تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أومن خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. للمرة الأولى منذ إعلان حالة الاستثناء في عام 1965، سيلجأ الملك الراحل الحسن الثاني إلى تفويض جانب من صلاحياته الدستورية إلى الوزير الأول، في مناسبة تشكيل الحكومة الأولى، لرجل الأعمال محمد كريم العمراني في غشت 1971. من جهة، لأن تشكيلها جاء في أعقاب فشل المحاولة الانقلابية في الصخيرات وتوجيه الملك خطابا عرض فيه إلى ضرورات الإصلاح، في سياق توجهات انتقادية لها مدلولها. ومن جهة ثانية، لأنها لم تخضع لأي مشاورات حول البرنامج الذي تعتزم تنفيذه، باستثناء ما أقره الملك ضمن أجندة زمنية حددها في عام ونصف العام. وبذلك، فإن حكومة العمراني الأولى كانت أول حكومة طوقت بالتزامات محددة في سياق تاريخي محدد، وراعت في غضون ذلك ما اصطلح عليه بالكفاءات الشخصية وليس البرامج الحزبية. لكنها المرة الأولى في ما يبدو، التي تتشكل فيها حكومة يُعرف مسبقا أن مدة انتدابها ستكون محدودة وذات طابع انتقالي، سيما أنها جاءت في أعقاب التصديق على دستور 1970 الذي لم يحظ بالدعم السياسي الذي كان يعول عليه، بهدف القطع مع مرحلة حالة الاستثناء والدخول في منعطف التطبيع السياسي. يقول الحسن الثاني لدى إقرار تشكيل تلك الحكومة: «لقد وفقنا الله إلى اختيار عدد من الرجال ألفنا منهم حكومتنا، وتتوافر في هؤلاء الأفراد الذين آثرت عنهم مزايا القلب والعقل، كفايات وأهليات خليقة بأن يتم معهم إنجاز البرنامج الذي ألمحنا إليه»، وفي منطوق الكلام أن الاختيار وقع كذلك على أشخاص لم يكونوا بعيدين عن دواليب الحكم، خصوصا أن التشكيلة الوزارية ضمت الجنرال محمد أوفقير، الذي أصبح وزيرا للدفاع ورقي في غضون ذلك إلى رتبة ماجور عام للقوات المسلحة الملكية، فيما احتفظ الوزير الأول كريم العمراني بالتخطيط والشؤون الاقتصادية والمالية، بعد أن كان قد كلف بوزارة الاقتصاد قبل بضعة أشهر، كما تولى وزارة الداخلية أحمد بن بوشتى، وعين عبد اللطيف الفيلالي وزيرا للخارجية، بينما برز للمرة الأولى اسم الجنرال إدريس بنعمر كوزير للبريد، وأسندت الفلاحة إلى المعطي جوريو والأشغال العمومية إلى محمد البرنوصي. من الوجوه التي لفتت الانتباه في تلك الحكومة، يأتي النقابي محمد أرسلان الجديدي، الذي عين وزيرا للشغل والشؤون الاجتماعية والتنمية والرياضة، وكذلك الكاتب عبد القادر الصحراوي الذي انشق عن الاتحاد الوطني وأصبح وزيرا للأنباء. ومن الطرائف التي تحكى عن هذا الأخير، أنه قبل تعيينه كان يتردد على مبنى الإذاعة والتلفزة لتحصيل تعويضات زهيدة عن برنامج كان يعده للإذاعة، فأصبح المشرف الأول على قطاع الإعلام، وفي مقدمته، طبعا، الإذاعة والتلفزة ومكتب حقوق التأليف والمركز السينمائي المغربي الذي كان مديره السابق قد لقي حتفه بدوره في حادث الصخيرات، الراحل إدريس غنام. بيد أن محمد كريم العمراني سيكون الوزير الأول الذي عين مرات عديدة في نفس المنصب، وفي ظروف متقاربة ومتباعدة، لكنها تلتقي عند دوره كرجل مهمة لا تقاس بالسنوات التي يقضيها على رأس الوزارة، وإنما بالمعطيات التي حتمت إسناد المسؤولية إليه. الثابت أن تجربته على رأس المكتب الشريف للفوسفاط كانت في مقدمة العوامل التي أهلته لهذا الاختيار، بالنظر إلى المكانة التي يحتلها القطاع في النسيج الاقتصادي المغربي وفي ترجيح كفة الميزان التجاري، عدا أنه استخدم مرات عدة في ملفات سياسية، مثل تلك التي أطلق عليها صفقة القرن، يوم أبرم المغرب اتفاقا طويل المدى مع الاتحاد السوفياتي ذي الخيارات الإيديولوجية المتعارضة مع النهج الذي يسلكه المغرب، غير أن موقع المكتب الشريف للفوسفاط سيطيح ببعض الرجال الأقوياء، فقد أبرم أحدهم يوما اتفاقا مع دولة صديقة، ثم اكتشف الحسن الثاني أن مضمون ذلك الاتفاق ينص على سريان مفعوله «في ظل النظام الحالي أو عند تغييره» وقد غضب لغياب الحس السياسي عند ذلك المدير وأقاله من منصبه للتو. ما من شك في أن تجربته هذه على رأس المكتب الشريف للفوسفاط، الذي يشكل الدرع الاقتصادي للمغرب، هي التي أهلته لتولي منصب وزير الاقتصاد، عدا عن أنها فتحت المجال أمام تصور جديد في العمل الحكومي يقضي بإسناد المسؤوليات إلى رجال من القطاع الخاص تمكنوا من المضي قدما على درب النجاح، وإن كان يصعب الجزم بوجود قطاع خاص في تلك المرحلة بمعزل عن دعم الدولة، التي ستبرهن لاحقا أنها ساعدت في تكوين رأسمال وطني جديد، خصوصا بعد إقرار سياسة المغربة التي همت توزيع أراضي المعمرين الفرنسيين على الخواص، فيما احتفظت بأجود الأراضي الزراعية الخصبة ضمن القطاع العام، قبل أن تلجأ مرة أخرى إلى تفويتها بطرق أثارت الكثير من التساؤلات. لم يكن المغرب في مطلع سبعينيات القرن الماضي يعاني من أزمة اقتصادية أو مالية، فقد عرض الحسن الثاني مرات عدة تصورات حول تصريف موارد الدولة المالية، لكنه كان يعاني من أزمة سياسية، وبالتالي فقد جاء اختيار محمد كريم العمراني كرجل وسط بين السياسة والاقتصاد لإعداد الأجواء لتطبيع بطيء مع المعارضة، ولم يكن تقديم رؤوس ستة وزراء على الأقل ضمن محاكمة شهيرة للمسؤولين بتهم استغلال النفوذ وتبذير المال العام، إلا نموذجا لقرابين هدفها الإعلان أن لا مكان بعد اليوم للسكوت عن الفساد المالي الذي استشرى في الإدارة المغربية. ثمة من يذهب إلى أن الانتقادات التي وجهت إلى المغرب بسبب ضلوع بعض وزرائه في صفقات مشبوهة لاقتناء طائرات والاستيلاء على أراض بطرق غير مشروعة كانت وراء تفجير تلك المحاكمة، غير أن الإعلان رسميا عن المتابعة القضائية على عهد الوزير الأول كريم العمراني يؤشر على أن وجوده على رأس الحكومة كان مطلوبا لإضفاء بعد خاص على التجربة الجديدة، أقله على صعيد التدبير المالي، حيث تولى مصطفى فارس وزارة المالية قبل أن ينتقل لاحقا إلى إدارة البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، وإسناد قطاع الفلاحة إلى الوزير عبد اللطيف الغيساسي، وربما كان التركيز على الجانب الاقتصادي يراد منه إبعاد النظر عن حقيقة الأزمة السياسية. قبل انقضاء فترة العام ونصف العام التي كان قد حددها الملك الحسن الثاني كمهلة لحكومة العمراني لتقديم برنامج «جريء» في مباشرة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، بدأت بوادر انفتاح سياسي على الأحزاب المعارضة، وتحديدا في فبراير 1972 حين أعلن الحسن الثاني عزمه على إعادة النظر في دستور 1970، الذي وضع على قياس فترة الاستثناء، ولم يساعد في إنهائها دفعة واحدة، خصوصا في ضوء فشل التجربة البرلمانية التي قادها عبد الهادي بوطالب كرئيس للبرلمان، وكانت تتحدث بصوت واحد غابت عنه المعارضة. عندما شرع الملك الحسن الثاني في المشاورات مع الزعامات السياسية، خصوصا أعضاء الكتلة الوطنية، التي ضمت الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، كان ذلك يعني الاتجاه نحو فتح صفحة جديدة، وقد جاءت المبادرة من المراجع العليا من خلال الإعلان عن تعديل الدستور، لأنه لم يكن واردا بالنسبة للأحزاب التي صوتت ضده أو قاطعته أن تشارك في تجربة سياسية بنيت على أساسه، وبالتالي فإن الطابع الانتقالي لحكومة كريم العمراني كان واضحا، غير أن استمرارية تلك الحكومة ستتواصل بطرق أخرى بعد الهزة التي عرفها النظام في صيف 1972، من خلال إقدام وزير الدفاع الجنرال محمد أوفقير على محاولة إسقاط الطائرة التي كانت تقل الملك الحسن الثاني لدى عودته من زيارة خاصة إلى فرنسا. روى الحسن الثاني، في هذا الصدد، أنه أحس مع مرور الأيام أنه في كل مرة يحاول فتح صفحة جديدة مع المعارضة تحدث هزات عنيفة، بل إنه أوضح أن الجنرال أوفقير حين خاطبه، يوما، حول بدء مشاورات مع زعماء الحركة الوطنية المشاركة في حكومة وحدة وطنية، أجابه بأنه كان يجب عليه (أي الملك) أن يخبر مساعده أوفقير للاستعداد للرحيل، غير أن ما حدث هو أن الجنرال رحل هذه المرة قبل أن تكون المشاورات أثمرت تحولا في المسار السياسي، ولم يرحل وحيدا، وإنما لحقته تجربة بكاملها، وإن كانت تداعياتها أرجأت إشراك أحزاب المعارضة في تدبير الشأن العام لفترة زادت على العشرين عاما، إذ يعتقد أن حسابات حول الظروف التي شابت محاولات الجنرال محمد أوفقير للتنسيق مع بعض فصائل المعارضة في الانقلاب الثاني على النظام، ألقت بظلال من الشكوك على المواقف والنوايا. اللافت أن الحكومة الثانية لمحمد كريم العمراني تشكلت في أبريل 1972، وكان من بين التغييرات التي أدخلت عليها إعفاء الدكتور عبد اللطيف الفيلالي من وزارة الخارجية، التي أسندت إلى أحمد الطيبي بنهيمة، فيما هاجر شقيقه الدكتور محمد بنهيمة إلى وزارة الداخلية، في وقت توقفت فيه المشاورات مع الأحزاب السياسية، لتعود لاحقا بعد تعيين الوزير الأول القادم أحمد عصمان. بيد أن كريم العمراني سيعتلي الواجهة بعد مرور حوالي عشر سنوات على رأس حكومة تشكلت في عام 1983 بعد ذهاب الوزير الأول الأسبق المعطي بوعبيد، وقد ضمت زعماء الأحزاب السياسية كوزراء دولة، في مهمة تروم الإشراف على انتخابات 1984. في تلك الفترة، كان إدريس البصري يواصل مهامه كوزير للداخلية، وكان عبد الواحد بلقزيز قد عين وزيرا للخارجية، فيما تولى عبد اللطيف الفيلالي وزارة الإعلام، واستمر الدكتور عز الدين العراقي على رأس وزارة التربية الوطنية، التي لم يغادرها بعد تنحي حزب الاستقلال عن الحكومة في أعقاب احتجاجه على الظروف التي شابت الانتخابات، وقد استمرت الحكومات المتعاقبة برئاسة محمد كريم العمراني فترة طويلة، تخللتها المرحلة التي تولى فيها الدكتور عز الدين العراقي منصب الوزارة الأولى، ثم عاد رجل الأعمال من جديد إلى نهاية عام 1993، مع فارق في المكونات والمعطيات السياسية، ليس أقلها حدوث تطورات في المشهد السياسي، ولم يكن لغياب العمراني عن تولي أي مسؤولية حكومية منذ عام 1972 إلى عام 1983 أي تأثير على مساره، باستثناء أنه لدى دعوته إلى الواجهة اصطحب معه رجالا عملوا إلى جانبه في المكتب الشريف للفوسفاط. سئل الوزير الأول الأسبق كريم العمراني مرة عما يروق له قراءته، فرد بعفوية أنه معجب بحكايات «تان تان»، في إشارة إلى عزوفه عن الجدل السياسي، غير أنه مارس السياسة على طريقته التي تجمع بين حدس رجل الأعمال ورؤية السياسي، الذي يتدثر وراء مصالح حزبية أو فئوية، غير أنه ظل دائما يبتعد عن المعارك السياسية الموجعة ويختار الطريق الأسهل التي يكون متأكدا أن في نهايتها أكثر من مخرج.