شنغهاي تسير بسرعة تتطور كل يوم، ولعل أحدا لن يستطيع مجاراتها، وإن راودته الرغبة في ذلك فسيظل يلهث وراءها دون طائل.. كل يوم ناطحة سحاب جديدة وبناية جديدة ومشروع جديد وشركة عالمية تفتح فرعا لها.. كل ذلك يغير سنويا من خريطة المدينة. خلال زيارة لشنغهاي، يتضح للزائر أن الصين تسير بسرعة جنونية نحو تسلم مقاليد قيادة العالم، فهناك رغبة حثيثة في أن تصير الصين القطب الاقتصادي الأول في العالم، والانطلاقة ستكون من مدينة شنغهاي التي تؤكد جميع المظاهر الانتقالية التي تعيشها أن المسؤولين الصينيين يرغبون في جعلها أفضل وأجمل مدينة في العالم، بل وأنشطها تجاريا. شنغهاي مدينة صينية تمتلك رزمة من الأرقام القياسية، فهي صاحبة أكبر كثافة سكانية في العالم، وصاحبة أحدث مطار في آسيا، وأسرع قطار مغناطيسي، وأعلى ناطحة سحاب، وأكبر عدد منها، وأعلى برج للتلفزيون في العالم، وأطول شارع للتسوق وأوسع ميناء في القارة.. فأين يكمن السر في هذا التطور الحضاري الذي عرفته شنغهاي؟ مطار شنغهاي بودونغ بداية المفاجأة عندما حطت الطائرة على مطار شنغهاي بودونغ الدولي، كان المطار ذاته أول مفاجأة اكتشفتها، حيث وجدنا مطارا ينافس المطارات الأوربية والأمريكية الأكثر تقدما، ويعتبر محورا رئيسيا لحركة الشحن الجوي في العالم. قبل افتتاحه، كان مطار هونغكياو الدولي هو المطار الرئيسي لشنغهاي، وكان من المستحيل القيام بتوسعته بسبب النمو الكبير الذي تشهده المناطق الحضرية المحيطة. وقد جهز مطار شنغهاي، الذي يغطي مساحة 40 كلم مربعا ويبعد بحوالي 30 كيلومترا عن وسط مدينة شنغهاي، بأحدث التقنيات للتفتيش والتأكد من الهوية، كما زود بكاميرات وآلات رقمية متطورة ترصد الداخل والخارج من المطار. من قرية صيد إلى مدينة تجارية لن تستوعب وأنت تتجول في شنغهاي، أو «فوق البحر» وهو معنى اسمها باللغة العربية، أن التطور الكبير الذي تعرفه يصل عمره بالكاد إلى 30 سنة وأن عمرها لا يتجاوز 200 سنة. ساعدها موقعها المتميز على التحول من قرية صيد صغيرة مجهولة الذكر في كتب التاريخ الصيني العريق إلى المدينة الأشهر في الصين. والحكاية كلها بدأت سنة 1842 بعد «اتفاقية نانكين» التي وضعت حدا لحروب الأفيون بين بريطانيا والصين، حيث أصبحت «شنغهاي» منطقة امتيازات بريطانية، ثم تحصلت دول أخرى كفرنسا والولايات المتحدة، على امتيازات مماثلة في المدينة. وشجع هذا المناخ العديد من البنوك والشركات التجارية العالمية على الاستقرار في هذه المنطقة الخاصة التي كانت تقع تحت الإدارة الغربية. ومع حصول بريطانيا على حق الإبحار في نهر «يانغتسي» سنة 1857، عرفت التجارة في شنغهاي ازدهارا حقيقيا، وأصبح ميناؤها من أنشط الموانئ في الصين، ومعه تدفقت الأصول الأجنبية على الصناعة المحلية. وقد كانت اليد العاملة الرخيصة والوفيرة من أهم الأسباب في ذلك. كما أن الحرب اليابانية الصينية الأولى، التي انتهت بتوقيع معاهدة شيمونوسيكي، أدت إلى تدخل اليابان كقوة أجنبية جديدة في شنغهاي، حيث بنت أول المصانع هناك. الطائر الذي ينبعث من رماده عاشت شنغهاي مدا وجزرا قبل أن تعود، بعد مرحلة ركود، إلى الواجهة مع الثورة الثقافية الصينية واستيلاء قوات ماو تسي تنغ عليها، حيث عرفت ومنذ خمسينيات القرن العشرين حيوية جديدة أعادت إليها دورها الريادي، فقد شرع في تطبيق إصلاحات مع تنصيب حكومة مدنية عام 1979، زاد بفضلها الإنتاج الصناعي. ومنذ 1990، أطلقت الحكومة المركزية يد الحكومة المحلية في تطوير المدينة وجلب المزيد من الاستثمارات إليها للحد من هيمنة هونغ كونغ على المنطقة. وفي الثامن عشر من أبريل 1990، ومن أجل الدفع بعملية الإصلاح والانفتاح في الصين، أعلنت الحكومة قرارها بدء عملية التنمية في بودونغ بشنغهاي، وكانت هذه المنطقة تعتبر إحدى ضواحي المدينة (شنغهاي)، وكانت الحقول الزراعية على امتداد البصر. واليوم وبعد عشرين سنة، فإن الحقول الزراعية والأراضي العشبية على الضفة الشرقية لنهر هوانغبو حولتها التنمية إلى مناطق حديثة. ناطحات سحاب وحدائق خضراء يمكنك رؤية البنايات الضخمة وناطحات السحاب العملاقة تنتشر في كل مكان. وتحتضن المنطقة المئات من المؤسسات المالية الصينية والأجنبية. كما يمكنك بسهولة رؤية مركز شنغهاي المالي العالمي الذي يرتفع بنحو 492 مترا، وبرج جين ماو الذي يعلو ليصل إلى 420 مترا... وللعلم، فإن ناطحات السحاب يبلغ عددها 4500، وتملك شنغهاي أطول برج في آسيا والثالث في العالم. «كل شيء يتغير في شنغهاي بسرعة -يقول مرافقانا عصام فتح الله الأسعد ومحمد بنعيش، وهما طالبان بإحدى جامعات شنغهاي- فقبل سنة واحدة تغيرت المنطقة بأكملها وبنيت عمارات شاهقة، فإن غبت عن شنغهاي سنة واحدة وعدت فسترى أن هناك تغييرات تجعلك لا تعرف من أين تبدأ وأين تنتهي». وإذا نظرنا إلى عدد السكان، فإننا سنجد أن شنغهاي هي أكبر المدن في الصين، حيث يقطنها أكثر من 16 مليون نسمة، علما بأنه باحتساب الضواحي فإن إقليم شنغهاي يبلغ تعداد ساكنته 35 مليون نسمة. ولحل مشكلة الاكتظاظ، قامت الحكومة الصينية في الخمسينيات من القرن ال20 ببناء 11 ضاحية حول المدينة القديمة، وتحتوي هذه الضواحي على شقق سكنية ومصانع ومزارع ومدارس ومحلات تجارية. ورغم الكثافة السكانية، فإن شنغهاي تظل مدينة نظيفة جدا. وهناك اهتمام بالمساحات الخضراء، فرغم وجود ناطحات سحاب وكثافة سكانية كبيرة فإنك ستلاحظ انتشار الحدائق والمساحات الخضراء وأماكن الترفيه، وممارسة الرياضة أيضا في الشوارع العامة من خلال بعض الوسائل المخصصة لهذا الغرض في كل مكان، وحتى في أفقر أحياء شنغهاي هناك متنفس طبيعي عبارة عن متنزه لنبات البامبو الشهير. تمتلك شنغهاي مطارين، هما مطارا هونج كياو وباندونج الدوليين. الأخير يصنف على أنه الثالث في الصين من حيث كثرة الرحلات الجوية، وهو يسمح بمستويات جوية أعلى للرحلات الدولية أكثر مما هو عليه الحال في العاصمة بكين. شارع نانجينغ للموضة والجمال يعد من أكثر الشوارع حيوية بشنغهاي ويمتد على أكثر من 5 كلم ويحتضن أكثر من 600 من «المولات» التجارية الضخمة، وداخلها تسجل علاماتُ الموضة والجمال من باريس وميلانو ولندن ونيويورك ومدريد حضورها بقوة، حتى إن شنغهاي أصبحت تحتضن ال«week end fashion» بحضور فنانات هوليود العالميات. حضور العلامات انعكس على سكان شنغهاي الذين أصبحوا يسايرون أحدث خطوط الموضة العالمية ليختفي تماما الزي التقليدي من الحياة العامة وتحل ملحه تصاميم إيف سان لوران وديور وماسيمو دوتشي وفيرجامو مارك جاكوبس وغيرها من أسماء دور الأزياء العالمية.. هناك هوس بالموضة في شنغهاي وهناك طبقة قادرة على شراء أغلى الماركات العالمية، وحتى تلك التي لا تستطيع فإنها تتجه صوب الماركات المقلدة التي تتفنن بعض الشركات الصينية في تقليدها بدقة متناهية. شارع باوند الأوربي والمدينة القديمة في شارع بوند بالجهة الأخرى من ضفة نهر هوانغبو، تكثر المباني ذات النمط الأوربي، خاصة الفرنسي والبريطاني، حتى إنه ليخيل إليك أنك في أحد شوارع باريس أو لندن التي شيدت في القرنين الماضيين. أما في «أولد تاون» أو المدينة القديمة فإنك تجد البنايات الصينية التقليدية بألوانها الحمراء والسوداء والذهبية التي يتسابق السياح من أجل أخذ صور بجانبها كأنها متحف في الهواء الطلق.
مسلمو شنغهاي إلى جانب الجالية المسلمة بشنغهاي، هناك مسلمون صينيون يمارسون شعائرهم الدينية بمساجد المدينة، وفيها يعقدون الاجتماعات لتعلم القرآن الكريم وتفسيره. وقد صادف وجودنا هناك أن كان اليوم يوم جمعة، حيث وجدنا الخطيب يلقي خطبته باللغة الصينية والعربية أيضا. وتعطي الحكومة الصينية المسلمين يوما واحدا كعطلة في عيد الفطر و3 أيام في عيد الأضحى، وتمتعهم بالحرية في ممارسة العبادات والتعلم، ويتوجه 2.000 مسلم صيني كل عام إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج بموافقة الحكومة الصينية، وقد ترجمت في الصين مؤخرا الكثير من الكتب الإسلامية إلى اللغة الصينية. إكسبو 2010.. الرهان الأكبر يؤكد الجميع أن الصين كما أبهرت العالم قبل عامين في أولمبياد بكين 2008 حين قدمت عرضا احتفاليا مذهلا في ملعب «عش الطائر» بتكلفة تخطت ملياري دولار، عادت لتبهر العالم مجددا بافتتاح معرض شنغهاي إكسبو 2010. تقوم فكرة تلك المعارض العالمية على توفير بيئة ومناخ يلتقي فيه العالم ليتبادل الخبرات، الثقافات، الأفكار والمعلومات من أجل تطوير كوكب الأرض، لذا تجمعت 190 دولة و50 منظمة إنسانية في شنغهاي إكسبو على مساحة 5.28 كلم مربعة. ومن أجل تحقيق ذلك، قامت كل دولة ببناء معرض خاص بها تعبر من خلاله عن شخصيتها وهويتها، فتنافست الدول للإنفاق على معارضها لترسم صورة جيدة عن نفسها أمام العالم. وقد أنفقت الصين -حسب الأرقام المنشورة- 58 مليار دولار على البنية التحتية من أجل استقبال هذا الحدث، لأنها وعدت بأن تجعل من شنغهاي إكسبو 2010 حدثا لا ينسى، وقد أوفت بعهدها وكسبت الرهان وغمزت للعالم بأنها قادمة وبقوة محققة مقولة كانت ترددها دائما مفادها: «عندما يستيقظ التنين الأصفر من سباته العميق سيزلزل العالم»، واليوم التنين يستيقظ ببطء ويحدث رجة، أما الزلزال فقادم، كما يؤكد خبراء الاقتصاد، حين يفتح التنين عينيه كليا ليقود العالم.
«المساج».. دعارة مقنعة موجهة للأجانب كما للثراء الفاحش مكان في شنغهاي للفقر المدقع مكان أيضا، وخلف الوجه البراق لشنغهاي هناك وجه بشع يبدأ في الظهور مع إسدال الليل لستائره، حيث تبدأ جموع من المراهقين الشبان، تسخرهم وكالات متخصصة، في تعقب كل أجنبي ودس بطاقات صغيرة تحمل صور فتيات جميلات يقدمن خدمات جنسية 24/ 24 تحت غطاء حصص من «المساج» أو التدليك الصيني. هؤلاء الفتيات تفتح لهن الفنادق والشقق المفروشة أبوابها بكل سهولة لأداء خدماتهن، مما يدل على وجود علاقات بين شبكات الدعارة والفنادق والشقق المفروشة. ويبلغ المقابل المادي لمجموع هذه الخدمات في الساعة الواحدة، حسب ما هو مدون في البطاقة، ما بين 80 و100 يوان صيني. وعلى الرغم من أن الدعارة غير مشروعة في الصين، فإنه من بين كل خمسة محلات تدليك هناك -وفقا لوسائل الإعلام الرسمية الصينية- واحد على الأقل يمارس أعمال دعارة، ويزداد العدد بالمدن الصينية الكبرى. يؤكد بعض العارفين بخبايا سوق الدعارة بشنغهاي أن أغلب الفتيات إما جامعيات دفعتهن الرغبة في مجاراة الموضة والجمال إلى الارتماء في حضن الدعارة، أو ريفيات دفعهن الفقر المدقع إلى ذلك لإعالة أنفسهن وعائلاتهن. بيوت الدعارة، المنتشرة بشكل كبير في شنغهاي، هي ضريبة الانفتاح وما تشهده الصين من تغيرات عميقة طالت القيم الاجتماعية في السنوات العشرين الأخيرة. فمع اعتماد الاقتصاد الصيني على قوانين السوق منذ الثمانينيات، ازداد عدد رجال الأعمال الأثرياء والنساء الشابات الفقيرات، مما زاد من حجم العرض والطلب في قطاع الدعارة. ضريبة أخرى يدفعها الانفتاح وانتشار دور الدعارة في شنغهاي، ومدن صينية أخرى، هي أنه خلال عام 2008 ولد على رأس كل ساعة أكثر من طفل مصاب بمرض السفلس الخلقي، ووصل عددهم الإجمالي إلى 9480 في السنة، مما يعني أن هذا العدد قد زاد 12 مرة في السنوات الخمس الأخيرة نقلا عن المركز الوطني لمكافحة الأمراض المنقولة جنسيا في نانجينغ. ويرث الأطفال هذا المرض إما من أمهاتهم المومسات أو من الآباء إن كانوا مثليين جنسيا.