عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. وأنا عائد إلى المنزل، أسمع هتافا بعيدا يصل أذني بصعوبة. بعد ذلك تبين أنه هتاف المعطلين الذين يطالبون الحكومة بأن تجد لهم عملا. عادت بي الذاكرة ثلاث سنوات إلى الوراء عندما كنت مناضلا لا يشق له غبار في المجموعة الرابعة للمجازين المعطلين. يومها كنت أصرخ وأصرخ إلى أن أفقد صوتي، وأحيانا أفقد الإحساس بعدد من أعضاء جسمي حين تنهال علينا هراوات الأمن إلى درجة نعتقد معها أن أفراد الأمن لهم عداوة تاريخية مزمنة معنا نحن المعطلين البؤساء، وأننا نحن السبب في عدم الزيادة في رواتبهم وكل المشاكل التي يعانون منها. منذ أن حصلت على الإجازة، انخرطت في جمعية تضم كثيرا من رفاق ورفيقات الدراسة. كنا وقتها نعتقد أننا سنحصل على منصب عمل في اليوم الأول لترديدنا شعارات وهتافات. مرت الأيام والأسابيع والشهور فقدت خلالها الكثير من وزني ولم أستطع استرداده إلى اليوم. كانت الاحتجاجات الأولى رومانسية جدا. صحيح أن الكثير منا كانوا يظلون بلا أكل لساعات طويلة، وصحيح أننا تحملنا الكثير من الصهد والبرد، لكننا كنا مؤمنين بأن النهاية ستكون شبيهة بنهايات الأفلام الهندية. بعض زملائي سقطوا في الحب من أول وقفة، أقصد من أول نظرة. زميلاتنا أيضا أحببن من أول نظرة، وتلاقت العيون مع العيون، والحناجر مع الحناجر، واعتقد كل واحد منا أن حفل زفافه قريب، وأقسم كل عاشق لحبيبته بأنه سيجري مثل سعيد عويطة عند العدول في أول يوم لحصوله على عمل لكي يقترن بها، فكبرت الأحلام، وهي في الواقع لم تكن سوى أوهام. مع مرور الوقت، بدأ اليأس يدب في نفوسنا، وتعرضت مجموعتنا إلى نكسة حين خرج منها ثلاثة من أصلب المناضلين، واحد تزوج من ابنة خالته وذهب إلى إيطاليا، والثاني حرك في باطيرا وغادر نحو إسبانيا، ولا ندري إلى اليوم هل وصل فعلا إلى تلك الأرض الموعودة أم أنه كان طعاما لأسماك القرش، أما الثالث فإنه غادرنا إلى حيث يغادر كل الخلق. لقد كان ضحية حادث سير رهيب. كان يسير شاردا في الشارع ساهيا يفكر في حاضره ومستقبله، وبينما هو يعبر الطريق ويفكر في وجبة دافئة في المنزل بعد يوم طويل من الهتاف، ضربته سيارة مجنونة يقودها مراهق أحمق، فأردته قتيلا على الفور، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الغريب أنه إلى اليوم لم تحصل عائلة زميلنا على أي تعويض. نحن نعرف لماذا، لأن ذلك المراهق المعتوه هو ابن وزير وكان ينفّح الكوكايين باستمرار، والجميع يعرف أنه كان مخدرا وقت الحادث وفي سيارته كان يوجد كوكايين، لكن الأمن دفن القضية لكي يخرج ملفه أبيض مثل بقايا الغبرة التي كانت في أنفه. عندما وقعت الحادثة وتوفي زميلنا، سافر المراهق إلى فرنسا، وهناك بقي عاما كاملا، بينما أسرة زميلنا صرفت كل فلس لديها وهي تتنقل بين الإدارات والمحاكم، والجميع يحتالون عليها، وحين بردت القضية، أصدر قاض معتوه حكما يقول إن زميلنا المتوفى رحمه الله، كان يمر في مكان غير مخصص للعابرين، وأن ابن الوزير حاول ما أمكن تجنب الحادثة، وحكمت المحكمة ببراءة ابن الوزير وانتهى كل شيء. سوف أخجل من أن أحكي لكم ماذا تفعل أخت زميلنا المسكين. إنها لا تقف بعيدا عن نفس المكان الذي توفي فيها شقيقها الأكبر. سوف تقولون ماذا تفعل هناك، وسأقول لكم إنها تقف هناك كل ليلة في انتظار زبون نتن تبيع له جسدها. حلم الأسرة قتله ابن الوزير منفّح الكوكايين الذي خرج براءة، وعلى الضحايا أن يبيعوا أجسادهم وشرفهم من أجل لقمة العيش.