أحدث هابرماس ثورة حقيقية في الفكر المعاصر من خلال رصانة فكره وعمق تحليله، الذي يجمع فيه بين متانة التكوين النظري والتوجه العلمي الحامل لهموم عصره. شكل الرجل نقطة ضوء براقة في عالم الفلسفة الفسيح واعتُبر امتدادا للفكر الفلسفي الألماني كما تجلى مع مفكرين أفذاذ من قبله. كان واحدا من الذين نظروا إلى مفهوم الحداثة من داخل الممارسة الغربية لها. شكل النقدي والمعياري في كتابات هابرماس سمتين أساسيتين تميز بهما عن غيره، فظل إذن وفيا لتقليد فلسفي ألماني عهدنا فيه قوة البنيان ومتانة البناء. من الصعب أن نقدّم «بطاقة تعريف» فلسفية لهابرماس في بعض جمل، فقد راكم الرجل، منذ نصف قرن ونيف، عشرات الكتب وصنّف، وما يزال، تآليف عدّة، عارضا ومعترضا، منافحا ومساجلا، وفي ميادين شملت تاريخ الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس واللسانيات والسيمياء والتاريخ والسياسة، وهو ما يجعل من قراءته أمرا غير يسير، فكيف بتلخيصه وتركيبه؟! لكنْ، إن شئنا التقديم الموجز، سنقول إنّه واحد من المرجعيات الكبرى للفكر المعاصر، ومرجعيته وأهميته هاتان تنبعان من كونه الممثلَ الأقوى، ولعلّه الأخير، للتقليد الفلسفيّ الألماني وسِمته البارزة: الجمع بين التكوين النظري المتين والتوجّه العملي المنخرط في هموم عصره.. تتوزّع اجتهادات هابرماس وكتاباته، إنْ كان لنا أن نُصنّفها، عموما، على محورين اثنين، أوّلهما «نقديّ» ذو نفحة ماركسية، نجمع فيه مجمل ما كتبه قبل كتابه الأمّ «نظرية الفاعلية التواصلية». ثم آخر «معياريّ»، ذو نفحة كانطية، نجمع فيه ما ألّفَه بعد هذا النص، وخصوصا ما ألفه في الفترة الأخيرة: «كتابات سياسية»، «القانون والديمقراطية»، «القانون والأخلاق»... ورغم هذا الفصل الذي يُميّز بين هابرماس «ماركسيّ» وآخر «كانطيّ»، فإنّ عناصر قد ظلت تجمع بين المرحلتين، الشباب والنضج، عناصر تعود إلى سبب أعمق، في نظرنا، هو الأصل الفلسفي الذي صدر عنه هذا الفيلسوف والأفق النظري الذي تكوّن فيه، وهو ما يُعرَف اختصارا ب«النظرية النقدية». ارتبط اسم هابرماس بما عُرِف باسم «النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت». ومهما يكنْ من أمر بخصوص كونه يشكّل امتدادا للتراث النظري لهذه المدرسة أو قطيعة معه، فإنّ الباحث لا يجد بدّا من إثبات وشائجَ قويةٍ واصلة بين ما خلّفه رواد هذه المدرسة الأوائل وبين ما يكتبه هو. أوّل هذه الروابط مزاوجته بين كونه عالمَ اجتماع وفيلسوفا، وتلك سمة ميّزت أسلافه من فلاسفة النظرية النقدية. وثانيها نفوره من النزعة العلموية الوضعية واستحضاره الدائم التراث الفلسفي الألماني، كأساس لكلّ فلسفة اجتماعية ممكنة. وثالثها انتصاره للنقد، كأهمّ خاصية تسِم الفكرَ الفلسفي المعاصر (مجدي الجزولي). على أنّ مقصود هابرماس بالنقد، وبالتالي بالنظرية النقدية، مختلف كثيرا عن مقصود أسلافه منها، وهو الاختلاف الذي يتبدّى واضحا في تصنيفه الخاص لأنواع المعارف وغاياتها الفلسفية والأخلاقية. يُميّز هابرماس في كتابه «المعرفة والمصلحة» بين ثلاثة أصناف من المعارف تقابلها ثلاثة أنواع من المصالح، أوّلها المعرفة العلمية التجريبية التحليلية (العلوم الرياضية والفيزيائية وتطبيقاتها)، وتمثل العلوم ذات البعد المصلحي التقني، وهدفها السيطرة على الطبيعة لصالح حاجات الإنسان، وعمادها في ذلك العقل الأداتي. ثانيها المعارف العملية، ممثلة في العلوم التاريخية والتأويلية (كل العلوم التي تحقق التفاعل البشري، علوم اللغة مثلا)، والتي تكون غايتها تحقيق التواصل والتفاعل بين الناس، في إطار عمومي، وعمادها العقل التواصلي. وثالثها المعارف التحريرية (العلوم الاجتماعية والفلسفة)، والتي هدفها تمكين الناس من التحكم في دواليب السلطة والمجتمع وتحريرهم من الاستلاب، بمعناه العام، وعمادها العقل النقدي، إذ النقد هو أفق الفكر والمعرفة عند هابرماس، تماما كما بين ماركس، الذي كان «أولَ من حاول أن يجعل من إرادة صنع التاريخ المسلّمةَ التي تكون بها المعرفة ممكنة»، وهذه هي الحسنة الكبرى للماركسية التي تشكل، ولهذا السبب بالذات، النموذجَ الأمثل لكل فلسفة نقدية مستقبلية (عياض بنعاشور). ويكشف هابرماس، ومنذ البداية، أنّ همّه النظري وغايته الفلسفية مندرجان في إطار النوع الثالث من المعارف تحديدا، ولهذا كان من أسماء نظريته «العقلانية النقدية»ّ. ويحدد هابرماس المهامَّ الأساسية لهذه العقلانية النقدية في ثلاث أساسية: الانتصار للتكامل في الرؤية العلمية، بدل التجزيء. بيان ما يمثل العنصر الجامع والكوني في المعرفة العلمية وكشف العناصر التي تجعل من الممارسة العلمية نشاطا جامعا بين الثقافات على اختلافها. الانتصار للنقد الجذري، ببعديه الإيديولوجي والمعرفي، ضد دعوى «الاستقلالية الوهمية للنظريات (...) عن الشروط العملية التي ولدتها». لكن هذه «العقلانية النقدية» لن تستطيع أن تحقق هذه المهام وأن تكون فاعلة في زمنها ما لم تنفتح على مجمل علوم عصرها وما لم تحاول أن تتبنى «استراتيجية تركيبية»، أي ما لم تكن «بحثا متعدد الاختصاصات تتمفصل فيه فلسفة مغذّاة بالعلوم الوضعية والاجتماعية على الخصوص، بوعي نظري واضح بالغايات والأهداف التي نروم تحقيقها». ومن هذا المنطلق، لا تبقى الفلسفة مجرد مذهب فردي أو اختيار ذاتي، بل تتحول إلى مشروع مجتمعي سياسي بمهام تاريخية محدَّدة. إذا كان النقد هو الأفق الوحيد الممكن للفلسفة، في زمن العالم المعاصر، وكان التحرر من النزوعات والقوى اللاعقلانية التي تؤسس لها «الإيديولوجيا» العلموية و«ثقافة» الاستهلاك هي المهمة التي ينبغي أن نوجه نحوها نظرنا، فما الأساس الفلسفي الذي ينبغي الاستناد عليه؟ وفي ظل أيّ تصور ممكن للعقل يمكننا أن نعمل؟ وبغاية أي نموذج للمجتمع ينبغي أن نناضل؟.. تعني العقلانية عند هابرماس أمرين اثنين: المنافحة عن العقل باعتباره الملاذَ الوحيد والأوحد، مع الوعي بضرورة تجديده، بنقل عنصر الثِّقَل فيه من المسلك الأداتي إلى الحوارية التواصلية القائمة على النقد، ثم بالبحث في هذا العقل ذاته عن عناصر تُمكِّننا من لحم التمزُّقات التي خلقتها الحداثة على مستوى المشروعية السياسية والأخلاقية، باجتراح أسس منه تكون كونية ومتعالية في طبيعتها. غير أن فهم هذا الشق «التأسيسي» في فكر الرجل (التأسيس لنظرية في التواصل باعتماد مبادئ العقل الأنواري، بقصد خلق مجال عمومي يشتق شرعيا) لا يتأتى ما لم نستحضر الشق الآخر «النقدي» فيه (النقشات التي فتحها مع ما يسميه هو إجمالا «النزعات اللاعقلانية»). واللاعقلانية عند هابرماس هي وصف ينطبق عنده على كل النزعات الفلسفية والسياسية التي تناهض الحداثة، إما في صورتها الوضعية، والتي تجسّدت في النزعات التي تستبعد كل الأبعاد النقدية في العقل الأنواري، بالتركيز وعلى بعده الأداتي «التقني»، أو في صورة نزعات «نسبية» وشكية ترفض عقل الأنوار برُمّته، إما باسم الاختلاف أو باسم الطوباوية أو التصوف. تسقط النزعة الأولى (الوضعية) في ما يسميه هابرماس «التعطيل»، إذ إنها تحول العقل من قوة تشريعية وطاقة ثورية إلى مجرد حساب وتطبيق باسم «منطق الأشياء»، وباسم «الموضوعية» التي تحددها «الحواسيب». وتسقط النزعة الثانية (الشكية) في التناقض، لأنها تدعو إلى نبذ العقل الحداثي الذي هو، من منظورها، «قمعي» في جوهره، ودليلها في ذلك ما انتهى إليه القرن العشرون من كوارث، ولكنها تتناسى، من منظور هابرماس، أنها تعتمد العقل ذاتَه في نقد هذا العقل «القمعي» وأنها، بانتصارها للاعقل، تفتح باب القمع والتطرف على مصراعيه، فالقمع والتطرف لا يحضران إلا حيث يغيب نور العقل. العقل، إذن، هو العمدة عند هابرماس، هو أساس النظرية الاجتماعية (مجتمع التواصل) والسياسية (الديمقراطية الحوارية)، وهو السلاح الأقوى في مواجهة النزعات اللاعقلانية، فلسفية كانت أو علموية. والحقيقة أن هذا الإيمان العميق بالعقل لا يفتر عن الرجل قط، بل نحن نجده يزداد مع تقدم مشروعه، وهذا ما يتبدى بوضوح في أعماله المتأخرة، خصوصا نص «droit et démocratie»، الذي هو محاولة جريئة لتأسيس عقل عملي معاصر، يكون أساسا «أخلاقيا» يحكم العملية التواصلية في المجتمع. ولعل هذا الطموح المعلَن هو الذي دفع بعض الدارسين إلى نعته ب«المثالي» وب«الكانطي الجديد»، الذي تعود أصول فلسفته إلى الميتافيزيقا الألمانية (مجدي الجزولي). الحداثة وإسقاطاتها الإنسانية ما الداعي إلى تناول موضوع الحداثة دون الإشارة، دوما، إلى آثارها على العيش وعلى الإنسان، وهو ما يصطلح عليه ب«إنسانية» الحداثة أو إسقاطاتها الإنسانية؟ بعدما رأينا كيف أن العقل الحداثي -طيلة قرون من تطوره- وصل إلى مستوى من العقلانية، أساسها التحليل العلمي والاستدلال الرياضي لظواهر الطبيعة، وكيف حصل ذلك التفاعل الجدلي ما بين التقنية العلمية والعقل العلمي. وصلنا هنا إلى الاستفسار ومحاولة الإجابة عن آثار هذا العقل الحداثي على الإنسان وإسقاطه السيكولوجي (ميشيل فوكو) على الفرد وعلى المجتمع، ما دام العقل واللاعقل، المنطق واللامنطق، الوثوق والنسبية، الحرب والسلم، تسكن جنبا إلى جنب، حتى بعدما أعلن الإنسان الحداثي قطعَ علاقاته مع الغيب والعنف والجهل (ج. دريدا). الزمن الحداثي هنا وهناك.. دائما ما تكون النزعة الأخلاقية المثالية هي أصل المقارنات ما بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة، وخصوصا بين المجتمعات «الحداثية» وتلك التي لم يكتمل بنيان صرح الحداثة فيها. ولم تُعطَ للمعيش اليومي أهميتُه الفلسفية (أعمال هنري لوفيبر، مثلا) إلا باعتباره مختبر تحليل إسقاطات الحداثة وتقديم إطارات جديدة لنقدها، وخصوصا على المستوى الذي تم به تقويض مفهوم المكان (كمعطى فلسفي جامد وقيمة أنطولوجية متحكمة في إنسان القرون ما قبل الحداثية) وتعويضه بزمان متحرك لا مجال فيه لمكان بذاته، تم تطويره بالسردية (تواتر الأمكنة غير الموجودة عبر الكتابة والحكي بعد عصر الطباعة)، والنفعية (المكان النافع هو الذي نتحرك فيه في زمن سريع لامتلاكه)، والنسبية (المكان ليس سوى تشخيص لمتوالية من الأزمنة الجزئية)، والافتراضية (بإنتاج المكان الافتراضي بعد ثورة المعلوميات الرقمية). جعلت هذه الحداثية الصيرورة الوجودَ زمنا عقليا رياضيا: مواعيد القطارات، طوابير الأداء الإلكتروني، انضباط المصاعد الآلية، اتساق البرمجة التلفزية، تتالي الدوريات الرياضية... كلها مظاهر لتحوُّل الزمن إلى متتالية رياضية من الأحداث المنتظمة والمشفَّرة، بشكل تجريدي وتراجيدي متصاعد. ومن تم، فالإنسان الحداثي هو -زمنيا- كائن رياضي (لمقعده رقم، لأجرته رقم، لسيارته رقم، هو مجهول كشخص لكنه مشفَّر في الأنظمة المعلوماتية لأجهزة الدولة تحت رقم معين، وتتحول انتظاريته في طوابير الخدمات العمومية إلى رقم وقبره في النهاية يحمل رقما...) يتحرك في زمن متسق ودوري. لم تفلح المجتمعات غير الحداثية، إلى حد الآن، في إضفاء الطابع الرياضي على زمنها اليومي، بالرغم من وجود طابع الدورية على الكثير من مظاهره. والزمن غير الحداثي هو زمن غائي موجَّه، وبالتالي لا مجال للحرية فيه، وزمن غيري (الغير هو المتحكَّم فيه) ولا مجال لاتخاذ قرار حُيالَه، ومن تم فهو اعتباطي وغير منظَّم وغير حر وغير ديمقراطي، لأنْ لا أحد من الأفراد يشارك في تحديد محدداته الوجودية. فالحداثة تفرز لدى الإنسان الحداثة والإحساس بأن الزمن ملك له وبأنه آني، مرحلي، مادي، قابل للاستثمار والتوجيه والتعطيل والتسريع، غير لاهوتي ولا غيبي ولا عدمي. والرؤية الاعتباطية للزمن عند غير الحداثيين ووجود قوالب تفسيرية جاهزة وقبلية للزمن، وتحول الزمن إلى مساحة أنطولوجية للاتهام المسبَق (الخطيئة الأولى والنضال الزمني من أجل التوبة) وتقزيم القدرة والإرادة والحرية... كلها مظاهر إخفاق الزمن غير الحداثي، هذا الزمن الجاثم على حياتنا اليومية والحائل دون تمثلنا العقلاني لها. الحداثة: فردانية في خدمة الجماعة.. تطابق المصلحتين الخاصة والعامة وانسجامهما هي سمة الحياة الحداثية، بامتياز، حيث ينعم الفرد في تحقيق حياته الفردية (فردانيته)، وفق نظام جماعي مُنْبنٍ على قوانين وضعية هدفها ضمان مجالات وفسحات رقي الأفراد، مع استفادة الجماعة من ثمرات هذه الفردانية. وكان أدم سميث -أحد أبرز منظري الاقتصاد الرأسمالي- قد أشار إلى أن جوهر الرأسمالية الأصيلة هي استفادة الجماعة من رقي الأفراد وازدهارهم (كلٌّ في حيِّزه الزمني الفردي): البيئة نظيفة للجميع، بفعل التزام الأفراد باحترامها والزمن مفيد للجميع، بفعل احترام الأفراد لضوابطه والقوانين ذات فاعلية لتسيير معيش الجماعة، لأن كل المتعاقدين ملتزمون بتطبيقه. لكن ما سر توافق الفردي والعام في اليومي الحداثي؟ نجد تفسير جزء من ذلك في تاريخ الصدمات والقطائع التي حققها المجتمع الحداثي في التاريخ. القطيعة الأولى هي تحرير الزمن الفردي من الغيرية الدينية وتكليف الإنسان الحداثي بمسؤولياته الفردية الوجودية، حيث هو سيد نفسه وقراره ومصيره. الطفرة الثانية جاءت بفعل نضال سياسي، بعدما تحرر الفرد من لاهوت التاريخ وبدأ الحاضر والحياة، وهُما الزمن الفعلي للسعادة. ومن هنا، جاءت الملكية الفردية لتُرسِّخ، في ما بعدُ، الرغبة في التحرر، لحمايتها وتطويرها والخوف عليها من البطش، باسم اللاهوت أو القوة أو الشرعية العرقية أو التاريخية. والملكية، هنا، هي الوازع المحوري للعلمانية والقوانين الوضعية، حيث اشتاق الإنسان الحداثي (بعد صراع مرير مع الحروب الإثنية والمجاعة والاضطهاد) إلى تأسيس توافقات جديدة لضمان التوازنات السياسية والاقتصادية والدستورية لضمان مصالح الجميع... وهي الحالة التي أفضت إلى مأسسة السياسة بدلا من شخصنتها وانفتاح ممارستها، شعبيا، بدلا من مركزتها نخبويا. فالحداثة كانت -وما تزال- خَلاصا وجوديا حقيقيا وليست محاكاة ولا استلابا حقيقيا..