان يلوذ إليها.